الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة
اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو لعام: احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالصواب:
-
فذهب جمهور المعتزلة إلى امتناعه.
وذهب الباقون منا ومنهم إلى تجويزه.
وتوقف الشافعي رضي الله عنه في امتناعه وجوازه.
ومنهم من فصل كأبي علي الجبائي فقال: بجواز ذلك في حق النبي، دون غيره.
ثم القائلون بالجواز اختلفوا في وقوعه:
فقال بعضهم بوقوعه كابن عمران.
من المعتزلة.
ومنهم من لم يقل به وهو اختيار الباقين منهم.
واحتج القائلون بامتناعه بوجهين:
أحدهما أن الله تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد على ما تقدم تقريره في باب القياس، فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لم يأمن من اختياره المفسدة؛ لأن اختيار العبد متردد بين أن يكون مصلحة وبين أن يكون مفسدة وذلك مخل بمقصود الشرائع.
وجوابه: منع المقدمة الأولى، وقد تقدم ما في ذلك نفيًا وإثباتًا.
سلمناه لكنه لما قال له: لا تحكم إلا بالصواب أمنًا من اختيار المفسدة.
وثانيهما: أنه لو جاز هذا التكليف، فلا يخلو إما أن يجوز بناء على أن الفعل قبل اختياره ما كان مصلحة، وإنما صار كذلك باختيار المكلف، والقسمان باطلان فبطل القول بذلك.
وإنما قلنا: إنه لا يخلو عن الأمرين؛ لأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد على ما تقدم تقريره فيستحيل أن يشرع حيث لا مصلحة قبل الفعل وعنده.
وإنما قلنا: إن القسمين باطلان؛ أما الأول فلوجوه:
أحدها: أنه إن جاز له الحكم على هذا الوجه في حادثة أو حادثتين، دون الحوادث الكثيرة لزم صرف الإجماع ضرورة أنه لا قائل بالفصل.
وإن جاز له ذلك في الحوادث الكثيرة فهو أيضًا باطل؛ لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة؛ ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي: اكتب
مصحفًا، فإنك لا تكتب إلا ما طبق ترتيب القرآن، وللجاهل: أخبر فإنك لا تخبر إلا بالصدق، ولأنه لو جاز الإصابة في الأشياء الكثيرة على سبيل الاتفاق لبطل دلالة الأحكام والاتفاق في العلم على علم فاعله؛ لاحتمال أن يقال: إن ذلك على سبيل الاتفاق، وكذلك تبطل دلالة الأخبار عن الغيب على النبوة.
وثانيها: أن الحكم بالشيء مشروط بالعلم أو الظن بحسنه لئلا يقدم المكلف على فعل المفسدة فلو جاز الحكم بالشيء قبل العلم أو الظن بحسنه لزم وجود المشروط بدون الشرط وهو محال. فإن قلت لا نسلم أنه حكم بالشيء قبل العلم أو الظن بحسنه وهذا لأنه علم حسنه بقوله: إنك لا تحكم إلا بالحق وهو يتضمن كونه حسنًا؛ فإن الحكم بما ليس بحسن على تقدير رعاية المصالح ليس بحق.
قلت: ذلك إنما نعرفه بعد الحكم فأما قبل الحكم فلا يكون المحذور لازمًا.
وثالثها: لو جاز ما نحن فيه لجاز أن يقال له: صدق بالنبوة من شئت فإنك لا تصدق الأنبياء، وكذب بالنبوة من شئت فإنك لا تكذب الأنبياء ولجاز في مسائل الأصول من غير تعلم واعتماد على دليل ألبتة، ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله ووعده ووعيده من غير وحي ينزل عليه نحو أن يقال له: بلغ عنا من الأحكام واخبر بالثواب أو العقاب ما شئت فإنك لا تبلغ ولا تخبر إلا بالحق لكن كل ذلك باطل بالإجماع فكذا ما نحن فيه.
ورابعها: أنه/ (347/ أ) لو جاز ذلك في حق النبي أو العالم لجاز في حق العامي، والجامع: الأمن من الوقوع في الخطأ والباطل لكنه غير جائز بالإجماع فكذا ما نحن فيه.
وأما بطلان القسم الثاني فلوجهين:
أحدهما: أن على هذا التقدير لا يكون ذلك تكليفًا؛ لأن حاصله راجع إلى قوله: إن اخترته فافعل، وإلا فلا، ومعلوم أن ذلك ليس تكليفًا.
