المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الأولىاختلفوا في أن الرسول- عليه السلام هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه: - نهاية الوصول في دراية الأصول - جـ ٨

[الصفي الهندي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الرابعفي الركن الثالثوهو العلة

- ‌القسم الأول:في الطرق الدالة على كون الوصف علة الحكم

- ‌الفصل الثانيفي إثبات العلية بالمناسبة والإخالةوهي من الطرق العقلية

- ‌المسألة الأولىفي تعريف المناسب:

- ‌المسألة الثانيةاعلم أن الحكم إذا شرع للمناسبة فلابد وأن يكون محصلًا للمصلحة أو دافعًا للمفسدة، أو محصلًا للمصلحة ودافعًا للمفسدة معًا

- ‌المسألة الثالثةفي تقسيم المناسب

- ‌المسألة الرابعةفي أن مناسبة المصلحة تبطل وتحرم بمناسبة مفسدة مساوية أو راجحة، وقال قوم لا تبطل وهو اختيار الإمام

- ‌المسألة الخامسةفي إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على كون الوصف علة الحكم

- ‌الفصل الثالثفي قياس الشبه

- ‌المسألة الأولىفي تعريف ماهيته

- ‌المسألة الثانيةفي إقامة الدلالة على أنه حجة إذا اقترن به الحكم

- ‌المسألة الثالثةذهب بعض أصحابنا أن الوصف الشبهي إذا لم يعرف تأثير عينه في عين الحكم بل عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم لا يكون حجة. وخالفه الباقون وهو المختار

- ‌الفصل الرابعفي الدورانويسمى بالطرد والعكس

- ‌الفصل الخامسفي السبر والتقسيم

- ‌الفصل السادسفي الطرد

- ‌الفصل السابعفي تنقيح المناط

- ‌الفصل الثامنفيما ظن أنه من طرق إثبات العلة وليس كذلك

- ‌القسم الثانيمن الطرق الدالة على أن الوصف لا يجوز أن يكون علة الحكم

- ‌الفصل الأولفي النقض

- ‌المسألة الأولىاختلفوا في أن ذلك هل يقدح في علية الوصف أم لا

- ‌المسألة الثانيةالقائلون بأن تخلف الحكم عن الوصف لمانع أو لغير مانع لا يقدح في عليته اتفقوا على أن تخلفه كذلك عن حكمة الوصف لا يقدح في عليته.فأما القائلون بأن تخلفه عن الوصف يقدح في عليته اختلفوا في أن تخلفه عن حكمه المقصودة هل يقدح في عليته أم لا

- ‌المسألة الثالثةالقائلون بتخصيص العلة اختلفوا في أنه هل يجب على المستدل ابتداء التعرض لنفي المانع، أم لا

- ‌المسألة الرابعةالقائلون بعدم تخصيص العلة اختلفوا في النقض إذا كان واردًا على سبيل الاستثناء

- ‌المسألة الخامسةفي الكسروهو نقض يرد على بعض أوصاف العلة

- ‌المسألة السادسةفي كيفية دفع النقض

- ‌الفصل الثانيفي عدم التأثير والعكس

- ‌المسألة الأولىفي معناهما:

- ‌المسألة الثانيةفي أن عدم التأثير يقدح في العلية

- ‌المسألة الثالثةفي أن العكس غير واجب في العلة عقلية كانت أو شرعية

- ‌الفصل الثالثفي القلب

- ‌المسألة الأولىفي حقيقته

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثةفي أقسام القلب:

- ‌الفصل الرابعفي القول بالموجب

- ‌الفصل الخامسفي الفرق

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانيةيجوز تعليل الحكم الواحد نوعًا المختلف شخصًا بعلل مختلفة وفاقًا

- ‌المسألة الثالثةالقائلون بكون الفرق يقدح في العلية اختلفوا في أنه هل هو من تمامه ولوازمه نفيه عن الفرع أم لا

- ‌المسألة الرابعة

- ‌القسم الثالثفي أمور ظنت أنها تفسد العلة مع أنها ليست

- ‌المسألة الأولىفي تقسيم العلة

- ‌المسألة الثانيةاختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم، أو جزئه الخاص:

