الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
السراج البلقيني
عالم المائة الثامنة
(724 - 805 هـ)
*
موجز سيرته وعصره
، شيوخه، شخصيته ومناصبه.
* أصحابه وتلاميذه، مصنفاته.
* كتابه محاسن الاصطلاح.
السراج البلقيني، أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير الكناني المصري الشافعي: فقيه الزمان وحجة الله على خلقه في وقته، مجتهد عصره وعالم المائة الثامنة.
مَنَّ الله تعالى على الأمة به في مرحلة حرجة من تاريخها، ومنَّ عليه بجِلَّة من الشيوخ العلماء النبلاء، وصفوة من الأصحاب والتلاميذ الأعيان حملوا علمه وتراثه، ودوَّنوا سيرته شهودَ حال ٍ ورؤية، وعنهم أخذ أعلام من تلاميذهم تابعوا المسيرة ودوَّنوا ما سمعوه من شيوخهم ومعاصريهم، عن شيخ الإِسلام الإِمام.
ومن تراجم أصحابه وأعيان تلاميذه للشيخ، نستخلص موجزًا من سيرته، أكثر اعتمادنا فيها على أجل تلاميذه شيخ الإِسلام الحافظ ابن حجر في ترجمته المبسوطة لشيخه بالمجمع المؤسس وبالإِنباء. مع استكمال التعريف بالشيوخ والمرويات من ذيل التقييد، وذيول تذكرة الحفاظ. وبالتلاميذ من الدرر والضوء اللامع وحسن المحاضرة * وما تيسر من معاجم أعيان العصر وبرامج مروياتهم.
* المجمع المؤسس، مخطوط دار الكتب بالقاهرة 216 - 222، وذيل التقييد للتقي الفاسي، مخطوط الدار، والدرر، وإنباء الغمر، والترتيب فيها على حروف المعجم، والتقي المقريزي في السلوك، وفي الخطط، للمدارس. وابن فهد في ذيل التذكرة 202 - 220، والنجوم الزاهرة المجلدين الحادي عشر والثاني عشر عصر دولتي المماليك، والترتيب فيها على السنين. وابن قاضي شهبة في الطبقات، مخطوط دار الكتب، والسخاوي في الضوء اللامع، والسيوطي في حسن المحاضرة وذيل التذكرة، وابن العماد في الشذرات، والشوكاني في البدر الطالع، وفهارس الكتب ومعاجم شيوخ الوقت وكتب الرحلات.
ولد في " بُلْقِينَةَ " من ريف الدلتا، في ليلة الجمعة، الثانية عشرة من شعبان سنة 724 هـ، ومصر وقتئذ تنعم بعصر من أنضر عصور الاستقرار والمنعة والازدهار، في السلطة الثالثة " للملك الناصر محمد بن السلطان المنصور قلاوون " التي امتدت قرابةَ ثلث قرن (709 - 741 هـ) " تفرغ فيها للتعمير، واتفقت عليه كلمة المسلمين، فأقام مُلكًا مطاعًا لم يَرَ أحد مثل سعادة ملكه وعدم حركة الأعادي عليه بَرًّا ولا بحرًا مع طول المدة
…
وأذعنت له الملوك، ودانت له الأمم، وخافته الأكاسرة والجبابرة
…
وكان ملكًا مطاعًا مهيبًا معظِّمًا لأهل العلم. لقي مشايخ الوقت وسمع من كبار الحفاظ والمسندين، وأجازه جِلَّة منهم. وعُرِف له الحرصُ على حرمة المناصب العلمية، يتحَرى ألا يشغلها إلا من هو أهل لها، ويبالغ في ذلك. كما عُرِف عنه الحزمُ وطولُ الصبر على ما يكره .. " وبُنيَ في سلطنته من الجوامع والمدارس والخوانق ما لهج المؤرخون والرحالة بذكره (1).
في ذلك العهد الميمون، أمضى عمر بن رسلان البلقيني صباه الغض في بلقينة، حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وحفظ المحرر للإِمام الرافعي، والكافية لابن مالك والشاطبية في القراءات، ومختصر ابن الحاجب الأصلي. " وأقدمه أبوه القاهرة وله اثنتا عشرة سنة، فعرض محفوظاته على علماء الوقت فبهرهم بذكائه وكثرة محفوظه وسرعة إدراكه "(2).
من الشيوخ الذين عرض عليهم في هذه الرحلة الأولى إلى القاهرة:
" الجلال القزويني، محمد بن عبدالرحمن الشافعي، قاضي قضاة الإِقليمين، مصر والشام "(666 - 739 هـ) وصاحب الإِيضاح لمفتاح العلوم لأبي يعقوب السكاكي.
و " التقي السبكي، أبو الحسن علي بن عبدالكافي المصري الشافعي قاضي القضاة "، الفقيه المجتهد الأصولي النظار (683 - 756 هـ).
(1) بتضمين من ذيل العبر لأبي المحاسن الحسيني - وهو من شهود عصر الناصر محمد - والنجوم الزاهرة، والسلوك، وترجمة الناصر محمد بن قلاوون في الدرر الكامنة.
(2)
ما بين الأقواس، هنا وفيما يلي من المبحث، بلفظ الحافظ ابن حجر في المجمع المؤسس: ترجمة شيخه السراج البلقيني.
قال ابن حجر: " ورجع إلى بلده، ثم عاد به أبوه في سنة ثمان وثلاثين - وسبعمائة - وقد ناهز الاحتلام، فاستوطن القاهرة وحضر دروس الأئمة وسمع في مجالس الحديث شيئًا كثيرًا وكان لا يترك البحث
…
وسكن المدرسة الكاملية (1) مدة، وكان نقيب درس الحديثة بها للقاضي ابن جماعة عزالدين عبدالعزيز بن البدر محمد ".