وثانيهما: أن المكلف لا ينفك من الفعل والترك، ولا يجوز تكليف المرء بما لا يمكنه الانفكاك عنه؛ بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث، فإنه يمكنه الانفكاك عنه اجمع.
وجوابه: أنه أيضًا مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وهو ممتنع عندنا.
سلمناه لكن لا نسلم امتناع القسم الأول.
قوله: أولًا: لو جاز الحكم على هذا الوجه فإما أن يجوز في حكم -أو حكمين، أو في الأحكام الكثيرة.
قلنا: لم لا يجوز على الوجه الأول وما ذكرتم من لزوم خرق الإجماع فممنوع.
سلمناه لكن لم لا يجوز في الحكام الكثيرة.
قوله: الاتفاقي لا يكون أكثريًا.
قلنا: لا نسلم وهذا لأن جوازه مرة ومرتين يفيد جوازه مرارًا؛ لأن حكم الشيء حكم مثله، والأمثلة المذكورة إن لم يكن بينها وبين ما نحن فيه فرق [منعنا الحكم فيها وإن كان بينهما فرق] امتنع القياس لأن مع قيام الفرق يمتنع القياس على أن القياس لا يفيد اليقين.
سلمنا أن الاتفاقي بجميع جهاته لا يكون أكثريًا، لكن ما نحن فيه ليس كذلك بل هو اتفاقي من حيث المصلحة ومعلوم السبب من حيث أنه لا يأتي إلا بالمصلحة فلم قلت إن مثله من الاتفاقي لا يكون أكثريًا؟ ثم جواز كونه أكثريًا حينئذ بيِّن، وبهذا خرج الجواب عن قوله إنه يبطل دلالة أحكام الفعل على العلم؛ لأن ذلك اتفاقي بجميع جهاته، ولأنا لا نجوز ذلك ولو مرة واحدة على سبيل الاتفاق.
وعن الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن ما نحن فيه حكم الشيء قبل العلم أو الظن بحسنه؛ وهذا لأن معنى ما نحن فيه أنك إن اخترت الفعل فاحكم على الأمة بالفعل، وإن اخترت الترك فاحكم عليهم بالترك، وذلك ليس حكمًا بالشيء قبل العلم أو الظن بحسنه بل بعده؛ لأنه بالفعل علم أو ظن حسنه ثم حكم به على الأمة فلم يلزم منه ما ذكرتم من المحذور.
وأجيب أيضًا: بالنقض بما إذا أفتى أحد المفتيين المتساويين بالحظر، والآخر بالإباحة فإن المستفتي مخير في العمل بأيهما شاء مع أن ذلك قبل العلم أو الظن بحسنه أو قبحه.
وفيه نظر؛ لأن فعل العامي غير مشروط بالعلم أو الظن يحسن الفعل بل ما أفتى به المفتي؛ بخلاف المجتهد فإنه لا يجوز له أن يفعله ويحكم ما لم يغلب على ظنه اشتمال الفعل على المصلحة فلم يحصل.
سلمنا أنه حكم قبل العلم أو الظن بحسن الفعل لكن ما هو المقصود من اشتراط ذلك وهو أن يأمن المكلف من فعل القبيح حاصل فيما نحن فيه بالطريق الولى؛ لأنه حين يفعل الفعل بناء على غلبة ظنه بحسنه أو علمه بحسنه جاز أن لا يكون علمه وظنه مطابقًا فيقع في فعل المفسدة بخلاف ما إذا قال له الشارع: احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق فإن احتمال ذلك غير متصور
فيه، وإذا كان كذلك كان جواز الفعل فيه اولى من جواز الفعل فيما إذا ظن حسنه أو علم.
وعن الثالث: منع امتناع اللوازم المذكورة.
فإن قال بعض القائلين بجواز ما نحن فيه وبامتناع تلك اللوازم لم يلزم أن يقول غيره بذلك.
