الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني:
معرفة الحسَنِ من الحديث
.
روينا عن " أبي سليمانَ الخَطَّابي " رحمه الله أنه قال، بعد حكايته أن الحديث عند أهله ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي قدمنا ذكرها:" الحسن: ما عُرِفَ مخرجُه "(1) واشتهر رجاله. قال: وعليه مدارُ أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثرُ العلماء ويستعمله عامةُ الفقهاء * " (2).
وروينا عن " أبي عيسى الترمذي " رضي الله عنه أنه يريد بالحسن: " أن لا يكون في إسنادِه [5 / ظ] مَن يُتَّهم بالكذبِ، ولا يكون حديثًا شاذًّا، ويروى من غير وجه نحو ذلك "(3) **
(1) على هامش (ص): [قال المؤلف: المدلس قبل بيانه، والمنقطع ما لم يعرف مخرجه. ففي قوله: ما عرف مخرجه؛ احتراز من ذلك] 2 / ب.
(2)
الخطابي (مقدمة معالم السنن: 6).
قال العراقي: وعامة الشيء تطلق بإزاء معظم الشيء، وبإزاء جميعه. والظاهر أن الخطابي أراد الكل. ولو أراد الأكثر ما فرق بين العلماء والفقهاء " التبصرة 1/ 90.
(3)
الترمذي، في آخر الجامع (13/ 334 مع العارضة) وبه رد العراقي، ثم السيوطي، على العماد ابن كثير، حيث قال في اختصاره علوم الحديث - ص 38 ط 2 - :" وهذا إن كان روي عن الترمذي ففي أي كتاب قاله وأين إسناده عنه؟ ".
- التقييد 45، وتدريب الراوي 1/ 156.
_________
* المحاسن:
" فائدة: معرفة المخرج، يخرج المدلسَ قبل ثباته، والمنقطعَ. لا يقال: إن تم التعريف عند قوله: " رجاله " فالصحيحُ والضعيف كذلك. وإن كان آخرُ الكلام من جملة التعريف والمراد بقولنا: " عليه مدار أكثر الحديث " بالنسبة إلى الأخبار والآثار وتعداد الطرق؛ فإن غالب ذلك لا يبلغ رتبةَ الصحيح المتفق عليه. انتهت " 7 / و.
** " فائدة: هذا قد ذكره الترمذي في (جامعه) في أواخر كتاب العلل منه (1). انتهت " 7 / و.
_________
(1)
الجامع: العلل (13/ 334).
ونقل العراقي في شرحه للألفية قول ابن الموَّاق، أبي عبدالله محمد بن أبي بكر المراكشي: أن الترمذي =
وقال بعضُ المتأخرين: الحديثُ الذي فيه ضعفٌ قريب محتَمل، هو الحديث الحسَن، ويصلحُ للعمل به (1).
قال الشيخ رضي الله عنه (2) -: كل ذلك مستبهم لا يشفي الغليلَ، وليس فيما ذكره " الترمذي، والخطابي " ما يفصل الحسنَ من الصحيح. وقد أمعنتُ النظر في ذلك والبحثَ، جامعًا بين أطراف كلامهم، ملاحظًا مواقعَ استعمالهم، فتنقح لي واتضح أن الحديث الحسن قسمان:
أحدهما: الحديثُ الذي لا يخلو رجالُ إسناده من مستورٍ لم تحقق أهليتُه، غير أنه ليس مغفلا كثيرَ الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهم بالكذبِ في الحديث، أي لم يظهر منه تعمُّدُ الكذبِ في الحديث، ولا سبب آخرُ مُفسق، ويكونُ متنُ الحديث مع ذلك قد عُرِفَ، بأن رُوِيَ مثلُه أو نحوُه من وجهٍِ آخرَ أو أكثرَ، حتى اعتضد بمتابعةِ مَن تابع راويه على مثله. أو بما له من شاهدٍ، وهو ورودُ حديثٍ آخر بنحوه، فخرج بذلك عن أن يكون شاذًّا ومنكراً. وكلام " الترمذي " على هذا القسم يتنزَّل.
(1)" وأراد المصنف ببعض المتأخرين هنا: أبا الفرج ابن الجوزي، فإنه قال هكذا في كتابيه الموضوعات والعلل المتناهية " تقييد العراقي 45.
وقوبل على ابن الجوزي في الموضوعات، المقدمة 1/ 35.
- وعلى هامش (غ) بخط الفاسي، طرة من ش / أصل الشيخ شمس الدين ابن جميل /:[قوله: " فيه ضعف قريب محتمل " ليس مضبوطًا بضابط يتميز به القدر المحتمل من غيره. وإذا اضطرب هذا الوصف لم يحصل التعريف المميز للحقيقة].
(2)
في (ص): [قال الشيخ المؤلف رضي الله عنه ونفع به المسلمين] 2 / ب، وفي العراقية:[قلت]. وحيث يعلق ابن الصلاح على ما يورده في المتن من أقوال غيره، يأتي التعليق غالبًا في نسخة (غ) بصيغة: قال الشيخ - أبقاه الله -. وفيما يلي من (ص): قال المملي رحمه الله. وفي (ز) والعراقية: قلت. والضمير فيه لابن الصلاح.
وقد اكتفينا في المتن بعبارة (غ). ونستغني بهذا التنبيه، عن ذكر اختلاف النسخ في صيغة هذه العبارة.