السنوات الباقية من عهد الملك الناصر، كانت كافية لمثل ذلك الشاب الذكي الطموح، للتحصيل والأخذ عن علماء عصر الناصر، والسماع على حفاظه ومسنديه الذين كانت القاهرة عامرة بهم.
ولم يكن في حاجة إلى الرحلة إلى ما وراء أقطار دولة المماليك الكبرى: مصر والحجاز والشام والعراق. ومصر وقتئذ تستقطب علماء الأقطار الإِسلامية النازحين إليها من مشرق ومغرب، فتوسع لهم من ديارها خبر منزل، ولا تضن عليهم بأعلى مناصبها العلمية قضاءً وفتيا وتدريسا وإمامة وخطابة ..
حضر دروس الشيخين الجلال القزويني والتقي السبكي، وآخرين من العلماء، منهم على ترتيب ذكرهم في المجمع المؤسس:
" الشمس ابن عدلان " محمد بن أحمد بن عثمان المصري الشافعي الفقيه في الأصلين والقراءات، وشارح مختصر المزني (633 - 749 هـ).
" الشمس الأصبهاني " نزيل القاهرة، أبو الثناء محمود بن عبدالرحمن بن أحمد الشافعي الأصولي، الإِمام في العقليات وشارح مختصر ابن الحاجب الأصلي، ومنهاج البيضاوي وطوالعه، ومتن الساوية في العروض (674 - 749 هـ).
قرأ عليه في الأصول والمعقولات، وأجازه الشيخ وأطنب في الثناء عليه، وأذن له في الإفتاء.
" النجم الأسواني " الحسين بن علي بن سيد الكل المصري الشافعي المقرئ. تصدر
(1) بناها الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكملت عمارتها سنة إحدى وعشرين وستمائة هـ، فكانت ثانية دار للحديث بعد الدار الأولى التي بناها بدمشق الملك العادل نورالدين محمود بن زنكي.
انظر (الكاملية) في مدارس القاهرة بخطط المقريزي، وحسن المحاضرة.
بجامع عمرو بن العاص زمنًا، يقرئ ويفتي ويدرس، وأخذ عنه الطلاب طبقة بعد طبقة مع عفة وزهد وكرم (646 - 739 هـ).
" زين الدين الكناني " عمر بن أبي الحرم بن عبدالرحمن الشافعي الفقيه الحافظ، شيخ القبة المنصورية بالقاهرة، مع مشيخة الحديث بها. وولي حلقة الدرس بالجامع الحاكمي، والخطابة بجامع الملك الصالح (653 - 738 هـ).
" شمس الدين ابن القماح " محمد بن أحمد بن إبراهيم بن حيدرة القرشي، أبو المعالي المصري الشافعي. مهر في الفقه والإِفتاء وناب في الحكم ودرس بقبة الإِمام الشافعي، وسمع (كتاب علوم الحديث) على التقي ابن رزين عن ابن الصلاح، وصحيح مسلم من الرضي ابن البرهان، بفوت، وسمعه كاملاً من ابن عبدالهادي (655 - 741 هـ) تفقه به البلقيني.
" أبو حيان " أثير الدين محمد بن يوسف بن علي الأندلسي، نزيل القاهرة، اللغوي النحوي الأستاذ، والمفسر الإِمام والمقرئ الشيخ، والأديب الشاعر (654 - 745 هـ).
أخذ عنه النحو والتصريف والأدب، وأجاز له في التدريس والإِفتاء، مع شهادة عالية تأتي في موضعها من سياق العرض. ثُمَّ لَازمَ " البهاء ابن عقيل " عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله الهاشمي المصري الشافعي، قاضي القضاة وصدر الشافعية ورئيس العلماء، شارح الألفية والتسهيل، شهد له الأستاذ أبو حيان، بأن " ليس تحت أديم السماء أَنْحَى من ابن عقيل " وسمع صحيح البخاري على " الحجار " مسند الدنيا، وعلى " وزيرة " والطبقة (694 - 769 هـ).
وحج " السراج عمر " في سنة أربعين وسبعمائة، وزار بيت المقدس. ثم حج في سنة تسع وأربعين وسمع الحديث من حفاظ الوقت ومسنديه.
قال ابن حجر: " لازمت الشيخ مدة، وقرأت عليه أجزاء حديثية وحضرت دروسه الفقهية، وسمعت عليه جزءًا من عواليه أخرجه الشيخ ولي الدين ابن شيخنا العراقي، والأربعين التي خرَّجتُها له عن مشايخه: عشرين بالسماع وعشرين بالإِجازة " سَمَّى ابن حجر في ترجمة الشيخ ستة من الأولين واثنين من الآخرين. ثم ذكر في أسمعته على شيخه عددًا آخر، مع تعيين مروياته عنهم وأسانيدهم فيها.
المسمَّون في الترجمة، على ترتيب ذكرهم بالمجمع المؤسس مع الرجوع فيهم إلى (ذيل التقييد) للتقي الفاسي وهو من تلاميذ السراج البلقيني:
" محمد بن غالي " بن نجم، الشمس أبو عبدالله الدمياطي، المعمر المسند (650 - 741 هـ) سمع عليه البلقيني الجزء التاسع والستين من أمالي الضبي، القاضي أبي عبدالله المحاملي البغدادي، والمسلسل بالأولية، سماعه من النجيب عبداللطيف الحراني كبير مسندي الديار المصرية، بإسناده. وسمع عليه أيضًا الكثير من سنن أبي داود (1).
