الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
في الفرق
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
اعلم أن الفرق عبارة عن إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون على مستقلة للحكم، أو جزء علته.
واختلفوا في قبوله وقدحه في العلة:
فقبله بعضهم وقال بقدحه في العلة وهو المختار.
ومنع منه الباقون. والكلام فيه نفيًا وإثباتًا مبني على أنه يجوز تعليل الحكم لواحد بعلتين أم لا؟ فلنتكلم فيه:
المسألة الثانية
يجوز تعليل الحكم الواحد نوعًا المختلف شخصًا بعلل مختلفة وفاقًا
، وذلك نحو أن يعلل إباحة قتل شخص بردته. [والآخر بالقصاص، والآخر بالزنا بعد الإحصان.
واختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلل مختلفة نحو
إباحة قتل الشخص الواحد بردته] وقتله الموجب للقصاص: فمنهم من منع ذلك مطلقًا، قيل هو اختيار القاضي أبي بكر وإمام الحرمين.
وقد نقل عن القاضي جوازه مطلقًا، والتفصيل بين المنصوصة والمستنبطة.
والأشهر عن الإمام أنه يجوز عقلًا لكنه/ (210/ أ) لم يقع شرعًا.
ومنهم من جوز ذلك مطلقًا وهو مذهب أكثر الفقهاء.
ومنهم من فصل فجوز ذلك في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر والغزالي والإمام.
ومنهم من عكس.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنه لو كان الحكم الواحد معللًا بعلل مختلفة، لم يخل إما أن يستقل كل واحد منها بالتعليل، أو لا يستقل واحد منها بل به لا يتم إلا بمجموعها، أو يستقل أحدها به دون البواقي، والأقسام الثلاثة باطلة، والتعليل بالعلل المختلفة باطل.
أما الأول: فلأنه لا معني لكون الوصف علة مستقلة إلا أنه علة له دون غيره، فلو كان كل واحدة منها علة مستقلة بالتعليل بهذا التفسير، لزم أن لا يكون كل واحدة منها علة، فضلًا عن أن تكون مستقلة.
وأما الثاني: فهو أيضًا باطل؛ لأنه على نقيض ما فرض من الملزوم فكان باطلًا وبتقدير أن لا يكون باطلًا فالمقصود حاصل؛ لأنه حينئذ لا يكون ذلك الحكم معللًا إلا بعلة واحدة.
وأما الثالث: فهو أيضًا باطل؛ لأنه حينئذ يلزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر وهو باطل، وبتقدير أن لا يكون باطلًا فالمقصود حاصل على ما عرف ذلك من قبل.
وهذا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أنه لا معني لكون الوصف علة مستقلة للحكم إلا ما ذكرتم، بل معناه أنه لو وجد منفردًا لكان مقتضيًا له من غير حاجة إلى غيره ومعلوم أن اللفظ منطبق على هذا المفهوم وحينئذ لم يلزم ما ذكرتم من المحذور وما يقال في جوابه: بأن الكلام إنما هو مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد، والتقسيم في حالة الاجتماع، فعلي ما سبق ضعيف أيضًا؛ لأنه ليس معني قولنا: "لو وجد منفردًا [أنه لو وجد منفردًا] حالة
الاجتماع حتى يكون فرض حالة الاجتماع منافيًا له بل معناه: أن العلة المستقلة مآلها هذه الحيثية ومعلوم أن فرض حالة الاجتماع لا ينافي هذا المفهوم، وحينئذ حاصل الكلام يرجع إلى أنه لم لا يجوز أن يكون الحكم معللًا بكل واحد من العلل المختلفة التي شأنها أنه لو وجدت واحدة منها وحدها لاستقلت بالاتحاد؟ ومعلوم أن التقسيم المذكور في الدليل لا يبطل هذا الاحتمال.
وثانيها: أنه لو كان الحكم عند اجتماع العلل معللًا بكل واحدة منها لزم أن لا يكون معللا بكل واحدة منها، واللازم باطل فالملزوم مثله.
بيان الملازمة: أن المعلول مع العلة المستقلة يصير واجب الثبوت بها غنيًا عن غيرها، والغني عن الشيء لا يكون معللًا به، فلو كان الحكم الواحد معللا بكل واحدة من العلل المستقلة لزم أن يكون غنيًا عن كل واحدة منها، وحينئذ يلزم أن لا يكون معللًا بكل واحدة منها هذا خلف.
وزيف بأن هذا إنما يلزم إذا فسرت العلة بغير المعرف، فأما إذا فسرت به فلا فإن اجتماع المعرفات المستقلة على معرف واحد جائز.
