الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
يجوز التعليل بالحكمة عند قوم.
وقال قوم لا يجوز
.
ومنهم من فصل فقال: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها، وإلا فلا، وهو المختار.
أما الأول فالدليل عليه من وجوه:
أحدها: أنا إذا ظننا أن الحكم في المحل الفلاني إنما ثبت لحكمة كذا، ثم ظننا حصول تلك الحكمة في محل آخر، فإنه يغلب على ظننا ثبوت ذلك الحكم في ذلك المحل الآخر، والعمل بالظن واجب لما سبق، ولا نعني بكون التعليل بالحكمة جائزًا سوي هذا.
ومعلوم أن هذا لا يتأتي إلا إذا كانت الحكمة مضبوطة يمكن معرفة مقاديرها، فإنها إذا كانت غير مضبوطة لا يمكن معرفة مقاديرها فيتعذر حصول الظن بالمقدمتين.
وثانيها: أنا أجمعنا على أن الوصف الحقيقي إنما يكون علة لاشتماله على الحكمة، وإن كانت تلك الحكمة خفية غير منضبطة، فإذن علية الوصف لعلية الحكمة، وهي علة العلة فأولي أن تكون علة الحكم، مقتضي هذا أن يجوز التعليل بالحكمة، وإن كانت خفية، ترك العمل به في الحكمة الخفية المضطربة لخفائها وعدم ضبطها، فوجب أن يجوز التعليل بالحكمة المضبوطة الظاهرة كما يجوز بالوصف الحقيقي بل أولي؛ لأن عليتها بالأصالة وعلية الوصف بالعرض.
وثالثها: أن التعليل بالحكمة جائز عرفًا؛ إذ يقال: إنما أعطي الأمير لدفع
حاجة الفقير، وإنما فعل كذا لمصلحة كذا، أو لدفع مفسدة كذا فوجب أن يجوز شرعًا للحديث.
وأما الثاني فالدليل عليه من وجهين:
أحدهما: أنه لو جاز التعليل بالحكمة مطلقًا لما جاز التعليل بالوصف لكن ذلك جائز بالإجماع، فوجب أن لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقًا، بيان الملازمة: أن العلة بمعني الداعي إلى الحكم، أو المؤثر فيه إما بجعل الشارع مؤثرًا فيه، أو بذاته على اختلاف فيه، أو بمعني المعرف، إنما هو الحكمة، لا الوصف، والعلم بذلك جلي غني عن البيان، فإنه وإن فسرت العلة بالمعرف فلا شك في أنه يعتبر فيها المناسبة وهي بالحكمة، إذ الوصف لا يكون مناسبًا ما لم يعرف اشتماله على الحكمة فالتعليل بالوصف إنما هو لكونه مشتملًا على الحكمة فعليته لعلية/ (216/ أ) الحكمة، فلو جاز التعليل بالحكمة مطلقًا لما جاز التعليل بالوصف، لأن كل ما يقدح في التعليل بالحكمة يقدح في التعليل بالوصف من غير عكس، ضرورة أن القادح في الأصل قادح في الفرع من غير عكس، فالتعليل بالوصف مع إمكان التعليل بالحكمة تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة، وزيادة مشقة وحرج على المكلف من حيث أنه يجب عليه البحث عنه والنظر فيه، وكل ذلك ينافي مقتضي حكمة الشارع ونصوصه النافية للحرج والمشقة.
وثانيهما: أن الحكمة إذا كانت خفية مضطربة مختلفة باختلاف الصور والأشخاص، والأزمان، والأحوال، فإنه لا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم إلا بالبحث الشديد، والنظر الدقيق، ونحن نعلم بالاستقراء من ذات الشارع رد الناس في مثل هذا إلى المظان الظاهرة الجلية دفعًا للتخبيط، وإزالة
التغليظ، ونفيًا للحرج والمشقة والعسر والضرر، ألا تري أن المشقة لما لم تنضبط ويختلف الناس باختلاف الأشخاص والأحوال رد الشارع في جواز القصر والفطر بسببها إلى مظنتها في الغالب وهو السفر الطويل، وكذا وجوب الاعتداد لبراءة الرحم منوط بالوطء الذي هو مظنة شغل الرحم بالماء لا بحقيقة الشغل؛ لأن ذلك مما يعسر الاطلاع عليه وأمثاله كثيرة في الشرع.