" أحمد بن كشتغدي " بن عبدالله المُعِزِّي، الشهاب أبو العباس، ابن الصيرفي المصري. من أكابر المحدثين. في مسموعاته كثرة، وحدث بعواليه (663 - 774 هـ).
سمع منه البلقيني المسلسل بالأولية عن النجيب عبداللطيف (2).
" ابن عبدالهادي " عبدالرحمن بن محمد بن عبدالحميد بن عبدالهادي، زين الدين أبو الفتوح الصالحي الحنبلي، المحدث الضابط المسند. سمع على أحمد بن عبد الدايم صحيح مسلم، والترغيب والترهيب - بفَوْت - والدعاء للمَحَاملي، واستُقدِم إلى مصر فحدث بصحيح مسلم مرارًا. وكان الجمع متوافرًا جدًّا بحيث رُتبت أسماؤهم في الطباق على حروف المعجم (657 - 741 هـ) حدث عنه البلقيني بصحيح مسلم (3).
" الحسن ابن السديد " بدرالدين بن محمد بن عبدالرحمن الإِربلي. سمع من الفخر ابن البخاري. وسمع منه حفاظ الوقت (658 - 748 هـ).
" إسماعيل بن إبراهيم التفليسي " النجم ابن الإِمام، المحدث، من أصحاب النجيب عبداللطيف، توفي سنة (647 هـ) عن 89 سنة.
سمع عليه البلقيني جزءًا فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لإِسماعيل بن إسحاق القاضي. وحدث به. سمعه عليه ابن حجر (الأسمعة، وذيل التقييد 240).
" عبدالرحيم ابن شاهد الجيش " جمال الدين بن عبدالله بن يوسف الأنصاري أبو علي
(1) أسمعة ابن حجر في مجمعه المؤسس، وذيل التقييد، الفاسي:216.
(2)
الأسمعة، وذيل التقييد 115.
(3)
الأسمعة، وذيل التقييد: 240، 191.
المصري. من رواة صحيح البخاري عن شيوخ الطبقة (659 تقريبا - 746 هـ).
سمعه عليه البلقيني وحدث به. سمع عليه ابن حجر كثيرًا منه (1).
ومن شيوخ البلقيني بالإِجازة: " الحافظ المزِّي " جمال الدين أوب الحجاج يوسف بن الزكي عبدالرحمن بن يوسف، إمام الحفاظ الصدر النبيل. صاحب تهذيب الكمال والأطراف (654 - 742 هـ).
حدث عنه البلقيني، إجازةً بالسنن الكبرى، والدلائل: للبيهقي. وجزء من حديث أبي الحسن الأشعري، قرأها عليه ابن حجر (2).
" الحافظ الذهبي " أبو عبدالله محمد بن أحمد بن قايماز الدمشقي الشافعي، شيخ الإِسلام الحافظ المؤرخ العلامة (573 - 748 هـ).
" أحمد بن علي، بن داود، الجزري " ثم الصالحي. الشهاب أبو العباس الكردي الهكاري. المحدث المسند العابد القدوة. أُسمِعَ وسمع على كبار الشيوخ، وعُمِّر وتفرد (649 - 743 هـ)(4).
ومعهم من شيوخ البلقيني في أسمعة ابن حجر عليه، لمروياته عنهم بأسانيدهم، مستكملة من ذيل التقييد:
" أبو الفتح الميدومي " محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم، شرف الدين المصري الخطيب الإِمام، خاتمة أصحاب النجيب عبداللطيف (664 - 754 هـ) سمع على النجيب مشيخته الكبرى، وعلى القطب القسطلاني جامع الترمذي وسنن أبي داود، والمسلسل بالأولية، سمعه عليه البلقيني (5).
" إبراهيم بن علي الزرزاري " ابن القطبي، أبو إسحاق. من أصحاب النجيب. سمع عليه حلية الأولياء لأبي نعيم (741 هـ)(6).
(1) أسمعة ابن حجر بالمجمع، وذيل التقييد:195.
(2)
الأسمعة، وذيل التقييد:267.
(3)
المجمع المؤسس، والإنباء، وذيل التقييد:8.
(4)
المجمع المؤسس، والإنباء، وذيل التقييد 107.
(5)
المجمع المؤسس، وذيل التقييد:66.
(6)
أسمعة ابن حجر بالمجمع، وذيل التقييد (24، 240).
" عبدالعزيز بن عبدالقادر بن أبي الكرم بن أبي الدر الربعي نجم الدين البغدادي، نزيل القاهرة ومن محدثيها المسندين (662 - 748 هـ) من مسموعاته على الفخر ابن البخاري بدمشق، جامع الترمذي وسنن أبي داود (1).
" أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن عبدالعزيز، بن عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب " ناصرالدين ابن الملوك الأيوبي القاهري، الصوفي النبيل المحدث المسند. حدث عن كبار الشيوخ وعُمِّرَ وتفرد (674 - 756 هـ).
حدث عنه البلقيني بكتاب (المكمل في بيان المهمل) للخطيب البغدادي. قرأ عليه ابن حجر قطعة منه (2).
" ابن سوار " أحمد بن محمد بن عمر بن أبي الفرج الإِسنوي الأصل. الشهاب أبو العباس المصري المعروف بالحلبي، الصوفي الناسخ المعمر. المسند المقرئ، آخر أصحاب الكمال الضرير. سمع عليه البلقيني قطعة جيدة من صحيح البخاري (650 - 744 هـ)(3).
" المحب الدمياطي، أحمد بن عبدالمؤمن بن خلف، الحافظ أبو العباس ابن الحافظ النسابة شرف الدين أبي محمد. من رواة سنن أبي داود والغيلانيات (675 - 748 هـ)(4).