_________
= لم يخص الحسَنَ بصفة تميزه عن الصحيح، فلا يكون صحيحًا إلا وهو غير شاذ، ويكون رواته غير متهمين بل ثقات، قال: فظهر من هذا أن الحسَنَ عند أبي عيسى صفة لا تخص هذا القسم بل قد يشركه فيها الصحيح. . فكل صحيح عنده حسن وليس كل حسن عنده صحيحًا ". وعقب العراقي: " قال أبو الفتح اليعمري: بقي أنه اشترط في الحسَنِ أن يروى من وجه آخر، ولم يشترط ذلك في الصحيح ".
(التبصرة 1/ 85) وقوبل على أبي الفتح اليعمري في (شرح الترمذي: ل 7 / ب مخطوط تركيا).
القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجةَ رجال الصحيح، لكونِه يقصُر عنهم في الحفظ والإِتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال ِ مَنْ يُعَدُّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا، ويُعتَبر في كل هذا، مع سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا ولا منكرًا. سلامتُه من أن يكون مُعَلَّلاً.
وعلى القسم الثاني يتنزل كلامُ " الخطابي "(1).
فهذا الذي ذكرناه، جامعٌ لما تفرق في كلام مَن من بلغنا كلامُه في ذلك. وكأن " الترمذي " ذكرَ أحد نوعي الحسن، وذكر " الخطابي " النوع الآخر، مقتصِرًا كلُّ واحدٍ منهما على ما رأى أنه يُشكِل، مُعْرِضًا عما رأى أنه لا يشكل، أو أنه غفل عن البعض وذهل، والله أعلم.
(1) نقل العراقي قول الشيخ تقي الدين - ابن دقيق العيد - في (الاقتراح) بعد أن حكى تعريف ابن الصلاح للحسن: " وعليه فيه [مباحثات] ومناقشات " ونقل بعده عمن لم يسمه من المتأخرين، قال: يَرِدُ على القسم الأول المنقطع والمرسل الذي في رجاله مستور وروى مثله أو نحوه. ويرد على الثاني المرسلُ الذي اشتهر رجاله بما ذكر. قال: فالأحسن أن يقال: الحسن ما في إسناده المتصل مستور، له به شاهد أو مشهود، قاصر عن درجة الإِتقان، وخلا من العلة والشذوذ، والله أعلم. (التقييد: 47).
قابل على (الاقتراح 169 - 170) ط بغداد 1402 - 1982 م.
_________
(*) المحاسن:
" فائدة وزيادة: نوع الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر، كأن شيئًا ينقدح في نفس الحافظ قد تقصر عبارتُه عنه، كما قيل في الاستحسان، فلذلك صعب تعريفُه. ولا يقال: ما نسب إلى الخطابي والترمذي وأحمد، من جهة أن قول الخطابي: ما عرف مخرجُه، كقول الترمذي: ورُوِي نحوُه من غير وجه. وقل الخطابي: " اشتهر رجاله " يعني بالسلامة من وصمة الكذب، هو كقول الترمذي: " ولا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب ".
لأنا نقول: اشتهار الرجال أخصُّ من قول الترمذي: " ولا يكون في إٍسناده من يتهم بالكذب " لشموله المستور. ولمَّا تَبَاينا تنزَّلا على القسمين السابقين. وبعض المتأخرين - فيما سبق - يُشبه أن يكون ابنَ الجوزي قد ذكره في كتاب (الموضوعات).
وما نسب إلى الترمذي لا يُفْهَمُ من اصطلاحه في (جامعه)، لقوله في كثير =
هذا تأصيل ذلك، ونوضحه بتنبيهاتٍ وتفريعات:
أحدُها: الحسَنُ يتقاصَرُ عن الصحيح، في أن الصحيح من شرطه أن يكون جميعُ [6 / و] رواته قد ثبتت عدالتُهم وضبطُهم وإتقانُهم، إما بالنقل الصريح أو بطريق الاستفاضة، على ما سنبينه - إن شاء الله تعالى -. وذلك غير مُشترَطٍ في الحَسن، فإنه يُكتَفى فيه بما سبق ذكره من مجيء الحديث من وجوه، وغيرِ ذلك مما تقدم شرحه. وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية مستبعدٌ، ذكرنا له نصَّ " الشافعي " رضي الله عنه في مراسيل التابعين: أنه يقبل منها " المرسلَ الذي جاء نحوُه مسنَدًا، وكذلك لو وافقه مرسَلٌ آخرُ، أرسله مَن أخذ العلم عن غيرِ رجال ِ التابعي الأول " في كلام ٍ له ذكر فيه وجوها من الاستدلال ِ على صحة مخرج المرسَل ِ، بمجيئه من وجهٍ آخر (1).
وذكرنا له أيضًا ما حكاه الإمامُ " أبو المظفر السمعاني "(2) وغيره عن بعض ِ أصحابِ
(1) الرسالة للإِمام الشافعي: 198 وما بعدها. وقال: " وأما من بعد كبار التابعين، فلا " - 200.
(2)
منصور بن محمد بن عبدالجبار، جد أبي سعد عبدالكريم بن محمد بن منصور، والد عبدالرحيم بن عبدالكريم، ويقع لبس، في الكنية والنسب بين أبي المظفر السمعاني منصور (ت 489) وأبي المظفر السمعاني عبدالرحيم بن أبي سعد، المولود سنة 537 هـ وتوفي بعد 617، وهو شيخ ابن الصلاح الذي ينقل في المقدمة عن: السمعاني، وعن أبي المظفر السمعاني، فيتميز المراد منها بصيغة التحمل: رواية وسماعًا من شيخه عبدالكريم، وحكاية وبلاغًا عن الإِمام أبي المظفر منصور، من فحول أهل النظر. ناظر على مذهب أبي حنيفة ثلاثين سنة ثم تحول شافعيًا فاستحكم في المذهب وطار صيته، وله تصانيف في الخلاف والحديث والرجال. (فوائد حديثية 69 أ).