فإن قلت: لا نزاع في أنه إذا حصل ظن أن الحكم في الأصل معلل بحكمة كذا، وحصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخري حصل ظن حصول ذلك الحكم في تلك الصورة، لكن لا نسلم إمكان حصول الظنين، وما الدليل عليه؟
ثم الذي يدل على امتناع حصول ذلك هو أن حاصل التعليل بالحكمة راجع إلى التعليل بحاجة تحصيل المصلحة ودفع المفسدة، فالحكم لو كان معللًا بها، فإما أن يكون معللًا بمطلق الحاجة المحصلة، أو الدافعة، أو بالحاجة المخصوصة منها.
والأول باطل وإلا لكان حيث تحقق منه الحاجة تحقق الحكم وهو خلاف الإجماع والاستقراء.
والثاني أيضاً باطل؛ لأن الحاجة أمر باطن خفي فلا يمكن الوقوف على مقاديرها، وامتياز كل واحدة من مراتبها التي لا نهاية لها عن المرتبة الأخرى، وحينئذ يتعذر التعليل بها؛ إذ التعليل بالحاجة المخصوصة يستدعي تعقلها وتميزها عما عداها؛ ضرورة أن التصديق بالشيء مسبوق بتصوره.
ولو سلمنا إمكان حصول الظنين لكن بعسر وحرج أو بدونه، والأول مسلم لكن التكليف بطلب مثله مدفوع بالنصوص النافية للعسر والحرج فلا يجوز التعليل به والثاني ممنوع.
سلمنا دلالة ما ذكرتم على المطلوب لكنه معارض بوجوه:
أحدها: لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلبها؛ لأن القياس مأمور به على ما عرفت ذلك من قبل، وهو لا يتم بدون وجدان العلة ووجدانها متوقف على الطلب، وما يتوقف عليه المأمور به المطلق وكان مقدورًا للمكلف فهو مأمور به، فيكون طلبها مأمورًا به فيكون طلب الحكمة مأمورًا به، لكن طلبها غير مأمور به؛ لأن الحكمة راجعة إلى الحاجة إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد وهي مما يخفي ويزيد وينقص فلا تكون ظاهرة ولا منضبطة، وما هذا شأنه [لا يعلم] إلا بمشقة شديدة وكلفة كلفة، وما يكون كذلك وجب أن لا يكون مأمورًا به بالنصوص النافية للحرج والمشقة.
وثانيها: أن استقراء أحكام الشرع يدل: على أن الحكم غير معلل بالحكم، بل بالأوصاف المشتملة عليها، بدليل أنا لو فرضنا حصول تلك الحكم بدون تلك الأوصاف [لم تترتب تلك الأحكام عليها، ولو فرضنا حصول تلك الأوصاف] بدون الحكم ترتبت تلك الأحكام عليها، وذلك يدل ظاهرًا على أن الحكم غير معلل بالحكمة.
وثالثها: أن مقتضي الدليل عدم جواز التمسك بالعلة المظنونة؛ لما تقدم آنفًا، ترك ذلك في الأوصاف الجلية المضبوطة لمسيس الحاجة وظهورها، فوجب أن يبقي ما عداها على الأصل.
ورابعها: أن الحكمة متأخرة الحصول عن الحكم ولا شيء من العلة بمتأخر عنه فلا شيء من الحكمة بعلة.
قلت: قوله: ما الدليل على إمكان حصول الظنين.
قلنا: من الظاهر أن الحكمة إذا كانت ظاهرة مضبوطة كان الظن بحصولها كالظن بحصول الوصف إذا لم يزد الوصف عليها حينئذ بما يوجب سهولة حصول الظن أو العلم به، نعم إذا كانت الحكمة خفية مضطربة كان تحصيل الظن أو العلم بحصولها صعب عسر لا أنه غير ممكن.
