الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: هذا الخلاف ينبغي أن يُبْنَى على الخلافِ السابق قريبًا، في جوازِ اعتماد الراوي على كتابه وفي ضبطِ ما سمعه؛ فإنَّ ضَبْطَ أصل ِ السماع كضبطِ المسموع، فكما كان الصحيحُ وما عليه أكثرُ أهل ِ الحديث، تجويزَ الاعتماد على الكتاب المصونِ في ضبط المسموع؛ حتى يجوزَ له أن يرويَ ما فيه، وإن كان لا يذكر أحاديثَه حديثًا حديثًا؛ كذلك ليكنْ هذا إذا وُجِدَ شرطُه، وهو أن يكون السماع بخطِّه أو بِخَطِّ من يثق به، والكتابُ مصون بحيث يغلب على الظنِّ سلامةُ ذلك من تطرُّق التزوير والتغيير إليه، على نحو ما سبق ذكره في ذلك. وهذا إذا لم يتشكك فيه وسكنتْ نفسُه إلى صحته، فإن تشكك فيه لم يجز الاعتمادُ عليه. والله أعلم.
الخامس: إذا أراد روايةَ ما سمعه على معناه دون لفظِه
، فإن لم يكن عالما عارفًا بالألفاظِ ومقاصدها، خبِيرًا بما يُحيل معانيها، بصيرًا بمقادير التفاوت بينها؛ فلا خلافَ أنه لا يجوزُ له ذلك، وعليه ألا يرويَ ما سمعه إلا على اللفظ الذي سمعه من غير [61 / ظ] تغيير. فأما إذا كان عالمًا عارفًا بذلك؛ فهذا مما اختلف فيه السلفُ وأصحابُ الحديث وأربابُ الفقه والأصول؛ فجوَّزه بعضُ المحدِّثين، وطائفةٌ من الفقهاءِ والأصوليين من الشافعيين وغيرهم. (1) ومنعه بعضُهم في حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجازه في غيره (2).
(1) على هامش (غ): [حكى " ابن بطال " هذين القولين: الجواز والمنع. وزاد أنه يجب مراعاة اللفظ إذا خاف وقوعَ اللبس بغيره، مثل أن يكون معناه غامضًا أو محتملا للتأويل، فلا يغير. فأما إذا كان المعنى ظاهرا فلا بأس].
(2)
على ورقة مصلقة بنسخة (غ): [قال الشيخ: ومما وقع في اصطلاح المتأخرين، أنه إذا روى كتاب مصنفٍ بيننا وبينه وسائط، تصرفوا في أسماء الرواة وقلبوها على أنواع، إلى أن يصلوا إلى المصنف، فإذا =
_________
* المحاسن:
" فائدة: عدمُ العلم أشدُّ من الشكِّ. فإن كان المراد أنه شكٌّ في السماع فلا يحسن، وإن كان المراد أنه شك في تطرقِ التزوير ونحوِه، فغلبةُ ظن السلامةِ يخرجه، فلا حاجة إلى قيدٍ بعده. وشبَّهه بعضُهم بما إذا نسي الراوي سماعَه، فإنه يجوز لمن سمعه الروايةُ، ولا يضره نسيانُ شيخِه. ولا يصح هذا التشبيه؛ لأن الراوي فيما نحن فيه غيرُ متذكر، وفي الصورة المذكورة متذكر ولكن أصلَه ناس ٍ. انتهت " 71 / و.
والأصحُّ جوازُ ذلك في الجميع إذا كان عالمًا بما وصفناه، قاطعًا بأنه أدَّى معنى اللفظ الذي بلغه؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوالُ الصحابة والسلف الأولين وكثيرًا ما كانوا ينقلون معنى واحدًا في أمرٍ واحد بألفاظٍ مختلفة، (1) وما ذلك إلا لأن مُعَوَّلَهم كان على المعنى دون اللفظ *.
= وصلوا إليه تبعوا لفظه من غير تغيير. وهذا فيه بحثان: أحدهما: أنه ينبغي أن يحفظ فيه شروط الرواية بالمعنى؛ فقد رأينا من يعبر في هذه الرواية بعبارات لعل المروي عنه لو أراد التعبير عنه لم يستجز ذلك أو لم يستحسنه، فهذا خارج عن الرواية بالمعنى، فليراع ذلك. مثاله أن يقول الشيخ:" أخبرنا فلان ابن فلان " فيقول الراوي عنه: " أنا فلان، قال أنا الإمام العلامة أوحد الزمان " إلى غير ذلك من ألفاظ التعظيم التي لو عرضت على الشيخ قد لا يختارها ولا يرى المرويَّ عنه أهلا لها، فكيف يسوغ أن يحمل عليه ما يجوز أنه لا يراه؟ ثم إن هذه إشارة لذلك الشخص بهذه المرتبة، وقد أخبر هذا الراوي عن شيخه بهذه المرتبة، وأنه شاهد بها؛ ومن ذلك أن أرباب الأصول اشترطوا في الرواية بالمعنى عدم الزيادة والنقصان بالنسبة إلى الترجمة والمترجم عنه، ونرى بعض أهل الحديث قد لا يلتزم ذلك؛ فيذكر الرواية عن شخص ويزيد فيه تاريخ السماع إذا كان يعلمه، وإن لم يذكره الشيخ، وربما زاد فيه: بقراءة فلان أو بتخريج فلان، وإن لم يسمع ذلك أو لم يقرأه، وكل هذا زيادة عما يحمله لفظًا ومعنى؛ فلا يجري على قانون أهل الأصول.
البحث الثاني: الذي اصطلحوا عليه من عدم التغيير للألفاظ، بعد وصولهم إلى المصنف، ينبغي أن ينظر فيه: هل هو على سبيل الوجوب أو هو اصطلاح على سبيل الأول؟ وفي كلام بعضهم ما يشعر بأنه ممتنع لأنه وإن كان له الرواية بالمعنى، فليس له تغيير التصنيف. وهذا كلام فيه ضعف، وأقل ما فيه أنه يقتضي تجويز هذا فيما ينقل من المصنفات المتقدمة إلى أجزائنا وتخاريجنا؛ فإنه ليس فيه تغيير التصنيف المتقدم، وليس هذا جاريًا على الاصطلاح فإن الاصطلاح على ألا تغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة، سواء رويناها فيها أو نقلناها منها / طرة].
(1)
على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: [قال أبو بكر ابن العربي في (الأحوذي، شرح الترمذي) =
_________
* المحاسن:
" فائدة: وسنَدُ ذلك من السنة ما ذكره " أبو نعيم " في كتابه (معرفة الصحابة) في ترجمة سليمان بن أكيمة، يسنده إلى يعقوب بن عبدالله بن سليمان بن أكيمة الليثي، عن أبيه عن جده قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا له: بأبينا أنت وأمِّنا يا رسول الله، إنا لنسمع منك الحديثَ فلا نقدر أن نؤديَه كما سمعناه. فقال: " إذا لم تُحِلُّوا حرامًا، ولم تُحرِّموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس. " (1) وذكره " ابنُ منده " في كتابه (معرفة الصحابة)، =
_________
(1)
أخرجه الطبري في (المنتخب من ذيل المذيل) بسنده إلى يعقوب بن عبدالله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده (ص 565) ط أولى ذخائر. وأخرجه الخطيب بهذا اللفظ من طريق الطبري بإسناده (الكفاية: 199 باب ذكر الحجة في إجازة رواية الحديث على المعنى).