سلمناه لكن الفرق بينهما قائم؛ وذلك لأن الفروع مما يكتفى فيها بالظن ويسوغ فيها الاجتهاد بناء على الأمارات فجاز أن يفوض إلى رأي المجتهد، وجعل اختياره علامة على كونه مصلحة وصوابًا بخلاف ما ذكرتم من المسائل فإن المطلوب فيها القطع بناء على الأدلة القاطعة فلم يلزم من جواز ذلك القول في مسائل الفروه جوازه في مسائل الأصول، ويخص مسألة تبليغ الحكام والوعد والوعيد بان ذلك يورث وهمًا وريبة في الوحي والنبوة؛ لاحتمال أن يقال: إن الأنبياء إنما يخبرون ويبلغون من الأحكام ما يبلغون من غير وحي ينزل عليهم، وأعلام يعلمون، بل من تلقاء أنفسهم وإن كان ذلك بعد ذلك القول معهم ولا شك في أن ذلك يوجب النفرة.
وعن الرابع: يمتنع امتناع اللازم، والكلام في الإجماع ما سبق.
سلمنا لكن الفرق قائم، وهو أن ذلك غير لائق بحال العامي من حيث أنه مقلد تابع فلا يجوز أن يكون مقلدًا متبوعًا.
سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز القسم الثاني.
قوله أولًا: إنه ليس بتكليف.
قلنا: لا نسلم، وهذا لأنه تكليف محقق على ما تقدم من تفسير هذا التكليف.
قوله ثانيًا: إنه تكليف ما لا ينفك المكلف عنه.
قلنا: لا نسلم وسنده ما تقدم من تفسير هذا التكليف، ثم هو منقوض إذا أفتى مفتيان متساويان في اعتقاد المستفتي أحدهما بالحظر، والآخر بالإباحة فإن جميع ما ذكرتم آت فيه كل ما هو جوابكم ثمة فهو جوابنا ها هنا.
واحتج القائلون بإمكانه بوجوه:
أحدها: أنه لو كان ممتنعًا فإما أن يكون امتناعه لذاته وهو باطل؛ لأنا نعلم قطعًا أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرًا إلى ذاته، أو لأمر من خارج وهو أيضًا باطل لأن الأصل عدمه فمن ادعى فعليه بيانه.
وأجيب: بأنه تمسك بالأصل وهو لا يفيد إلا الظن والمسألة علمية.
سلمناه لكن لم لا يجوز أن يمتنع لأمر خارجي وهو كونه متضمنًا للنفرة إن كان ذلك في حق النبي، أو لكونه مخلًا بمقصود الاجتهاد إن كان ذلك في حق المجتهد.
سلمناه لكنه يقتضي أن يكون ممكنًا عقليًا ولا يلزم منه أن لا يكون ممتنعًا عاديًا فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ فإن ادعاء امتناعه أعم من ادعاء امتناعه عقلًا، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام.
وثانيها: أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها في مسألة الواجب المخير ثم إنه تعالى فوضها إلى المكلف لما علم أنه لا يختار إلا ذلك الواجب، وإذا جاز ذلك جاز ما نحن فيه لأنه مثله أو أولى منه بالجواز.
وجوابه: أنه مبني على أن الواجب في/ (348/ أ) خصال الكفارة واحد
معين عند الله تعالى غير معين عندنا وهو باطل لما تقدم من تقرير دلائله.
سلمناه لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز ما نحن فيه وإلا لزم جواز ذلك في حق العامي ضرورة جواز التخيير في خصال الكفارة له لكن ذلك باطل لمساعدة الخصم عليه.
وثالثها: إذا أفتى للمستفتي مفتيان متساويان في اعتقاد المستفتي أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فإنه يجوز ذلك ويُخيَّر المستفتي في الأخذ بقول أيهما شاء وفاقًا، وإذا جاز ذلك جاز ما نحن فيه إذ لا فرق بين أن يقال: اعمل بقول أيهما شئت فإنك لا تعمل إلا الصواب. وبين أن يقال: اعمل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا فرق بينهما؛ هذا لأن كل واحد من ذينك القولين مبني على الدليل بطريق الاجتهاد فيحتمل الترجيح، قلما امتنع ذلك لتساوي المجتهدين صير إلى التخيير كما في حق المجتهد بالنسبة إلى الدليلين، وأما ما نحن فيه فلس كذلك بل هو قول بمجرد الميل والاختيار فلا يلزم من جواز الأول جواز الثاني.
سلمناه لكنه يقتضي جواز ذلك في حق العامي وهو باطل وفاقًا.