" الزين أبو الفرج المزي " عبدالرحمن ابن حافظ الآفاق أبي الحجاج المزي. له من أبيه إجازة، وحدث عن الفخر ابن البخاري توفي عن بضع وستين (- 749 هـ) من مسموعاته سنن ابن ماجة على القاضي التاج ابن علوان، وأجزاء حديثية على الشرف أبي الحسين اليونيني. وحدث بمسموعاته في دمشق والقاهرة (5).
" وتأهل السراج عمر البلقيني للتدريس والفتيا قبل أن يبلغ سن العشرين، ومهر وتفوق، وطبقةُ شيوخه متوفرون ".
أجاز له شيخه في الأصول والمعقولات " الشمس الأصبهاني " في التدريس والفتيا.
(1) الأسمعة، وذيل التقييد 202، وذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد.
(2)
الأسمعة، وذيل التقييد 25 / ب.
(3)
ترجمة البلقيني في ذيل ابن فهد، والضوء اللامع، وابن سوار في ذيل التقييد:122.
(4، 5) البلقيني في ذيل ابن فهد، وفي ذيل التقييد، والمحب الدمياطي في ذيل التقييد: 106، وزين الدين المزي في ذيل التقييد:193.
- وقد توفي الشيخ سنة 749 هـ - ومعها إجازة من الأستاذ أبي حيان، حررها الحافظ ابن حجر في المجمع المؤسس - والنقل منه - والتقي ابن فهد في ترجمة الشيخ بذيل تذكرة الحفاظ، قال ابن حجر:
" وقد كتب له الشيخ أثير الدين أبو حيان، وسِنُّه إذ ذاك دون العشرين: قرأ عليَّ جميعَ الكافية الشافية في النحو قراءة بحث وتفهم، وتنبيه على ما أغفله الناظم. فكان يبادر إلى حلِّ ما قرأه عليَّ من مُشكل ٍ وغيرِه، فصار بذلك إمامًا يُنتفع به في هذا الفن العربي، مع ما منحه الله من علمه بالشريعة المحمدية، بحيث نال في الفقه وأصوله الرتبة العليا، وتأهل للتدريس والقضاء والفتيا ".
توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون رحمه الله في ذي الحجة من سنة 741 هـ، والسراج عمر في نحو الثامنة عشرة من عمره، أي أنه تأهل للتدريس والفتيا والقضاء في عهده الزاهر الممدود. ثم لم تمض على وفاة الناصر بضع سنوات، حتى كان السراج البلقيني فيما ذكر ابن حجر، قد:" أفتى ودرس وهو شاب، وناظر الأكابر، وظهرت فضائله وبهرت فوائده، وطار صيته في الآفاق قبل الطاعون "(1).
الطاعون الجارف كان سنة 749 هـ، بعد ثماني سنوات من وفاة الناصر، والسراج عمر وقتئذ في الخامسة والعشرين من عمره، قد بلغ قبلها ما بلغ
…
وقبل أن يبعد العهد بالملك الناصر، اطمأنت الحياة بالسراج البلقيني فأصهر إلى شيخه العلامة " البهاء ابن عقيل " في سنة 752 هـ، وناب عنه في القضاء لما وَلِيَه استقلالا - سنة 758 هـ - " وشهد له الشيخ بأنه أحق الناس بالفتيا ".
وانتقل السراج من منزله في المدرسة الكاملية إلى داره التي أسسها بحارة بهاء الدين بالقاهرة، ثم ألحق بها مدرسته الشهيرة وجامعه (2).
(1) ابن حجر: إنباء الغمر 2/ 245.
وانظر خبر الطاعون في سلوك المقريزي: 2 ق 3/ 196، والنجوم الزاهرة: 10/ 195 - 213.
(2)
انظر حارة بهاء الدين، أول (باب ذكر حارات القاهرة وظواهرها في خطط المقريزي، 2/ 2) وذكرها علي باشا في (الخطط التوقيفية 3/ 121) وذكر بعدها " مدرسة البلقيني، وهي المعروفة بجامع =
في عصر ما بعد الناصر، كانت حياته العاملة في المناصب الكبرى، وفي الحياة العامة.
" وأول ما وليه من المناصب الكبرى إفتاء دار العدل رفيقًا للبهاء السبكي - أبي حامد، أحمد بن علي بن عبدالكافي - في سنة خمس وستين " وله من العمر إحدى وأربعون سنة " ودرَّس بالبديرية، وبالحجازية أولَ ما أنشئت، فاستمرنا معه. وبالخروبية: جعله صاحبها متصدرًا بها فاستمرت بيده. وولِيَ تدريس الخشابية بجامع مصر - العتيق - نحوًا من ثلاثين سنة، وولي قضاء الشام في سنة تسع وستين عوضًا عن التاج عبدالوهاب السبكي، فباشره دون السنة، وعاد إلى مصر وأضيف إليه بعد عودته تدريس المالكية والتفسير بجامع ابن طولون، ثم بالمدرسة الظاهرية البرقوقية لما فُتِحت "(1).
في الفترة التي أمضاها بدمشق على قضاء الشام، قرابة سنة، أحيا عهود الأئمة من السلف الصالح، في قضائه وعدله وسداده. وخطب بالجامع الأموي ودرَّس في دار الحديث الأشرفية، فينقل ابن حجر عن ابن حِجِّي البستاني، أحمد بن حجي بن موسى الدمشقي الشافعي حافظ الشام المؤرخ (751 - 816 هـ) قال: " قدم علينا دمشق قاضيًا، فبهر الناس بحفظه وحسن عبارته وجودة معرفته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت
= البلقيني " ووقع في طبعة دار الكتب من الخطط التوقيفية - 1970 م - أن المدرسة " أنشأها سراج الدين عمر في حياته، ولما مات رحمه الله سنة إحدى وتسعين وسبعمائة - كذا! - دفن بها، ودفن بها أيضًا الشيخ الصالح البلقيني الصغير "!؟ 3/ 2293.