- ‌المسألة الثالثةالحق أنه لا يجوز أن تكون علة الحكم في الأصل بمعني الأمارة

- ‌المسألة الرابعةيجوز التعليل بالحكمة عند قوم.وقال قوم لا يجوز

- ‌المسألة الخامسةذهب جمع إلى جواز التعليل بالعدم ثبوتيا كان الحكم أو عدميا

- ‌المسألة السادسةاختلفوا في جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي:

- ‌المسالة السابعةالتعليل بالأوصاف العرفية

- ‌المسألة الثامنةالتعليل بالوصف المركب جائز عند المعظم، وقال بعضهم لا يجوز

- ‌المسألة التاسعةأطبق الكل على أن العلة المنصوصة أو المجمع عليها يجوز أن تكون قاصرة، وأختلفوا في المستنبطة:

- ‌المسألة العاشرةاتفقوا على التعليل بمجرد الاسم غير جائز

- ‌المسألة الحادية عشرة

- ‌المسألة الثانية عشرةذهب الأكثرون إلى إنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة، خلافا للأقلين من المتأخرين

- ‌المسألة الثالثة عشرةفي تقسيم العلة باعتبارات أخر غير ما تقدم

- ‌المسألة الرابعة عشرةاعلم أن الاستدلال قد يكون بذات العلة على الحكم، وقد يكون بعلية الحكم للحكم عليه

- ‌المسألة الخامسة عشرةاعلم أن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي يسمى تعليلا بالمانع

- ‌خاتمة لهذا القسم بمسائل في أحكام العلة لم يتقدم ذكرها

- ‌المسألة الثانيةالوصف الذي جعل علة الحكم بمعنى الباعث لا شتمالها على الحكمة يجب أن لا يمكن بمثابة يلزم منه إثبات الحكم، أو نفيه مع القطع

- ‌المسألة الثالثةقيل الوصف الذي جعل ضابطا لحكمته يجب أن يكون جامعا للحكمة

- ‌المسألة الرابعةالمشهور أنه لا يجوز تعليل الحكم بعلة متأخرة عنه في الوجود

- ‌المسألة الخامسة: (231/ أ)العلة المستنبطة من الحكم يجب أن لا ترجع إليه بالإبطال، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا في الأصل

- ‌الباب الخامسفي الركن الرابع وهو الفرع

- ‌النوع الخامس عشرفي الاعتراضات [وأجوبتها]

- ‌النوع السادس عشرالكلام في التعادل والتراجيح

- ‌ القسم الأول في التعادل

- ‌المسألة الأولىأطبق الكل على أن تعادل القاطعين المتنافيين عقليين كانا أو نقليين غير جائزة

- ‌المسألة الثانيةالقائلون بجواز هذا التعادل [قالوا: إن وقع هذا التعادل]، للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير، أو التساقط والرجوع إلى غيرهما

- ‌المسألة الثالثةالمجتهد إذا نقل عنه قولان كالوجوب والتحريم مثلاً

- ‌القسم الثانيفي التراجيح

- ‌الفصل الأولفي مقدمات التراجيح

- ‌المسالة الأولى: في حد الترجيح

- ‌المسألة الثانيةذهب الأكثرون إلى وجوب العمل بالراجح سواء كان الترجيح معلومًا أو مظنونًا

- ‌المسألة الثالثةلا يتطرق الترجيح إلى الأدلة القطعية

- ‌المسألة الرابعةالمشهور أن العقليات لا يتطرق الترجيح إليها

- ‌المسالة الخامسةذهب الشافعي ومالك- رضي الله عنهما إلى أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة، خلافًا للحنفية

- ‌المسألة السادسةإذا تعارض دليلان فإن لم يمكن العمل بكل واحد منهما بوجه دون وجه صير إلى الترجيح

- ‌المسألة السابعةإذا تعارض نصان فإما أن يكونا عامين، أو خاصين.أو أحدهما عامًا والآخر خاصًا