_________
= من الأحاديث: " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه " وإن كان ذكره صريحًا فهو مخالف لما في (جامعه) إِلا أن ينزل قولُه: " لا نعرفه إلا من هذا الوجه " على اللفظ دون اعتبارِ الشاهد للمعنى. ويُطلَق الأحسنُ على الغريب أيضًا، فقد قال النخَعي:" كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يُخرِجَ الرجلُ أحسنَ ما عنده "، قال السمعاني: عنى بالأحسن الغريبَ. وربما يطلق الحسَن على المنكر. قيل لشعبة: لأي شيء لا تَروي عن عبدالملك بن أبي سليمان، وهو حَسن الحديث؟ قال: من حسنه فررتُ (1) - انتهى " 7 / و، ظ.
_________
(1)
رواه ابن أبي حاتم عن أبيه بسنده إلى أمية - بن خالد القيسي أبي عبدالله البصري - قال: " قلت لشعبة: تحدث عن فلان وفلان، وتدع عبدالملك بن أبي سليمان؟ قال: تركته. قلت: إنه كان حسن الحديث. فقال: من حسنه فررت ". الجرح والتعديل 1/ 146، أقوال شعبة في الرجال.
الشافعي: من أنه: تُقبَلُ روايةُ المستور وإن لم تقبل شهادةُ المستور *.
ولذلك وجهٌ متَّجِه، كيف وأنا لم نكتف في الحديث الحسن بمجردِ رواية المستور، على ما سبق آنفًا؟ والله أعلم.
الثاني: لعل الباحثَ الفَهِمَ يقول: إنا نجد أحاديثَ محكومًأ بضعفها مع كونِها قد رُوِيتْ بأسانيدَ كثيرةٍ من وجوهٍ عديدة، مثل حديث:" الأذنان من الرأس " ونحوه، فهلا جعلتم ذلك وأمثالَه من نوع الحسنِ لأن بعض ذلك عضد بعضًا، كما قلتم في نوع الحسَن على ما سبق آنفًا؟
وجواب ذلك، أنه ليس كلُّ ضعفٍ في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يُزيله ذلك، بأن يكون ضعفُه ناشئًا من ضعفِ حفظ راويه مع كونه من أهل ِ الصدق والديانة. فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجهٍ آخر، عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطُه له. وكذلك إذا كان ضعفُه من حيث الإِرسال، زال بنحو ذلك، كما في المرسَل الذي يُرسِلُه إمامٌ حافظ، إذ فيه ضعفٌ قليل، يزول بروايته من وجه آخر.
ومن ذلك ضعفٌ لا يزول بنحوِ ذلك لقوة الضعف، وتقاعُدِ هذا الجابر عن جَبرِه ومقاومتِه، كالضعفِ الذي ينشأ [6 / ظ] من كونِ الراوي متَّهمًا بالكذب أو كونِ الحديثِ شاذا **
* المحاسن:
" زيادة: وقد اكتفى بالمستور في عقد النكاح، مع اعتبارِ العدالة في شاهدين. وهو ما يؤكد ما سبق. انتهت " 8 / و.
** المحاسن:
" فائدة: لا يقال: ينجبر بأن يروى من وجه صحيح؛ لأن الكلامَ فيما إذا رُوِي بطرقٍ كلُّ منها مثلُ الأخرى في ذلك الضعف. والتمثيلُ بحديثِ " الأذنان من الرس ِ " يعني به: في تعدد طرقه التي لو انفرد كلُّ واحدة منها لكانت ضعيفة. وقد قال " البيهقي " عن الطرق المذكورة: رُوِيَ حديثُ: "
............................................................................................................................
= كلام ِ البيهقي " حديثُ أبي هريرة ـ وأبي موسى، وأنَس ٍ، وابنِ عمر، وابنِ عباس، وعائشةَ، وسلمة بن قيس الأشجعي. وزاد " ابنُ مَنده " في كتاب (المستخرج): عثمانَ بن عفان، وسمرة بن جندب، وعبدَ عمرو
…
ولا يقال: يَرِدُ على " البيهقي، وابن الصلاح " أنه صحَّ من رواية عبدالله بن زيد، التي خرَّجها " ابنُ ماجة " عن سُوَيد بن سعيد - وهو ممن خرَّج له " مسلم " - عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدةَ - وهو متَّفقٌ عليه - عن شعبةَ عن حبيب بن زيد - وقد وثقه جماعةٌ - عن عباد بن تميم - وهو متفق عليه - عن عبدالله بن زيد. ولذلك صححه " ابنُ حبَّان "؛ لأنا نقول: وقع التمثيلُ بطرقٍ متعددة لم يصح شيءٌ منها. وأما حديث ابن عباس " الأذنان من الرأس " فقد رواه " الدارقطني " مع كثير من الطرق السابقة، وقال: كلُّها ضعيفة. ولم يروه من حديث عبدالله بن زيد، لكن قال " ابن القطان ": حديثُ ابن عباس الذي فيه " الأذنان من الرأس " إما صحيح، أو حسن. انتهت " 8 / ظ.
_________
- ما هنا عن البيهقي، في سننه الكبرى 1/ 66.