(1)
المجمع المؤسس 217، ومثله في ذيل التذكرة، لابن فهد 209.
والمدارس التي كانت بيده، نقلا من (الخطط المقريزية):
* البديرية: أنشأها ناصرالدين محمد بن محمد بن بدير العباسي سنة 758 هـ وقرر فيها درسًا للشافعية، درس فيه شيخنا السراج البلقيني (2/ 311).
* الحجازية: بجوار قصر الحجازية، أنشأتها سنة 761 هـ خوند تتر بنت الملك الناصر محمد، زوجة الأمير بكتمر الحجازي. جعلت بها درسًا للفقهاء الشافعية قررت فيه شيخنا سراج الدين البلقيني ودرسًا للمالكية، وإمامًا ومقرئين ومكتبًا لأيتام المسلمين، مع أوقاف جليلة (2/ 282).
* الخروبية: عَمَّرها بدرالدين محمد بن محمد الخروبي بعد سنة 750 هـ وقرر لدرس الفقه بها البهاء ابن عقيل، والسراج البلقيني (2/ 369).
* الخشابية: بزواية الإِمام الشافعي رضي الله عنه بجامع مصر العتيق.
* الظاهرية البرقوقية: بين القصرين، شُرِعَ في عمارتها في شهر رجب سنة 786 باسم السلطان الظاهر برقوق، وافتتحت في شهر رجب سنة 788 هـ، وقرر فيها الشيخ سراج الدين البلقيني مدرسًا للتفسير، وشيخ الميعاد (حسن المحاضرة 2/ 271).
فاعترفوا بفضله " ونقل التقي ابن فهد عن شيخه الحافظ البرهان الحلبي سبط ابن العجمي، قال: " بهر من هناك بالشام من الشيوخ المصريين والشاميين، بجودة إيراده وإصداره وتحريره وبلاغته، وأقروا له بالتقدم والإِمامة، ودمشق وقتئذ غاصة بالأئمة الفضلاء ".
وولي قضءا العسكر سنة 773 هـ، ثم تركه لولده " بدرالدين محمد " عندما عُيِّن لقضاء القضاة 779 هـ، لكن الأمر لم يتم، وقد سما الشيخ على كل منصب، وولي قضاءَ القضاة في حياته ابنه " الجلال عبدالرحمن " وتفرغ هو لتكاليف الإِمامة والفتيا والتدريس. قال ابن حجر:" ولم تر العين مثله ولا رأى مثل نفسه. واشتهر اسمه في الآفاق وبعُد صيته إلى أن صار يُضرَب به المثل في العلم، ولا تركن النفس إلا إلى فتواه، وكان موفقًا في الفتوى يجلس من بعد صلاة العصر إلى المغرب يكتب على الفتاوى من رأس القلم غالبًا. ولا يأنف إذا أشكل عليه شيء من مراجعة الكتب ولا من تأخير الفتوى عنده إلى أن يحقق أمرها. وكان فيه من قوة الحافظة وشدة الذكاء ما لم يُشاهد مثله، وشرحُ ذلك يطول " وقال ابن فهد: إنه وصف بالتفرد قديمًا. ونقل من (الطبقات لمحمد بن عبدالرحمن العثماني قاضي صفد) قوله في ترجمته: " هو شيخ الوقت وإمامه وحجته. انتهت إليه مشيخه الفقه في وقته. وعلمه كالبحر الزاخر، ولسانه أفحم الأوائل والأواخر "(1).
قلت: القاضي العثماني، صاحب الطبقات الشافعية، توفي سنة 770 هـ، قبل خمس وثلاثين سنة من وفاة الإِمام البلقيني شيخ الإِسلام.
وقال ابن فهد: " قال شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي: اجتمعت به في رحلتي الأولى إلى القاهرة سنة ثمانين، فرأيته إمامًا لا يُجارَى، أكثرَ الناس ِ استحضارًا لكل ما يُلقى من علوم. كان فيه من قوة الحافظة وشدة الذكاء ما لم يُشاهد مثلُه. وقد حضرت عنده عدة دروس مع جماعة من أرباب المذاهب الأربعة، فيتكلم على الحديث الواحد بعد طلوع الشمس فربما أُذِّن للظهر في الغالب وهو لم يفرغ من الكلام عليه، ويفيد فوائد جليلة لأرباب كل مذهب، خصوصًا المالكية
…
وممن كان يحضر عنده الإِمام نورالدين ابن
(1) ابن فهد، في ذيل التذكرة: 215، مع ابن حجر، في الإنباء: 2/ 246.
الجلال، أفقه أهل القاهرة وقتئذ في مذهب الإِمام مالك، وكان يستفيد منه، وكذا جمع سواه من أرباب المذاهب الأربعة. واستفدت منه فوائد جمة في التفسير والحديث والفقه والأصول .. وهو أجلُّ من أخذت عنه العلم " (1).