وثالثها: أن جواز تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة يفضي إلى أحد الأمور الثلاثة:
وهو إما تحصيل الحاصل، أو اجتماع المثلين، أو نقص العلة والأمور كلها باطلة فبطل التعليل بأكثر من علة واحدة.
بيان الملازمة: أن [أي] علة من تلف العلل إذا وجدت فلابد وأن تقتضي [حصول الحكم، وإلا لحكم النقض من غير مانع وهو باطل لما تقدم. فإذا حصلت العلة الثانية فإن اقتضي] حصول ذلك الحكم بعينه، لزم تحصيل
الحاصل، أو مثله لزم اجتماع المثلين، أو غيرهما أو لم يقتض شيئًا لزم النقض.
وجوابه: أنه لا ينفي حيث تحصل العلل دفعة واحدة ويكون الحكم معللًا بكل واحدة منها.
سلمناه لكن الحكم للحاصل بالعلة السابقة إنما يمتنع حصوله بالعلة اللاحقة إذا فسرت العلة "بالمؤثر"، فأما إذا فسرت "بالمعرف" فلا نسلم امتناعه.
سلمنا امتناعه مطلقًا، لكن النقض لمانع وهو غير ممتنع على ما تقدم تقريره فإن حصول الحكم أولًا مانع من حصول ثانيًا.
ورابعها: أن العلة يحب أن تكون مناسبة، ومناسبة الواحد للمختلفين تقتضي مساواته لهما، ومساواته لهما يقتضي مخالفته لنفسه؛ لأن المساوي لمختلفين مختلف، وهو محال فالملزوم مثله.
وجوابه: أنا لا نسلم أن العلة يجب أن تكون مناسبة، وقد عرفت سنده فيما تقدم.
سلمناه كلن لا تسلم امتناع مخالفة الشيء لنفسه باعتبارين مختلفين.
سلمناه لكن لم يجوز أن تشترك العلتان في جهة واحدة وتتحقق المناسبة بينهما وبين الحكم بحسب تلك الجهة.
وخامسها: لو جاز اجتماع العلل على الحكم الواحد، فإما أن تكون كل واحدة من تلك العلل تؤثر في كل الحكم، أو في بعضه، والقسمان باطلان فبطل الاجتماع.
أما الأول، فلأنه حينئذ يلزم إيقاع الواقع وتحصيل الحاصل؛ لأن ذلك الحكم لما حصل بواحدة منها فلو حصل بالأخرى لزم ما تقدم.
وأما الثاني فلوجوه:
أحدها: أن الحكم الواحد لا يتبعض.
وثانيها: أن ذلك يقتضي أن يكون معلول كل واحدة منها غير معلول الآخر، فلم يحصل الاجتماع على معلول/ (211/ أ) واحد [وهو خروج عن المسألة.
وثالثها: أن ذلك يقتضي أن لا يكون كل واحدة منها مستقلة] وهو خروج عن المسألة أيضًا.
وجوابه: لا يخفي مما تقدم.
وسادسها: الإجماع، وتقريره: أن الأئمة تعلقوا بالترجيح في كون العلة المرجحة هي العلة بعد ذكر دلالتهم على صحة عللهم، واكتفوا بذلك عن ذكر الدلالة على بطلان مذهب مخالفهم كما في ربا الفضل وغيره ولو كان التعليل بأكثر من العلة والحدة جائزًا لم يفد ذلك؛ إذ لا يفيد الرجيح سوى ظهور العلة، ومن جوز التعليل بأكثر من الواحدة لم يذكر أن يكون بعضها أكثر من البعض.
وجوابه: أن ذلك بإجماع من القائسين وليس فيه الحجة بل في إجماع مجموع الأمة سلمناه كلن الترجيح متضمنًا للإبطال إذ لا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح.
وهذا فيه نظر. سلمناه لكن حيث أجمعوا على أن العلة فيه واحدة.
واحتج المجوزون بوجوه:
أحدهما: أن العلل إذا اجتمعت في الشخص الواحد كالقتل والردة والزنا.
فإما أن يقال: أن الحكم لا يثبت فيه أصلًا، وهو باطل قطعًا.
أو يثبت بواحدة معينة منها، وهو أيضًا باطل؛ لأنه يلزم الترجيح من غير مرجح.
أو بواحدة لا بعينها، وهو أيضًا باطل؛ لأن ما لا تعين له لا وجود له في نفسه، وما لا وجود له لا يصلح أن يكون علة.
أو بمجموعها، وهو أيضًا باطل؛ لأنه حينئذ يكون كل واحدة منها جزء العلة وليس كلامنا فيه.
فيتعين أن يكون الحكم معللًا بكل واحدة منها.