سلمنا سلامته عن النقض لكنه قياس لا يفيد اليقين والمسألة علمية.
ورابعها: أن المعتمد في صحة التكليف أن يكون المكلف متمكنًا من الخروج عن عهدة التكليف، وما نحن فيه كذلك لأنه إذا قال الله تعالى له: احكم بما
شئت فإنك لا تحكم إلا بالصواب، أو افعل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الحق علم أن كل ما يختاره صواب فكان آمنًا من فعل القبيح، فكان متمكنًا من الخروج عن عهدة التكليف فوجب القطع بجوازه.
وجوابه: بعض ما سبق، ويخصه أن المعتبر في صحة التكليف أن يأمن المكلف من فعل القبيح قبل الفعل لعلمه أو ظنه بكون المكلف به غير مشتمل على القبح بناء على دليل أو أمارة وما نحن فيه ليس كذلك فلم يلزم الجواز.
وخامسها: إذا جاز الحكم بالأمارة الظنية مع جواز الخطأ فيها عن الصواب جاز الحكم بما يختاره المكلف من غير دليل وإن جاز عدوله عن جهة الصواب وجوابه بعض ما سبق ويخصه أنه لا يلزم من جواز العمل بالأمارة مع كونها مفيدة للظن جواز العمل بالاختيار من غير ظن مفيد للحكم وفيه نظر.
واحتج من قال بعدم وقوعه بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان الرسول عليه السلام مأمورًا بأن يحكم على وفق إرادته من غير دليل لما كان منهيًا عن اتباع الهوى؛ لأنه لا معنى له إلا الحكم بكل ما يميل قلبه إليه من غير دليل، لكنه كان منهيًا عن ذلك لقوله تعالى {ولا تتبع الهوى} .
لا يقال: لما قيل له ذلك القول كان ذلك نصًا من الله تعالى على حقية كل ما يميل إليه قلبه فلا يكون ذلك اتباعًا للهوى؛ لأنا نقول: فعلى هذا التقدير اتباع الهوى في حقه غير متصور، فلا يجوز أن ينهى عنه؛ لأن النهي عن غير
المتصور قبيح.
وجوابه: أنه لو دل على عدم الوقوع فإنما يدل في حق الرسول دون غيره، فالدعوى عامة، والدليل خاص وهو غير جائز.
سلمناه لكن لا نسلم أن النهي عن غير المقصود غير جائز.
سلمناه لكن لعل ذلك قبل أن يقال له: احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق فلا يكون حينئذ بينهما منافاة.
وثانيهما: أنه لو قيل له عليه السلام احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق لما قيل له: لم فعلت كذا لكن قيل له ذلك قال الله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم.
جوابه بعض ما تقدم في الوجه الأول، ويخصه أنه ليس عتابًا على ترك الحق بل هو عندنا عتاب على ترك الأحق فلم قلتم أنه ليس كذلك؟
واحتج من قال بوقوعه بوجوه:
أحدها: قوله تعالى {كل الطعام كان حلًا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} أضاف التحريم إليه فدل على أنه مفوض إليه وهذا إنما يدل على الوقوع في حق نبينا صلى الله عليه وسلم.
وجوابه: أنه يحتمل أن يكون ذلك التحريم بالنذر، أو الاجتهاد، وحينئذ تحسن الإضافة إليه فلم يدل على صورة النزاع، وإثبات التحريم بالنذر ربما كان جائزًا في شرعهم، ويحتمل أيضًا أن يكون باليمين؛ فإن اليمين تحرم
عند بعض المجتهدين من أمتنا فربما كان ذلك ثابتًا في شرعهم.
وثانيها: ما روي عنه عليه السلام أنه لما قال في مكة: لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فقال: إلا الإذخر، فهذا الحكم ما كان بالوحي؛ لأنه لم يظهر علامة نزول الوحي فيكون بناء على أنه فوض إليه وإلا لما صح.