وحكى " أبو عبدالله الراعي عن بعض علماء المالكية "، قال:" كنا نقرأ المدوَّنة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي، فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي، فقال الشيخ: " في مذهبنا كذا " في مسألة لم يقل فيها: عن الشافعي، بما قال، وإنما نسبها لنفسه - ثم فطن وحذر أن يقولوا: أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي، فقال: " فإن قلتم يا مالكية عنا، لسنا بمالكية، قلنا: كذلك أنتم قاسمية، وقد اجتمعنا الكل في مالك " قال الرواي: وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ. ولما قرئ عليه (كتاب الشفا) مدحه وأثنى عليه إلى الغاية، وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي [جلال] الدين عبدالرحمن ابنُه، ما لكم يا مالكية لا تكونون مثل القاضي عياض؟ فقال له أبوه الشيخ سراج الدين: ومالك لا تقول للشافعية: ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض؟ (2).
وكان فيما وصفه أصحابه ومعاصروه " وقورًا حليمًا مهيبًا، سريع البادرة سريع الرجوع، ذكي العقل زكي النفس، نبيلا عالي الهمة عظيم المروءة، سريع البكاء في الميعاد مع الخشوع، لا يفتر عن الدرس والعمل ".
سوى أنه كان مع رسوخه في العلم: يتعانى النظم فيأتي منه بما نستحيي من نسبته إليه، وربما لم يُقم وزنه " قاله الحافظ ابن حجر. وتناقلوا قول البدر البشتكي الشاعر، أبي البقاء المصري محمد بن إبراهيم بن محمد (748 - 830 هـ) فيه: " لَمَّا لم يكن
(1) ابن فهد في ذيل تذكرة الحفاظ (215).
والنور ابن الجلال، علي بن يوسف بن مكي 803 هـ يأتي في تلاميذ الشيخ.
(2)
المقري: النفح 2/ 48 وقول الشيخ للمالكية: كذلك أنتم قاسمية، عنى " عبدالرحمن بن القاسم المصري " من كبار أصحاب الإمام مالك رضي الله عنه وراوي مدونة فقهه.
وأبو عبدالله الراعي، الغرناطي، المالكي، دخل القاهرة سنة 828 هـ واستقر بها وأخذ عن شيوخها وأمَّ بالمؤيدية، وفيها وفاته سنة 855 هـ.
للشيطان سبيل للإِمام الشيخ سراج الدين البلقيني، حَسَّنَ له نظم الشعر فجاء بما يُضحَك منه " (1).
" وخضع له الأئمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والنحويين، إذا ذُكِرَ خضعت له الرقاب حتى كان الشيخ جمال الدين الإِسنوي يتوقى الإِفتاء مهابة له، لكثرة ما كان ينقب عليه "(2).
وأجمع علماء الأمصار في زمانه على أنه " طبقة وحده، وكملت له أدوات الاجتهاد باتفاق، وأنه عالم المئة الثامنة، وذكروا فيه الحديث المشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس ِ كلِّ مئة سنة من يجدد لها أمر دينها " (3).
قالوا: " بُدئت بعمر، وخُتمت بعمر " يعنون عمر بن عبدالعزيز، خامس الراشدين رضي الله عنهم 101 هـ للمائة الأولى، وأبا حفص السراج عمر البلقيني، للمائة الثامنة.
ومن حيث انتهت إليه الرياسة في العلم والإِجماع على إمامته وعظم قدره عند العامة والخاصة لجلال شخصيته ونبل سجاياه وشدته في الحق، احتاجت إليه الأمة فيما مرَّ عليها من سنين شِداد بعد أن نعمت طويلا بالأمن والمنَعة والاستقرار في عهد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون.
ففيما بين وفاة الملك الناصر في ذي الحجة من سنة 741 هـ، إلى وفاة شيخ الإِسلام السراج البلقيني في ذي القعدة من سنة 805 هـ، شهدت مصر نهاية دولة المماليك الترك قهرة الصليبيين والتتار، وقيام دولة المماليك الجراكسة في سنة 784 هـ، وما كان في فترة
(1) المجمع المؤسس 219، الضوء اللامع 6/ 278، البدر الطالع 2/ 93 - 94.
(2)
الإنباء 2/ 246 والجمال الأسنوي، أبو محمد عبدالرحيم، من فقهاء الشافعية الأئمة بمصر (704 - 770 هـ).
(3)
رواه الحافظ السيوطي في مدخل كتابه (التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كلِّ مِئة) ونقل بعد تخريجه ما أسنده " الحاكم أبو عبدالله " عن الإِمام ابن شهاب الزهري، قال:" فلما كان في رأس المئة الأولى، مَنَّ الله على هذه الأمة بعمر بن عبدالعزيز " رضي الله عنه مخطوط بدار الكتب.
احتضار الدولة الأولى، أواخرها، من تحرك " تيمور لنك " مما وراء النهر واجتياحه بلاد الشام، وما صاحب ذلك كله من فتن شرسة حالقة، وما لابسه من انتعاش الصليبية بعد سحقها في عصر السلاطين الترك العظام: المظفر قطز والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون، وابنيه الأشرف خليل والناصر محمد. لقد خلف الناصرَ ثمانية سلاطين من بنيه وأحفاده لم تتجاوز مدتهم جميعًا بضعًا وأربعين سنة - أي أقل من مدة سلطنة الملك الناصر وحده - أولهم المنصور سيف الدين أبو بكر بن الناصر محمد، لم يلبث سوى شهرين اثنين خُلِعَ بعدَهُما ونُفِيَ وإخوتُه إلى قوص في صفر سنة 742 هـ وفيها قُتِلَ. فكان النذير الصادع بسنينَ مشئومة واحتضار بطيء لم يكد ينجو فيه أحد من أبناء الناصر وحفدته الذين تعاقبوا على السلطنة، من تعذيب ونفي وقتل. آخرهم " الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن الناصر محمد " بويع بعد مقتل أخيه " المنصور علي " في صفر سنة 783 هـ، ثم خُلِعَ في شهر رمضان من السنة التالية وتولى السلطنة الملك الظاهر برقوق، أول المماليك الجراكسة، وكان قويًّا جلْدًا شجاعًا ذكيًّا مهيبًا، مرجوًّا لصد الموجة التترية الطارئة، لكنه شغل بفتنة وإلى الشام، وخُلِع في جمادى الآخرة من سنة 791 هـ ونفى إلى الكرك. إلى أن استرد السلطنة في سنة 792 هـ بعد صراع ٍ دام ٍ مرير، وتيمورلنك قد اجتاح المماليك الشرقية وفعل الأفاعيل، والصليبيون يطئون ثغور الشام .. ورابط الظاهر برقوق في مصر متأهبًا لقتال، واقترض من تجارها وسُراتها ما جهز به عسكره " وكان السراج البلقيني يتقدم موكب العبماء في النفير لجهاد تيمورلنك ".