وابن ماجة: ك الطهارة، باب الأذنان من الرأس، ح (443)، وفي الزوائد: هذا إسناد حسن إن كان سويد حفظه، ثم من رواية حماد بن زيد عن سنان عن شهر عن أبي أمامة (ح 444) ويأتي ما فيها لأبي داود. ثم من حديث عن أبي هريرة (ح 445) بإسناد قال في الزوائد: ضعيف لضعف اثنين من رجاله. وحديث الباب في الترمذي، عن شهر عن أبي أمامة، ومعه في الباب من عدة طرق (1/ 54 مع العارضة) وأخرجه أبو داود في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم من طريق سليمان بن حرب وقتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر عن أبي أمامة، فذكر وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وفيه " الأذنان من الرأس "، قال قتيبة: قال حماد: لا أدري، هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي أمامة؟ (ح 134).
وجمع الدارقطني في كتاب الطهارة من (سننه، ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الأذنان من الرأس " من مختلف طرقه، مرفوعًا وموقوفًا ومرسلا (ح 1 - 47) ما أعله منها وما صححه. وهو في مسند أحمد من حديث شهر عن أبي أمامة مرفوعًا.
وفي (العلل للدارقطني) سئل عن حديث عائشة رضي الله عنها فيه. فذكر رواية عصام بن يوسف عن ابن المبارك عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عائشة، ورواية الفضل بن موسى عن ابن جريج. قال:" وكلتا الروايتين وهم في المتن والإِسناد، والصحيح: عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مضمضوا واستنشقوا، والأذنان من الرأس ". وكذلك رواه الثوري وهمام ووكيع وعبدالرزاق وابن عيينة وأصحاب ابن جريج، وهو الصواب " 5/ 28 خط.
وهذه جملةٌ تفاصيلُها تُدرَك بالمباشرة والبحثِ، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة، والله أعلم (1).
الثالث: إذا كان راوي الحديث متأخرًا عن درجة أهل الحفظ والإِتقان، غير أنه من المشهورين بالصدقِ والسَّتْر، ورُوِيَ مع ذلك حديثُه من غيرِ وجه، فقد اجتمعت له القوةُ من الجهتين، وذلك يرقى حديثه من درجةِ الحسَنِ إلى درجة الصحيح.
مثالُه: حديثُ محمد بن عمرو، عن أبي سلمةَ عن أبي هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:" لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسوَاكِ عند كلِّ صلاةٍ (2) ". فمحمد بن عمرو بن علقمة من المشهورين بالصدق والصيانة، لكنه لم يكن من أهل ِ الإِتقان، حتى ضعَّفه بعضُهم من جهة سوء حفظه، ووثَّقَه بعضهم لصدقِه وجلالتِه، فحديثُه من هذه الجهة حَسَنٌ، فلما انضم إلى ذلك كونه رُوِيَ من أوجُهٍ أُخَرَ، زال بذلك ما كنا نخشاه عليه من جهةِ سوءِ حفظه، وانجبر به ذلك النقصُ اليسيرُ، فصحَّ هذا الإِسنادُ والتحق بدرجةِ الصحيح، والله أعلم.
الرابع: " كتابُ أبي عيسى الترمذي " رحمه الله أصلٌ في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نَوَّه باسمِه وأكثَر من ذكره في (جامعِه) ويوجدُ في متفرقات من كلام بعض ِ مشايخِهِ والطبقةِ التي قبله كأحمد بن حنبل ٍ والبخاري وغيرهما *.
(1) على هامش (غ) بخط الفاسي: بلغ السماع بقرءاتي عليه في المجلس السابع.
(2)
رواية محمد بن عمرو بن علقمة، بن أبي وقاص الليثي، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، عن أبي هريرة: في جامع الترمذي، ك الطهارة، باب ما جاء في السواك. وانظر الأقوال في محمد بن عمرو، بالجرح والتعديل (8/ 30 ت 138) وتهذيب التهذيب (9/ 375 ت 617) وحديث السواك، رواه مالك في الموطأ (طهارة، ما جاء في السواك ح 115) من حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبي هريرة. (مع التمهيد 7/ 194) والبخاري في كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا. (مع فتح الباري 2/ 255)، وأخرجه مسلم في باب السواك من كتاب الطهارة، من حديث سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (ح 42/ 252).
_________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: " يعقوب بن شيبة " تلميذ ابن المديني، أكثَرَ من تحسين الأحاديثِ، وفي مواضعَ كثيرة يجمع بين الحُسْنِ والصحة. و " أبو علي الطوسي " شيخ أبي حاتم الرازي، جمع في كتابه (الأحكام) بين الحسْنِ والصحةِ والغرابةِ إثرَ كلِّ حديث. وكان =
وتختلف النسخُ من كتابِ الترمذي في قوله: " هذا حديثٌ حسَنٌ " أو: " هذا حديث حَسَنٌ صحيح " ونحوِ ذلك. فينبغي أن تصحِّحَ أصلَك به بجماعةِ أصول ٍ وتعتمدَ على ما اتفقتْ عليه. ونَصَّ " الدارقطني " في (سُنَنِه) على كثيرٍ من ذلك. ومن مظانِّه (سُنن أبي داودَ السجستاني) رحمه الله. روينا عنه أنه قال: " ذكرتُ فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه (1). ". وروينا عنه أيضًا ما معناه: أنه يذكر في كل بابٍ أصحَّ ما عرفه في ذلك الباب. وقال: " ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وهَنٌ شديدٌ فقد بيَّنتُه [7 / ظ] وما لم (2) أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضُها أصح من بعض. "(3) *.