- ‌الفصل الثانيفي تراجيح الأخبار

- ‌المسألة الأولىفي ترجيح الخبر بكيفية السند

- ‌المسألة الثانيةفي ترجيح الخبر بكيفية الرواية

- ‌المسألة الثالثةفي الترجيح بحال وروده

- ‌المسألة الرابعةفي ترجيح الخبر باعتبار اللفظ

- ‌المسألة الخامسةفي ترجيح الخبر باعتبار مدلوله وهو الحكم

- ‌المسالة السادسةفي ترجيح الخبر بالأمور الخارجية

- ‌الفصل الثالثفي ترجيح القياس بحسب علته

- ‌المسألة الأولىفي ترجيح القياس بحسب ماهية علته

- ‌المسألة الثانيةفي ترجيح القياس بحسب الدليل الدال على وجود علته

- ‌المسألة الثالثةفي ترجيح القياس بسبب الدليل الدال على علية الوصف في الأصل

- ‌المسألة الرابعةفي ترجيح القياس بسبب وصف العلة

- ‌النوع السابع عشر في الاجتهاد

- ‌ المقدمة:

- ‌الفصل الأولفي المجتهد

- ‌المسألة الأولىاختلفوا في أن الرسول- عليه السلام هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه:

- ‌المسألة الثانيةاتفقوا على جواز الاجتهاد بعد الرسول- عليه السلام

- ‌المسأله الثالثةفي شرائط المجتهد

- ‌المسألة الرابعةاختلفوا في أن صفة الاجتهاد هل تحصل في فن دون فن أم لا

- ‌الفصل الثانيفي المجتهد فيه

- ‌المسألة الأولىذهب الجماهير إلى أنه ليس كل مجهد في الأصول مصيبًا

- ‌المسألة الثانيةفي تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية

- ‌النوع الثامن عشرالكلام في المفتي والمستفتي وما فيه الاستفتاء

- ‌الفصل الأول في المفتي

- ‌المسألة الأولىفي المفتي المجتهد إذا أفتى مرة بما أدى إليه اجتهاده، ثم سئل مرة أخرى عن تلك الحادثة بعينها:

- ‌المسألة الثانيةفي أن غير المجتهد هل يجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير من المجتهدين

- ‌المسألة الثالثةالمختار عند الأكثرين أنه يجوز خلو عصر من الأعصار عن الذي يمكن تفويض الفتوى إليه سواء كان مجتهدًا مطلقًا، أو كان مجتهدًا في مذهب المجتهد، ومنع منه الأقلون كالحنابلة

- ‌الفصل الثانيفي المستفتي

- ‌المسألة الأولىيجوز للعامي أن يقلد المجتهدين في مسائل الفروع اجتهادية كانت أو غير اجتهادية

- ‌المسألة الثانيةفي شرائط الاستفتاء

- ‌المسألة الثالثةالرجل الذي تنزل به الواقعة إن كان عاميًا صرفًا جاز له الاستفتاء

- ‌المسألة الرابعةالعامي إذا عمل بفتوى بعض المجتهدين في حكم حادثة وقلده فيه لم يجز له الرجوع عنه إلى حكم آخر في تلك الحادثة بعينها بفتوى غيره إجماعًا

- ‌النوع التاسع عشرالكلام في المدارك التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي مدارك للأحكام أم لا

- ‌المسألة الأولىفي أن الأصل في المنافع الإذن، وفى المضار المنع خلافا لبعضهم

- ‌المسألة الثانيةفي استصحاب الحال

- ‌المسألة الثالثةفي أن النافي هل عليه دليل أم لا

- ‌المسألة الرابعةاختلفوا في أن مذهب الصحابي وقوله هل هو حجة على من بعدهم من التابعين أم لا

- ‌المسألة الخامسةفي المصالح المرسلة

- ‌المسألة السادسةفي الاستحسان

- ‌المسألة السابعةاختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو لعام: احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالصواب:

- ‌المسألة الثامنةذهب الشافعي رضي الله عنه وأصحابه إلى أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل فيه خلافًا لبعضهم