وتمت التعبئة وخرج السلطان إلى الشام في سنة 793 هـ وفي صحبته شيخ الإِسلام السراج البلقيني والقضاة والأمراء. وكسر الصليبيين مرة بعد مرة، إلى أن مات رحمه الله في ليلة النصف من شوال سنة 801 هـ.
بعدها " استهلت سنة 802 هـ وقد تحرك تيمورلنك إلى البلاد الشامية بعد أن غلب على ما وراءها وخرَّب ودمَّر، وقتل وذبح. ثم كانت الكائنة العظمى في سنة 803: " أعطى الطاغية أهل دمشق أمانًا على أن يؤدوا له ألف تُومَان، قيمة كل تومان عشرة آلاف دينار. فلما قبضها استباح دمشق وما حولها من ديار الشام: دورَها ومتاعها وأموالها ونساءها وصبيانها. وعاث جنوده في الديار فسقًا ونهبًا وقتلاً وخرابًا. وأعلنت التعبئة العامة
في مصر للخروج إلى الشام، وبُسِطتْ أيدي الجُباة في أموال الناس، وعَمَّ ذلك في أموال اليتامى والأوقاف " (1).
وسُعار الفتن لا يخبو، وأفاعيل الصليبيين والتتار لا تفتر.
في تلك السنين الشداد، كان " السراج البلقيني " ملاذ الأمة في جوائح النوازل وعصيب الأزمات. وإذ كان مترجموه من شهود العصر ومؤرخيه، كابن حجر والتقي المقريزي وابن تغري بردي، يدونون الصفحات الغُرَّ في سيرته ومواهبه ومكانته وسجاياه ومناصبه، فإنهم في تأريخهم لأحداث العصر، لا تكاد تمر نازلة أو محنة إلا ذكروه فيها: مستشارًا مؤتمنًا ومفتيًا إمامًا، ودليلا للركب الساري بليل ٍ، لا يكذب أهله. فهو يلقانا في تاريخ العصر بموافقة المشهودة وسلطانه على ملوك الزمان، فتاويه المسددة في النوازل، صادعًا بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، أمينًا على شريعة الله تعالى في عباده، قائمًا في الدفاع عنهم من جور ظالم ٍ وجبروتِ متعسف. كان كما قال الحافظ ابن حجر:" شيخ الوقت وإمام الأئمة الأعلام، عَيْنَ أهل الإِسلام وعالمهم ومفتيهم ومعلمهم، عون الإِسلام وحجة الله تعالى على خلقه، يعولون عليه في كل المهمات الدينية، ولا يستغنون عنه في الأمور الدينية. يُفزع إليه في حل المشكلات وكشف المعضلات، بحيث لم يكن لسلطانٍ أن يعقد مجلسًا إلا به، ويقتدي برأيه ومشورته " لا يملك أن يحيد عنها (2).
وقد امتُحن رحمه الله بأن ثكل ابنه البكر " بدرالدين أبا اليمن محمد " في سنة 791 هـ وهو في الحادية والأربعين من عمره. وكان أعجوبة في الذكاء والفطنة والسمت والنبل، مهر ودرَّس وتفوق في شبابه، وولي قضاء العسكر سنة 779 هـ قبل أن يبلغ الثلاثين، ثم ولي الإفتاء في دار العدل. وكان أبوه معجبًا به، فحزن عليه أشد الحزن، ودفنه في مدرسته التي أنشأها مقابل مسكنه (3) ثم تجلد الشيخ الثاكل للمصاب الفاجع، وتابع الرباط والجهاد في موقعه العلمي والاجتماعي والسياسي، لم يكل ولم يفتر " مواظبًا على دروسه ومواعيده بذهن صاف وقريحة ثاقبة، صادعًا بالحق على العهد به، عدوًّا لمن
(1) مستخلص بتضمين، من تاريخ مصر بعد الناصر إلى السنوات الأولى من القرن التاسع في: النجوم الزاهرة، وسلوك المقريزي، وإنباء الغمر لابن حجر.
(2)
المجمع المؤسس: 217، ونحوه في ذيل التذكرة لابن فهد.
(3)
بحارة بهاء الدين، وفيها (دار البلقيني) من معالم خطط القاهرة:(خطط المقريزي 2/ 52).
ينحرف عن الدين من الأمراء أو يظلم الرعية. قذًى في عين كل فاجر وطاغية ". يقول شاهد العصر الحافظ ابن حجر، في وفاته لاجين بن عبدالله الجركسي إنه كان مترشحًا لأن يلي المملكة: " وكان مشهورًا بسوء العقيدة، توعَّدَ أن يغير معالم الشريعة، ويبطل الأوقاف كلها، ويستولي عليها، ويحرق كتب الفقهاء كلها. وكان يتهدد الأعيان بالقتل، وأول من يعاقب شيخ الإِسلام البلقيني. فحال الله تعالى دون ذلك، وقدّر موت لاجين في شهر ربيع الأول من هذه السنة - 804 هـ - وكفى الله شره " (1).