(1) الخطيب، بسنده إلى أبي بكر ابن داسه، قال:" سمعت أبا داود يقول: " كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت فيها الصحيح وما يشبهه ويقاربه ". ترجمة أبي داود في تاريخ بغداد 9/ 57، وتقييد ابن نقطة (ل 96) من طريق الخطيب.
(2)
يبدأ سقط في (غ) نحو ورقة، وننقله من (ص) مقابلا على (ع، ز).
(3)
رسالة أبي داود إلى أهل مكة: 27، وشرح السلفي لمقدمة معالم السنن: 4/ 365. قال أبو الفتح اليعمري: " وأن الإِمام أبا عمرو رحمه الله زعم أن من مظان الحسن كتاب أبي داود، وإنما أخذ ذلك من قوله: ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه. وقد قال إنه يذكر في كتابه في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب. وقال: " ما كان في كتاب من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض " فلم يرسم شيئًا بالحسن ". (شرح الترمذي لليعمري: ل 6 / أ) تركية.
وانظر تقييد العراقي 53، 54، وتبصرته 1/ 95، 100.
_________
= في عصر الترمذي (1).
لأنا نقول: لم يشتهر ذلك كاشتهارِه عن الترمذي. انتهت " 8 / ظ.
* المحاسن:
" زيادة: وجاء عنه: " وما سكتُّ عنه فهو حسَن ". إلا أن الروايَة لسُنَنِ أبي داود مختلفةٌ، يوجَدُ في بعضِها كلام وحديثٌ ليس في الأخرى. و " للآجري " عنه: أسأله كذا فيحتمل قوله: وما سكتُّ عنه - أي في السننِ - ويحتمل مطلقًا. والأول أقرب. انتهت " 8 / ظ.
_________
(1)
أبو علي الطوسي، الحسن بن علي بن نصر الخراساني " له كتاب الأحكام على نمط جامع الترمذي " - طبقات الحفاظ 330/ 753 - روى عنه شيخه أبو حاتم الرازي حكايات، كما جاء في تذكرة الحفاظ - 3/ 787 - وتوفي أبو علي سنة 312 هـ ولم يذكره ابن أبي حاتم الرازي في (الجرح والتعديل) وتوفي أبو حاتم سنة 277 هـ، وأبو عسيى الترمذي سنة 279 هـ. وانظر تقييد العراقي: 51 - 52.
قلتُ: فعلى هذا، ما وجدناه في كتابِه مذكورًا مطلقًا، وليس في واحدٍ من الصحيحين، ولا نصَّ على صحتِه أحدٌ ممن يُمَيِّزُ بين الصحيح والحسن، عرفناه بأنه من الحسَن عند " أبي داود " وقد يكون في ذلك ما ليس بحسَنٍ عند غيرهِ (1)، ولا مندرج ٍ (2) فيما حققنا ضبطَ الحسَن به على ما سبق، إذ حَكَى " أبو عبدالله بنُ منده الحافظ " أنه سمع " محمدَ بنَ سعد الباوَرْدي " بمصر يقول:" كان من مذهب أبي عبدِالرحمن النسائي، أن يُخرجَ عن كل من لم يُجْمَعْ على تركِه " قال ابن منده: " وكذلك أبو داود السجستاني، يأخذ مأخذَه ويُخرج الإِسناد الضعيف، إذا لم يجدْ في البابِ غيرَه، لأنه أقوى عنده من رأي ِ الرجال " * والله أعلم.
الخامس: ما صار إليه صاحب (المصابيح)(4) رحمه الله من تقسيم أحاديثه إلى نوعين: الصِّحَاح والحِسان، مُريدًا بالصحاح: ما ورد في أحد الصحيحين أو فيهما، وبالحسان:
(1) تعقبه الحافظ أبو عبدالله محمد بن عمر بن رشيد السبتي فيما نقل عنه الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري، " وذلك بأن قال: ليس يلزم أن يستفاد من كون الحديث لم ينص عليه أبو داود بضعف، ولا نص عليه غيره بصحة، أن الحديث عند أبي داود حسن، إذ قد يكون عنده صحيحًا وإن لم يكن عند غيره كذلك " قال أبو الفتح: وهذا تعقب حسن، لكنه ربما نبه عليه قول الإِمام أبي عمرو " وقد يكون من ذلك ما ليس بحسن عند غيره؛ لأنه جوز أن يخالف حكمه حكم غيره، في طرف؛ فكذلك يجوز أن يخالفه في طرف آخر. (شرح الترمذي النسخة التركية: 7 أ). خط.
(2)
من (ز) والعراقية، ويطمئن به السياق، وفي (خ):[غير مدرج] وموضع الكلمة في (ص) فيه خرم، من أثر البلى.
(3)
فوقها في (ز): [مدينة بخراسان]. يعني بلدة " الباوردي " التي ينسب إليها.
وفي معجم البلدان لياقوت: (باورد، بفتح الواو وسكون الراء، وهي أبيورد: بلد بخراسان بين سرخس ونسا) واقتصر في اللباب (1/ 115) على أنها بلدة بنواحي خراسان يقال لها أبيورد.
(4)
صاحب المصابيح هو " الإِمام البغوي " ركن الدين أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء الشافعي، محيي السُّنة. ت 516 بمرو.
_________
* المحاسن:
" فائدة: يقرب من هذا، ما ذكره " الماوردي " من احتجاج " الشافعي " بالمرسَل إذا لم يوجد دلالةٌ سواه. وقد نقل ابنُ المنذر عن " أحمد بن حنبل " رضي الله عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه، إذا لم يكن في البابِ غيرُه. سيأتي لذلك مزيدُ إيضاح في موضعه. انتهت " 9 / و.