لا يقال: العلل أن ترتبت فالحكم معلل بالسابق منها، وشيء من تلك المفاسد المذكورة غير لازم حينئذ وإلا فجواز وجودها دفعة واحدة ممنوع؛ لأنا نقول: منع جواز وجودها دفعة واحدة منع مكابرة؛ وهذا لأنا نعلم قطعًا أنه لا منافاة بين تلك الأمور، فيصح اجتماعها ووجودها دفعة واحدة.
ثم استقراء الأسباب والأحكام يحققه؛ إذ يمكن أن يصدر من الواحد في ساعة [واحدة] الزنا والردة معًا، وكذلك قد يوجد اللمس والمس معًا كما إذا مس الرجل فرج المرأة، وكذلك يمكن أن يحرم [وطء] المرأة لحيض وإحرام يوجدان منها معًا، وكذلك لحيض واعتداد، أو لإحرام واعتداد
أو بكلها، والأقوى أنك إذا جمعت لبن أختك وزوجة أخيك وأوجرت به المرتضعة فإنها تحرم عليك؛ لأنك خالها وعمها فهذه الصور تدل على وقوع اجتماع الأسباب دفعة واحدة فضلًا عن جوازه.
وحينئذ نسرد ما ذكرنا من التقسيم فيه ونبطل كلها بما تقدم سوى كون الحكم معللًا بكل واحدة منها.
وأما الاستدلال بهذه الصور على المطلوب، وهو كون الحكم معللًا بعلتين من غير ما تقدم من التقسيم فضعيف؛ لأن الخصم يمنع ذلك إذ ليس فيه دلالة على ذلك بل ليس فيه دلالة إلا على أن السببين أو أكثر قد اجتمع على الحكم، فأما أن ذلك الحكم معلل بكل واحدة منها [أو بواحدة منها] فلا.
فإن قلت: هذه الدلالة إنما تتم أن لو كان الحكم الحاصل في المحل عند وجود تلك الأسباب معًا حكم واحد وهو ممنوع، بل هناك أحكام متعددة بحسب تعدد تلك العلل؛ وهذا لأن جواز القتل بسبب الردة غير جوازه بسبب القصاص، وغير جوازه بسبب الزنا بدليل: أنه إذا رجع إلى الإسلام سقط عنه قتل الردة، وبقي عليه القتل بسبب القصاص والزنا وإذا عفي عنه سقط الأول وبقي الثاني، ولو كان الحكم واحدًا لاستحال ذلك.
وأيضًا: فإن القتل بسبب القصاص حق للآدمي، يجوز أن يسقطه وله أحكام تخصه، نحو أن له بدلًا، وأنه يستوفي بما قتل وأن إسقاطه مندوب إليه، والقتل بسبب الردة ليس لسقوطه سبب الرجوع إلى الإسلام،
وله أحكام تخصه، نحو: أن يقدم عليه إلا بعد الاستتابة وأنه يجب استيفاؤه، وأنه يقتل بالسيف، والقتل بسبب الزنا ليس لسقوطه طريق أصلًا، وله أحكام تخصه، نحو: أنه يدرأ بالشبهة وأنه لا يستوفي إلا بالرجم، وأنه إذا هرب لا يتبع، واختلاف هذه الأحكام يدل على اختلاف متعلقاتها.
قلت: الدليل على أن الحكم واحد هو: أن النكاح أمر واحد وحياة الشخص الواحد واحدة، ومقابل الواحد واحد، فتحريمه وإزالتها واحد، والإذن في إزالة الواحد واحد، فجواز القتل أمر واحد وإذا ثبت أن تحريم النكاح وجواز القتل كل واحد منهما واحد في نفسه فنقول عند اجتماع الأسباب عليه: لو اختلف في نفسه لزم اختلاف ماهية الشيء لحصول أمر عارضي خارج عن ماهيته فإن السبب وحصوله وحده أو مع غيره، خارج عن ماهية السبب الذي هو الحكم لكن ذلك باطل قطعًا، نعم الذي سيحصل للحكم عند اجتماع الأسباب زائدًا على الذي يحصل له عند واحد منها إنما هو تعدد الإضافة، وهو الزائل عند زوال واحد منها لا نفس الحكم كما ذكرتم، فإن ذلك ممنوع لما تقدم، والأحكام المختلفة التي ذكروها فلم لا يجوز أن يقال: بعضها/ (212/ أ) عارضة الحكم ككونه حق الله أو حق العبد، وبعضها تابعة لتجديد تلك الإضافة المتجددة وحينئذ لا يلزم اختلاف الحكم في نفسه.