وعاش شيخ الإِسلام بعده سَنةً ونصفَ سنة، قويًّا جلدًا، مرابطًا مجاهدًا.
في أصيل يوم الجمعة، العاشر من ذي القعدة الحرام سنة خمس وثمانمائة، توفي شيح الإِسلام، عالم المائة الثامنة، قبيل صلاة العصر. وصلى عليه ابنه " الجلال عبدالرحمن قاضي القضاة " وشيعوه رضي الله عنه إلى مدفنه في مدرسته بحارة بهاء الدين في مشهد حافل مهيب. ونعوه إلى الأمة الإِسلامية وبلغ نعيه إلى الحجيج بعرفة فأصم ناعيه الواقفين بها. وقد كان الشهاب ابن حجر فيهم.
وظل الحزن عليه طويلا: خلا مكانه في الفقه والفتيا لم يخلف مثله. وأما في الحديث فكان لمصر وللأمة، حافظها الإمام الحجة الصدر " زين الدين أبو الفضل عبدالرحيم بن الحسين العراقي " إلى أن لحق بشيخ الإِسلام البلقيني، في ذي القعدة من السنة التالية (806 هـ) وكان مولده قبله بسنة واحدة كذلك: توفي كلاهما عن إحدى وثمانين سنة وثلاثة أشهر إلا أيامًا. فذلك قول الشهاب ابن حجر في مرثيته لشيخه سراج الدين عمر، وضمنها رثاء شيخه الزين العراقي:(2)
يا سائلي جهرة عما أكابده .............................. " عَدَتْكَ حاليَ لا سِرّي بمستتر "
أَقضي نهاريَ في غمٍّ وفي حَزَنٍ ............................ وطول ليليَ في فكرٍ وفي سهَرِ
(1) إنباء الغمر، وفيات سنة 804 هـ (2/ 221).
(2)
اقتصر ابن حجر في المجمع على ثلاثة أبيات منها - الأول والأخيران مما هنا - وروى السيوطي منها مائة بيتٍ واثنين وثلاثين في (حسن المحاضرة)(1/ 330 - 335).
فرحمة الله والرضوان تَشمله ............................... سلامةٌ، ما بكى باكٍ على عُمَرِ
في القرن الأول الأخير لقد .................................. أحيا لنا العُمَرَانِ الدينَ عن قدَرِ
لكنْ أضاء سراج الدين منفردًا ............................. وذاك مشترَكٌ في سبعةٍ زُهُرِ
.....................................
من للفتاوى وحل المشكلات إذا ............................ جلَّ الخطاب وظل القوم في فِكَرِ
لمن يكون اختلاف الناس إن نعقتْ ......................... عمياءُ، والحكمُ فيها غيرُ مُستَطرِ
ترى خوارقَ في استنباطه عجبًا ................................ يردُّها العقلُ لولا شاهدُ البصرِ
قالت حواسدُه لَمَّا رأو غُرَرًا ................................... من بحثه خُبْرُها يربو على الخَبَرِ
الله أكبرُ ما هذا سوى مَلَكٍ .................................... وحاشَ الله ما هذا من البشَرِ
عهدي بأكبرهم قدرًا بحضرته ................................ مثل البُغاثِ لدى صقر من الصَّغَرِ
..............................................................................................
لهفي عليه لِلَيْل ٍ كان يقطعه ............................... نفلاً وذكرًا وقرآنا إلى السحَر
لهفي عليه لضدٍّ كان يدفعه ................................ عن الخلائق من بدوٍ ومن حَضَر
نعم، ويا طول حزني ما حييت على ...................... " عبد الرحيم " فحزني غير مقتصر
لهفي على حافظ العصر الذي اشتهرت ................... أعلامه كاشتهار الشمس في الظُّهُرِ
عِلم الحديث انقضى لما قضى ومضى ....................... " والدهر يفجع بعد العين بالأثر "
لهفي على فقد شيخيَّ اللذين هما ........................... أعز عنديَ من سمعي ومن بصرِي
اثنان لم يرتق النسران ما ارتقيا ............................. نسر السماء ونسر الأرض إن يَطرِ
لا ينقضي عجبي من وَفْقِ عُمرِهما .......................... العام كالعام، حتى الشهْر كالشَّهرِ
عاشا ثمانين عاما بعدها سنَةٌ ................................ وربعُ عام سوى بعض ٍ لمعتبِرِ
في وفيات سنة خمس وثمانمائة، كتب شيخ الإِسلام الحافظ ابن حجر، في ترجمة شيخه الإِمام " السراج أبي حفص البلقيني ":
" .. وكنت رأيت في هذه السنة أنني دخلت مدرسته وهو يصلي الظهر فأحسَّ بي داخلا فتمادى في الركوع فأدركتُ معه صلاة الظهر. فعبرتها عليه فقال لي: يحصل لك ظهور
كبير. قلت: وبقية المنام أنك تأخرت لي حتى أدركتُك فأخذتُ عنك، وأذنتَ لي في ذلك. وكان الأمر كذلك " (1).
بعد نحوٍ من قرن، كان الحافظ جلال الدين السيوطي يدون بقلمه سيرته الذاتية فيكتب:
" ولما حججتُ شربت من ماء زمزم لأمورٍ منها: أن أصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر "(2).
(1) إنباء الغمر: 2/ 247.
(2)
حسن المحاضرة: من كان بمصر من الأئمة المجتهدين (1/ 338).
بياض بالأصل.