ما أورده أبو داودَ والترمذي وأشباهُهما في تصانيفهم. فهذا اصطلاح لا يُعرف. وليس الحسنُ عند أهل الحديث عبارةً عن ذلك. وهذه الكتُب تشتمل على حَسَنٍ وغيرِ حَسَنٍ، كما سبق بيانُه *، والله أعلم (1).
السادس: كتبُ المسانيد غيرُ ملتحقة بالكتبِ الخمسة - التي هي: الصحيحان، وسُنن أبي داودَ، وسُنن النسائي، وجامعُ الترمذي - وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركونِ إلى ما يورَد فيها مطلقًا: كمسندِ أبي داودَ الطيالسي، ومسنَدِ عبيدالله بن موسى، ومسند أحمدَ بن حنبل، ومسندِ إسحاقَ بن راهَوَيه، ومسندِ عبد بن حميد، ومسند الدارمي (2)،
(1) على هامش (ص) بخط الحافظ العراقي ما صورته: بلغ ناصر الدين محمد، ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم، قراءة عليّ من أول الثاني من التعريفات إلى آخر الخامس، قراءة بحث ونظر. وعمه زين الدين وعبدالرحمن، وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي، سماعا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
(2)
على هامش (ص): بخط النسخة: [قال المؤلف: هو مسند عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي رحمه الله]. أبو محمد السمرقندي الحافظ - 255 هـ.
قال العراقي في تقييده على ابن الصلاح: إن عنده مسند الدارمي في جملة هذه المسانيد، مما أُفرِد فيه حديث كل صحابي وحده، وهم منه، فإنه مرتب على الأبواب كالكتب الخمسة، واشتهر تسميته بالمسند كما سمَّى البخاري: المسند بالجامع الصحيح. وإن كان مرتبًا على الأبواب لكون أحاديثه مسندة. إلا أن مسند الدارمي كثير الأحاديث المرسلة والمنقطعة والمعضلة والمقطوعة. والله أعلم ". وانظر معه (توضيح التنقيح: 1/ 230).
_________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: الاصطلاحاتُ لا مشاحَّةَ فيها (1). فقد قال " البغوي ": " أردتُ بالصحيح ما خرج في كتاب الشيخين، وبالحسَنِ ما أورده أبو داودَ وأبو عيسى وغيرُهما، وما كان فيهما من غريب وضعيفٍ أشرت إليه، وأعرضتُ عن ذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا " وقد بوَّب على الصحيح والحسَن والغريبِ وغيرهما؛ لأنا نقول: يقع الاعتراضُ من وجه آخر، وهو أن فيها أحاديثَ صحيحةً ليست في الصحيحين، وباصطلاحِه يخرج عن ذلك لمرتبةِ الحسَنِ. ولم يقل بذلك أحدٌ غيره. انتهت " 9 / و.
_________
(1)
نقل العراقي الاعتراض بأن لا مشاحة في اصطلاح البغوي، وقال:" فالإِيراد باق في مزجه صحيح ما في السنن، بما فيها من الحسن. وكأنه سكت عن بيان ذلك لاشتراكهما في الاحتجاج به. والله أعلم. (التقييد 56) ونقل السيوطي فيه: " قال التاج التبريزي: لا أزال أتعجب من الشيخين: ابن الصلاح والنووي في اعتراضهما على البغوي مع أن المقرر أنه لا مشاحة في الاصطلاح، وكذا مشى عليه علماء العجم، آخرهم شيخنا العلامة الكافيجي في مختصره " تدريب الراوي 1/ 165.
ومسنَدِ أبي يعلى الموصلي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند البزار أبي بكر، وأشباهِها. فهذه عادتُهم فيها أن يُخرجوا في مسندِ كلِّ صحابيٍّ ما رَوَوه من حديثه، غيرَ متقيدين بأن يكون حديثًا محتجًّا به. فلهذا تأخرتْ مرتبتُها - وإن جَلَّت لجلالة مؤلفيها - عن مرتبةِ الكتُب الخمسة وما التحق بها من الكتبِ المصنفة على الأبواب *. والله أعلم.
السابع: قولهم: " هذا حديثٌ صحيحُ الإِسناد، أو حسَنُ الإِسناد " دونَ قولِهم: " هذا حديثٌ صحيحٌ، أو حديثٌ حسَن "؛ لأنه قد يقالُ: " هذا حديث صحيحُ الإِسناد " ولا يصحُّ
* المحاسن:
" فائدة: المسانيدُ، يجوزُ لك أن تُثبِتَ الياءَ فيها، والأوْلَى ألا تثبت. وقد صنفتُ على ذلك مصنَّفًا سميتُه (ذكر الأسانيدِ في لفظ المسانيد) فلينظر ما فيه فإنه من المُهِمَّات. وعَدُّ " الدارمي " في المسندات التي صُنِّفت على مسانِدِ الصحابةِ دون الأبوابِ، فيه نظرٌ؛ فالموجود للدارمي مصنَّف على الأبواب: الطهارة وغيرها. وقد جاء عن " إِسحاق بن راهويه " أنه قال: خَرَّجتُ عن كلِّ صحابي أمْثَلَ ما ورد عنه. ذكره " أبو زرعةَ الرازي ". و (مسند البزار) يبين فيه الكلامَ على الحديث. وجاء عن " أحمد بن حنبَل " أنه قال: " هذا الكتابُ جمعتُه وانتقيته من أكثر من سبعمائةٍ وخمسين ألفًا، فما اختلف المسلمون فيه من حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليها، فإن كان فيه، وإلا فليس بحجة " قال " أبو موسى المديني ": ولم يُخرج أحمدُ إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته، دون من طُعِنَ في أمانته ". يدل على ذلك قولُ عبدِالله ابنِه:" سألتُ أبي عن عبدالعزيز بن أبانَ (1)، فقال: لم أُخرج عنه في المسند شيئًا " قال " أبو موسى ": " ومن الدليل على أن ما أودعه مسندَه احتاط فيه إسنادًا ومتنًا ولم يورد فيه إلا ما صحَّ عنده، ضربُه على أحاديثِ رجال ٍ ترك الرواية عنهم، وروى عنهم في غير المسند " وأما (مسند الدارمي) فقد أطلق عليه جماعةٌ من الحفاظ اسم الصحيح. انتهت " 9 / ظ.