لا يقال: هذا الحديث متروك الظاهر لأن ظاهره يقتضي جواز الاستثناء المنفصل وهو غير جائز على ما تقدم تقريره. وحينئذ يصار إلى تأويله وليس البعض أولى من البعض فيكون محتملًا فلا يصح الاستدلال به؛ لأنا نقول: ليس استدلالنا من جهة حقيقة اللفظ ومجازه حتى يتجه ما ذكرتم بل من جهة أنه شرع الحكم من تلقاء نفسه من غير وحي نزل عليه في تلك اللحظة في خصوص تلك القضية على أنا نمنع أنه متروك الظاهر؛ وهذا لأن السكوت اليسير لا يقطع اتصال الكلام بعضه ببعض فلعل سكوته عليه السلام تلك اللحظة اللطيفة التي تكلم بها العباس يسير فلما قال العباس ذلك وصله بما قبله.
وثالثها: نادى مناديه عليه السلام يوم فتح مكة "أن اقتلوا مقيس بن صبابة، وابن أبي سرح وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة" ثم عفا عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان، ولو كان الله تعالى أمر بقتله ما قبل شفاعة عثمان وغيره إلا بوحي آخر، ولم يوجد ذلك لما أن له علامة كانوا يعرفونها وما ظهر في ذلك الوقت شيء من ذلك.
ورابعها: أنه نادى مناديه"لا هجرة بعد الفتح" حتى استفاض ذلك وبينما
المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع بن مسعود بالعباس بن عبد المطلب شفيعًا ليجعله مهاجرًا بعد الفتح فقال/ (349/ أ)"اشفع عمي ولا هجرة بعد الفتح".
وخامسها: أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته بنت النضر بن الحارث فأنشدته:
أمحمد وأنت ضنؤ نجيبة
…
من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
من الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال عليه السلام: "أما أني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته" ولو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة. فدل ذلك على أنه كان مفوضًا إليه حتى كان يمكنه القتل أو العفو على حسب ما كان يختار.
وسادسها: قوله عليه السلام "عفوت عن الخيل والرقيق" وذلك يدل
على أنه من جهته بطريق التفويض وهو المطلوب.
وسابعها: "روي أنه عليه السلام قال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقال، الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله "يقول ذلك والرسول ساكت فلما أعاد قال: والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها دعوني ما ودعتكم.
وثامنها: أن ابن عباس قال: -أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء- ذات ليلة فخرج ورأسه يقطر فقال: لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين.
ونحوه قوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" ولو كانت هذه الأحكام ثابتة بالوحي لما جاز تركه، ولو كان غير موحى إليه لما جاز له أن يقول لشرعت فلم يبق إلا أن يقال إنه مفوض إليه بحسب اختياره.
وتاسعها: قال جابر: لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ماعزًا رجم فقال: "هلا تركتموه حتى أنظر في أمره" فلو لم يكن حكم الرجم مفوضًا إليه لما
قال ذلك.
وعاشرها: ما روي أنه عليه السلام قال "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها" وذلك يدل على أن الحل والحرمة مفوضة إليه في ذلك.
وحادي عشرها: روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن عشت إن شاء الله تعالى أن أنهى أمتي أن يسموا نافعًا وأفلح وبركة" وهذا الكلام يدل على أن له ذلك بطريق التفويض وإلا فبدونه وبدون الوحي الصريح باطل وفاقًا.
وثاني عشرها: قوله عليه السلام: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى رأيت فارس والروم تفعل ذلك فلا يضر أولادها شيئًا" فحكم بمجرد رأيه.
وجواب الكل: أنا لا نسلم أن ذلك بطريق التفويض؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون بطريق الوحي.
قوله: له علامات يعرفونها.
قلنا: ذلك في الغالب ولزومها في كل مرة ممنوع.
سلمناه لكن لم لا يجوز أن يقال: إنه ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطًا مثل أن يقال: لو استثنى أحد شيئًا فاستثن له ذلك، أو لو قلت في سؤال وجوب الحج كل عام لوجب كل عام وكذا نظائره.
سلمناه أنه ليس بطريق نزول الوحي فلم لا يجوز أن يكون بطريق الإلهام؟
وهو إن كان وحيًا لكنه ليس من الوحي الذي تظهر له العلامات، وإذا كان كذلك لم يكن فقد العلامات قدحًا فيه، ثم الذي يؤكد ذلك قوله تعالى:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} .
سلمناه ولكن لم لا يجوز أن يكون بالاجتهاد؟ وعلى هذا التقدير لا يلزم صحة مذهب الخصم. وإذا ظهر ضعف مأخذ الفرق الجازمين وجب التوقف على ما هو مختار الشافعي رضي الله عنه.