ثم الذي يحققه: أنا إذا علمنا جواز القتل بسبب، ثم طرأ عليه سبب آخر له، فإنه لا يتغير الاعتقاد الأول ولم يحصل لنا العلم بتجدد أمر له سوى كونه مضافًا إليه ولا شك أنه خارج عن ماهيته، ولو كان الحكم مختلفًا لما كان كذلك.
وهذا الجواب بعينه عما ذكر من الوجهين في الدلالة على تعدد الأحكام
على أنهما لا يأتيان فيما تقدم من صورة إيجار اللبن.
فإن قلت: هب أنه يمكن اجتماع الأسباب وأن الحكم واحد، لكن لم لا يجوز أن يقال: إن تلك الأسباب تشترك في أمر واحد والعلة إنما هو ذلك المشترك.
قلت: هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض من حيث هو حيض محرم للوطء، وكذلك العدة والإحرام فالقول بأن العلة هي القدر المشترك بينه وبين غيره مخالف لهذا الإجماع فكان باطلًا.
ولأن بعض هذه الأمور أمر حقيقي، وبعضها أمر اعتباري ولا اشتراك بينهما إلا في عموم أنه أمر ما، أو ما يجري مجراه الذي لا يمكن جعله علة الحكم وإلا لانتقض بالطم والرم.
وثانيها: أن علل الشرع أمارات ومعرفات، ويجوز اجتماع المعرفات والأمارات على شيء واحد فكذا العلل.
وثالثها: أنه لو امتنع ذلك:
فأما أن يمتنع لكون اجتماع العلل دفعة واحدة ممتنعاً، وهو باطل لما تقدم.
أو لامتناع مقارنة الحكم مع العلل، بناء على أنه يجوز أن يكون شرط صحة مقارنته لعلة مع العلل عدم الأخرى وهو أيضًا باطل.
أو أولًا: فلأنه خلاف الواقع، فإن الواقع مقارنة الحكم للعلل، أي هو حاصل حيث كانت العلل حاصلة، وهذا لا شك فيه ولا ريب، وإنما النزاع في أنه معلل بواحد منها، أو بكلها، وذلك لا يقدح في أصل الحصول معها.
وأما ثانيًا: فلأن الأمة مجمعة على أن الحيض والعدة والإحرام كل واحد منها على لتحريم الوطء مطلقًا، وذلك يفيد أن كل واحد منها على سواء وجد الآخر أو لم يوجد.
وأما ثالثًا: فلأنه يقتضي أن يكون القيد العدمي شرطًا لعلية العلة وهو باطل كما عرفت آنفًا.
وإذا ثبت هذا فنقول: إذا كان كل واحد منها علة له سواء وجد الآخر أو لم يوجد وجب صحة مقارنته لكلها لصحة مقارنة الحكم لعلته أو لامتناع انفراده مع اجتماعها، وهو أيضًا باطل؛ لأن ذلك الامتناع ليس بذاتي له، وإلا لكان كل من تصور هذا الاحتمال تصور امتناعه، لاستحالة تصور الشيء بدون ما هو ذاتي له فلو كان ممتنعًا لكان امتناعه لغيره، لكن الأصل عدم ذلك الغير، فوجب أن لا يكون ممتنعًا فيكون جائزًا وهو المطلوب.
واحتج من لم يجوز ذلك في المستنبطة بوجوه:
أحدها: وهو ما ذكره الإمام: "أن الإنسان إذا أعطي فقيهًا فقيرًا قريبًا، احتمل أن يكون الداعي إلى الإعطاء كونه فقيهًا فقط، أو فقيرًا فقط، أو كونه قريبًا فقط، أو مجموعها أو مجموع اثنين منها، وهذه الاحتمالات متنافية؛ لأن قولنا: الداعي إلى الإعطاء هو الفقر [لا غير] ينافي أن يكون غير الفقر داعيًا، أو جزءًا من الداعي، وإذا كانت هذه الاحتمالات متنافية فإن بقيت على حد التساوي امتنع حصول الظن بواحد منها على التعيين: فلا يجوز الحكم بكونه علة.