_________
(1)
عبدالعزيز بن أبان الأموي القرشي، أبو خالد الكوفي نزيل بغداد - ت -. (العلل للإِمام أحمد 1/ 228، 362 - وعنه ابن حجر في تهذيب التهذيب 6 رقم 634 - وضعفاء البخاري 75 والنسائي 72 والجرح والتعديل 2/ 2 / 377 والضعفاء والمتر كون للدارقطني 348) وانظر تبصرة العراقي 1/ 107 ونخبة ابن حجر 73 - 79.
لكونِه شاذًّا أو معَلَّلا. غير أن المصنَّفَ المعتمَدَ منهم إذا اقتصر على قوله: " إنه صحيحُ الإِسنادِ "(1)، ولم يذكرْ له عِلَّة ولم يَقْدَحْ فيه، فالظاهرُ منه الحُكمُ له بأنه صحيحٌ في نفسِه، لأن عدَم العِلَّة والقادح ِ هو الأصلُ والظاهرُ. والله أعلم.
الثامن: في قول ِ " الترمذي " وغيره: " هذا حديثٌ حسَنٌ صحيح "(2) إِشكالٌ؛ لأن الحسن قاصرٌ عن الصحيح كما سبق إِيضاحُه، ففي الجمع بينهما في حديثٍ واحد، جمعٌ بين نَفْيِ ذلك القصورِ وإثباته. وجوابُه أن ذلك راجع إلى الإِسناد؛ فإذا رُوِيَ الحديثُ الواحد بإسنادين، أحدُهما إسنادٌ حسَنٌ والآخرُ إسنادٌ صحيح، استقام أن يقالَ فيه: إنه حديثٌ حسَن صحيح، أي أنه حسَنٌ بالنسبة إلى إسنادٍ، صحيحٌ بالنسبة إلى إسنادٍ آخَر. على أنه غيرُ مستنكَرٍ أن يكون بعضُ من قال ذلك، أراد بالحسنِ معناه اللغويَّ، وهو ما تميل إليه النفسُ ولا يأباهُ القلبُ، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدَدِه، فاعلَمْ ذلك. والله أعلم *.
(1) على هامش (غ) بخط الفاسي: [وجدت بخط شيخنا: سئل المصنف ابن الصلاح في فتاويه فأجاب بأنه متى كان المتن غير صحيح فمحال أن يصح إسناده على الشرط المذكور؛ لأن شرطه ألا يكون شاذًّا ولا معللا، فلأجله لا يصح المتن، فإذا أطلق عليه أنه إسناد صحيح، فمعناه أن رجال إسناده عدول ثقات، لا غير]- وانظر نخبة الفكر: 93.
(2)
على هامش (غ) ووجدت بخطه - أيده الله -: [قال المؤلف: وجدت في أصل الحافظ أبي حازم العبدوي بكتاب الترمذي في حديث معاذ: " فيم يختصم الملأ الأعلى؟ " سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. والله أعلم].
وعلى هامش (ص): [قال المؤلف] فذكره. وحديث " فيم يختصم الملأ الأعلى " في سنن الدارمي 2/ 126 من حديث عبدالرحمن بن عائش الحضرمي، مرفوعًا. ورواه أحمد والطبراني والبزار، من عدة طرق في بعضها مقال. (مجمع الزوائد، ك التعبير، باب فيما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: 7/ 176 - 178).
_________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: ما ذكر أولا يردُّه قولُ " الترمذي " في بعض الأحاديث: هذا حديث حَسنٌ صحيح لا نعرفُه إلا من هذا الوجهِ؛
لأنا نقول: أراد " الترمذي " بذلك انفرادَ أحدِ رُواتِه، لا أن المتنَ مُنفردٌ به. ويدل لهذا أنه يقول في بعض ِ الأحاديث:" غريب من هذا الوجه، يستغرب من حديث فلان " كقوله في حديثِ خالدٍ عن ابن سيرينَ عن أبي هريرة مرفوعًا: " من أشار إلى أخيه بحديدَةٍ ": =
التاسع: من أهل ِ الحديثِ من لا يُفرِدُ نوعَ الحسَنِ ويجعله مندرِجًا في أنواع الصحيح؛ لاندراجِه في أنواع ِ ما يُحْتَجُّ به. وهو الظاهرُ من كلام " الحاكم أبي عبدالله
= " هذا حديث حسَنٌ [صحيح] غريب من هذا الوجه، يستَغرب من حديث خالد "(1).