وبهذا خرج الجواب عما ذكر من الدلالة على امتناع حصول الظن بها؛ لأنا نمنع أن الحكمة الظاهرة المضبوطة لا يمكن الوقوف عليها، على أن ما ذكر من الدلالة منقوض بالوصف، فإنه لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة الحكم، والمعني بذلك: أنا نستدل بكون الوصف مشتملًا على [المصلحة على كونه علة فلا يخلو إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على] مطلق المصلحة وهو باطل، وإلا لكان كل وصف مشتمل على المصلحة كيف كانت علة لذلك الحكم أو على مصلحة مخصوصة/ (217/ أ) معينة، وحينئذ نقول: لا جائز أن تكون تلك المصلحة بحيث لا يمكن الاطلاع عليها وإلا امتنع الاستدلال بمناسبة الوصف على عليته للحكم لما تقدم أنه لا معني لمناسبة الوصف للحكم إلا اشتماله على المصلحة الملائمة للحكم وثبت أنه لا يجوز أن تكون تلك المصلحة مطلق المصلحة فيتعين أن تكون مصلحة مخصوصة معينة، فلو لم تكن تلك المصلحة بحيث يكون الاطلاع عليها ممكنًا لما أمكن الاستدلال بالوصف المناسب على عليته، وإذا بطل هذا القسم تعين أن تكون تلك المصلحة بحيث يكون الاطلاع عليها ممكنًا، وحينئذ ينتقض الدليل. فظهر بهذا بطلان قولهم: إن الحاجة أمر خفي لا يمكن الوقوف عليها.
وبه خرج الجواب أيضًا عن قوله: إنه وإن أمكن حصول الظنين لكن يعسر حصولهما؛ فإنا نمنع ذلك أولًا لما سبق، وننقضه ثانيًا بما تقدم وهو الجواب
بعينه عن المعارضة الأولى.
وعن الثانية: نمنع أن الأحكام غير المعللة بالحكم والمصالح؛ وهذا لأن كثيرًا من الأحكام معلل بالحكم وحدها نحو: وجوب التوسط في إقامة الحد بين المهلك وغير الزاجر، ووجوب إقامة التعزير وإساقطه وقدره، وكذا الفرق بين العمل القليل والكثير في الصلاة وكذا الفرق بين الأكل اليسير والكثير ناسيًا في الصوم على رأي وأمثاله كثيرة، نعم التعليل بالأوصاف أكثر؛ لأنها أقرب إلى الضبط والاطلاع عليها أسهل.
وعن الثالثة: ما تقدم غير مرة.
وعن الرابعة: أنها متأخرة عن الحكم في الوجود الخارجي، لا في الوجود الذهني وهي علة فيه؛ لأنها علة بمعني الباعث، وإن فسرت العلة بمعنى المعرف توجه المنع إلى المقدمة الثانية مع ما تقدم
تنبيه
القائلون بجواز التعليل بالحكمة إذا قيل لهم إن الحكمة مجهولة القدر في غالب الأمر وإن كانت جلية في نفسها، فإن حاجة الإنسان في مبدأ زمان الجوع، دون حاجته في أثنائه وانتهائه، وإذا كان كذلك لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود في الفرع فلم يصح القياس لعدم الظن بحصول العلة في الفرع.
فمنهم من أجاب هذا: بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين؛ لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة، وفي الفرع قدر معين، وكل مقدارين من نوع واحد لابد وأن يكون بينهما قدر معين مشترك بينهما، وذلك القدر يناسب التعليل به لكونه مصلحة مطلوبة الوجود.
فإذا نقض ذلك عليهم بأن يقال: المصلحة الفلانية مصلحة وحاجة مع إنها غير معتبرة في الحكم.
أجابوا: بأنا إنما عللنا الحكم بالقدر المشترك بين الأصل والفرع ونحن لا نسلم أن ذلك القدر المشترك بينهما حاصل في صورة النقض.
قال الأمام: وهذا ضعيف؛ وذلك لأنه يحتمل أن لا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل، والحاصل في الفرع اشتراك إلا في نفس كونه مصلحة، والتعليل بمسمى المصلحة غير ممكن، وإلا لحصل النقض المذكور وأمثاله من المصالح المنفكة عن الحكم.
وأما وجود قدر مشترك زائد على نفس كونه مصلحة فذلك غير معلوم ولا مظنون والتعليل بمثله غير جائز.