وإن ترجح بعضها، فذلك الترجيح يحصل بأمر وراء "المناسبة والاقتران"؛ لأن ذلك مشترك بين هذه الاحتمالات وحينئذ يكون الراجح هو العلة دون المرجوح وهو ضعيف؛ وهذا لأنا نسلم أن احتمال كونه أعطاه لفقره فقط ينافي احتمال كونه أعطاه لفقهه فقط، لكن لم قلتم: إن احتمال كونه أعطاه لفقره ينافي احتمال كونه أعطاه لفقهه أيضًا كما في المنصوصة؟ ولا نسلم أن هذا في قوة ذاك، وأين الدليل عليه؟
ثم الذي يدل على أنه ليس في قوة ذلك هو: أنه يمكن تقسيمه إليه، وإلى ما ذكرنا، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا بين القسمين: فإن قلت: ذاك بحسب اللغة، أما بحسب العرف فلا لأن قولنا: أعطاه لفقره يفيد في العرف أنه أعطاه له لا لغيره بدليل أن من أراد تكذيبه ومناقضته فإنه يقول: أعطاه لفقهه، ولولا أنه يفيد نفي غيره وإلا لما جاز ذلك.
قلت: لا نسلم ذلك؛ وهذا لأن الأصل عدم التغيير، وأما التكذيب
والمناقضة فلا نسلم أن ذلك على الإطلاق، بل حيث عرف المقصود.
سلمناه لكن لا يدل على المقصود، لاحتمال أن ذلك بطريق النقل للفظ عن وضعه الأصلي، لا لأنه لا يجوز تعليل الحكم بعلتين مختلفتين.
وثانيها: أن الصحابة والأئمة من بعدهم أجمعوا على قبول الفرق: وذلك يدل على أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين.
بيان الأول: بما روى أن عمر- رضي الله عنه لما شاور عبد الرحمن في قضية المجهضة قال له عبد الرحمن: إنك مؤدب ولا أري عليك شيئًا، وشاور عليا أيضًا في ذلك فقال له- رضي الله عنه إن لم يجتهد فقد غشك، وإن اجتهد أخطأ، أري عليك الغرة.
ووجه الاستدلال به: أن عبد الرحمن- رضي الله عنه شبهه بالتأديب والتأديب لكونه مشروعًا/ (213/ أ) مستحقًا يقتضي أن لا يجب بسببه شيء وإن أفضي إلى الهلاك كالحدود، وأن عليا- رضي الله عنه فرق بينه وبين سائر الزاجرات من الحدود بأن التعزيرات المستحقة والتأديبات المندوبة إنما تجوز بشرط سلامة العاقبة فإذا انتهي إلى الهلاك علمنا فوات شرطه، فلا جرم وجب الضمان بخلاف الحدود المقدرة فإنها تجوز مطلقًا، ولم ينكر عليه أحد منهم فكان إجماعًا على ما تقدم بيانه في الإجماع.
بيان الثاني: ظاهر، فإنه لو جاز تعليل الحكم بعلتين لم يكن الفرق قادحًا فيما ذكره الخصم من الجامع، فإنه يجوز حينئذ أن يكون الحكم في الأصل ثابتًا بكل واحد من الجامع والفارق، أو بالجامع ومجموع الجامع والفارق، ويمكن أن يجاب عنه ببعض ما سبق في حجة المانعين مطلقًا.
وثالثها: أن مستند ظن علية المستنبطة إنما هو المناسبة، والاقتران وما يجري مجراه، فإذا وجد ذلك بعينه في وصف آخر لم يكن حصول ظن العلة في أحد الوصفين أولى من حصوله في الآخر، فأما أن لا يحصل أصلًا في كل واحد منهما ولا في مجموعهما وهو باطل، أو يحصل في مجموعهما وحينئذ تكون العلة مجموعهما لا كل واحد منهما، أو يحصل في كل واحد منهما، وهو أيضًا باطل؛ فإنا نجد من أنفسنا اختلال ظن علية الوصف عند الشعور بوصف آخر مناسب لذلك الحكم ولو كان مفيدًا لعلية كل واحد من الوصفين لما اختل ذلك الظن كما في المنصوصتين، فإن الشارع إذا نص على علية وصف الحكم ثم نص على علية وصف آخر فإنه لا يختل ذلك الظن.
واحتج من قال بالعكس: أن المنصوصة قطعية فأشبهت العلة العقلية واجتماعها على معلول واحد، شخصي غير جائز، فهذا بخلاف المستنبطة فإنها ظنية فيصح أن يكون كل واحد منهما علة كما أن سبب ظن العلل حاصل في كل واحد من الوصفين.
وجوابه: واضح مما تقدم.
وأيضًا فإن العلة العقلية إنما لا يجوز اجتماعها على المعلول الواحد لكونها موجبة لا لكونها قطعية، وكونها قطعية لا يقتضي كونها موجبة فلا يلزم من عدم جواز اجتماع تلك العلل العقلية عدم جواز العلل المنصوصة وإن كانت قطعية، ثم هذا لا يتأتي فيما إذا كان النص الدال على علية الوصف من باب الآحاد فإنها منصوصة أيضًا وليست بقطعية.