وأما ما ذكر ابن الصلاح أخيرًا ففيه نظر؛ لقول ِ " الترمذي " ذلك في أحاديث مرويَّةٍ في صفةِ جهنم، والحدود والقصاص، ونحو ذلك. وأيضًا فالأحاديثُ الموضوعةُ فيها، لا يحل إطلاقُ الحسنِ عليها. والانفصالُ عنه أن يُقالَ: ولو كان في الأمورِ المذكورةِ، كان حسَنًا باعتبارِ ما فيه من الوعيدِ والزجرِ بالأساليبِ البديعةِ. وأما الموضوعُ فلا يَرِدُ؛ لأن الكلامَ فيما بين الصحةِ والحُسنِ، وهو غيرُ داخل ٍ، وأجاب " الشيخ أبو الفتح القشيري ": أن قصورَ الحسَنِ عن الصحيح، إنما يجيء إذا اقتصر على الحَسَنِ، أما إذا جَمع بينهما فلا قصورَ حينئذ. وبيانُ ذلك أن للرواة صفاتٍ تقتضي قبولَ روايتهم، وتلك الصفاتُ متفاوتةٌ: كالتيقظ والحفظِ والإِتقان مثلا، ودونَها الصدقُ وعدمُ التهمةِ بالكذب. فوجودُ الدرجةِ الدنيا كالصدقِ مثلا، لا ينافيه وجودُ ما هو أعلى منه كالحفظِ والإِتقان، وكذلك إذا وُجِدَت الدرجة العليا، لم يناف ذلك وجودَ الدنيا مع الصدقِ، فصحَّ أن يقال: حَسَنٌ باعتبارِ الصفةِ الدنيا، صحيحٌ باعتبارِ الصفةِ العليا. ويلزمُ على هذا أن يكونَ كلُّ صحيح حسَنًا، ويلتزمُه ويؤيده ورودُ قول ِ المتقدمين: هذا حديثٌ حسن، في الأحاديث الصحيحة. انتهى كلامُ القشيري. (2) وقيل: الجمعُ بين الحُسْنِ والصحةِ رتبةٌ متوسطةٌ بين الحسنِ المجرَّد والصحيح ِ. فأعلاها ما تمحَّض فيه وصفُ الصحة. وأدناها ما تمحَّض فيه وصفُ الحسن، وأوسطُها ما جمع بينهما، وفيه نظر. انتهت " 10 / ظ.
_________
(1)
ك الفتن، باب ما جاء في إشارة المسلم إلى أخيه (9/ 7 مع عارضة الأحوذي) من حديث خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة.
وانظر صحيح البخاري، ك الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من حمل علينا السلاح فليس منا ". وصحيح مسلم: ك البر والصلة، باب النهي عن الإِشارة بالسلاح إلى مسلم. وصححه الدارقطني من حديث الأنصاري ويزيد بن هارون عن ابن عون عن ابن سيرين، وعباد وهشام ومحبوب بن الحسن عن خالد عن ابن سيرين. (العلل: ل 3/ 128) خط.
(2)
بتصرف يسير، من (الاقتراح لأبي الفتح القشيري ابن دقيق العيد: 175 - 176).
وانظر تقييد العراقي (60 - 61) والتبصرة (1/ 109 - 111).
الحافظ في تصرفاته وإليه يومئ في تسميته كتابَ الترمذي (بالجامع الصحيح) وأطلق " الخطيبُ أبو بكر " أيضًا عليه اسمَ الصحيح، وعلى كتابِ النسائي.
وذكر " الحافظُ أبو طاهر السلَفي " الكتبَ الخمسةَ وقال: " اتفق على صِحَّتِها علماءُ الشرق والغرب. "(1). وهذا تساهلٌ؛ لأن فيها ما صرَّحوا بكونِه ضعيفًا أو منكرًا أو نحوَ ذلك من أوصافِ الضعيف. وصرح " أبو داودَ " فيما قدَّمناه روايتَه عنه، بانقسام ما في [7 / و] كتابه إلى صحيح وغيره، و " الترمذي " مُصَرَّحٌ فيما في كتابِه، بالتمييز بين الصحيح ِ والحَسن. ثم إن مَنْ سَمَّى الحسنَ صحيحًا، لا ينكر أنه دونَ الصحيح ِ المقَدَّم المبيَّن أولا، فهذا إذًا اختلافٌ في العبارةِ دون المعنى *. والله أعلم (2).
(1) قابل على شرح السلفي لمقدمة معالم السنن: 4/ 357.
(2)
على هامش (ص) بخط الحافظ العراقي ما صورته: بلغ ناصرالدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم. قراء بحث عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
وعلى هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغ السماع قراءة عليه.
_________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: الذي ذكره " السِّلَفي " في (شرح مقدِمة السنَنِ للخطابي) ما نصُّه: " وكتابُ أبي داودَ أحدُ الكتبِ الخمسة التي اتفق أهلُ الحلِّ والعقدِ من الفقهاءِ وحُفَّاظِ الحديثِ الأعلام النبهاءِ على قبولها والحكم بصحة أصولِها " (1). فهذه لا إيرادَ عليها، ولا يخالف كلامَ غيره؛
لأنا نقول: قوله: " على قبولها والحكم بصحةِ أصولها " إما أن يريدَ به مجموعَ ما فيها، أو البعض. ولا يصح إرادةُ المجموع لما تقدم، ولا البعض ِ لأن " البخاري ومسلما " ليسا كذلك، بل تلقتهما الأمةُ بالقبول كما تقدم - انتهت ". 10 / ظ - 11 / و.
_________
(1)
بعده في شرح السلفي لمقدمة الخطابي لمعالم السنن: " بعد الموطأ المتفق على صحته وعلو درجة مصنفه ورتبته ". ذيل معالم السنن: 4/ 357.
وانظر تقييد العراقي: 60 - 62.