- ‌المسألة التاسعةذهب بعضهم إلى أن الأخذ بأخف القولين واجب على المكلف

- ‌النوع العشرونالكلام في الاستدلال

- ‌المسألة الأولىفي معنى الاستدلال

- ‌المسألة الثانيةفيما يتعلق بالسبب والشرط والمانع

- ‌المسألة الثالثةفي الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم

- ‌المسألة الرابعةمن جملة طرق الاستدلال والاستقراء

- ‌المسألة الخامسةفي الاستدلال على عدم الحكم

- ‌المسألة السادسةفي الاستدلال على ثبوت الحكم

الفصل: ‌المسألة الأولىاختلفوا في أن الرسول- عليه السلام هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه:

‌المسألة الأولى

اختلفوا في أن الرسول- عليه السلام هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه:

فذهب الشافعي وكثر أصحابه، والإمام أحمد، والقاضي أبو يوسف والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصرى إلى جواز ذلك. ثم منهم من قطع بوقوع التعبد بهذا الجائز، ومنهم من لم يقطع به. وذهب أبو على، وأبو هاشم إلى أنه لم يكن متعبدًا به.

ص: 3790

ومنهم من فصل بين الأحكام الشرعية، وبين أمور الحرب فجوزه في الثاني دون الأول.

وتوقف فيه جمهور من المحققين.

احتج الأولون بوجوه:

أحدهما: قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} أمر بالاعتبار لأولى الأبصار على العموم/ (293/ أ) فكان عليه السلام مندرجا تحته؛ لأنه عليه السلام أعلى الناس بصيرة، وأكثرهم إصابة، لكثرة اطلاعه على شرائط القباس، وما يجب وما يجوز فيها، وذلك يقتضى اندراجه تحته بالطريق الأولى، فإن لم تكن الأولوية حاصلة فلا أقل من المساواة فكان مأمورًا بالقياس فكان [متعبدًا]، بالقياس فكان فاعلاً له، وإلا قدح ذلك في عصمته، وهذا التقرير لمن قطع بوقوع التعبد به [ووقوعه منه، فإن كل من قطع بوقوع التعبد به]، قال بوقوعه منه، وأما من قال بالجواز الشرعي ولم يقطع بوقوع التعبد به يحتاج أن يقول: أدنى درجات الأمر أن يكون للإباحة فيحمل عليها؛ إما لأنه حقيقة فيها، أو حمل اللفظ على أقل مفهوماته فيكون الاعتبار جائزًا منه وهو المطلوب.

ص: 3791

وثانيها. قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} وهو صريح بوقوع التعبد بالحكم بما أراه الله تعالى وهو يعم ما أراه بطريق التنصيص، أو بطريق الاستنباط من النص فيحمل عليها فوجب أن يكون مأمورًا بالحكم بالطريقتين وهو المطلوب.

وثالثها: قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} وهو إنما يكون فيما يفعل بالرأي؛ لأن ما هو منصوص عليه فعله متعين فلم يكن للمشاورة فيه معنى.

لا يقال: المراد منه الآراء والحروب والأمور الدنياوية.

قلت: إنه تقييد للإطلاق فيكون خلاف الأصل لا بصار إليه إلا لدليل.

ورابعها: قوله تعالى في قصة داود: {ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكمًا وعلمًا} ومن الظاهر أن مثله لا يستعمل في المنصوص عليه فكان دور في الاجتهاد والرأي، وإذا ثبت جواز ذلك في حقهم ثبت أيضًا في حق نبينا ضرورة أنه لا قائل بالفصل.

وخامسها: ما يروى عنه- عليه السلام أنه قال: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدي".

ص: 3792

ومثله لا يقال ديما كان بالوحى.

وروى عنه عليه السلام أنه كان يقضى في القضية. والقرآن ينزل والحكم بغير القرآن، وهو لا يكون إلا بالاجتهاد.

وهذا فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون بوحى غير متلو ولا شك أنه غير القرآن.

ومن هذا الجنس التمسك على المسالة بقوله- عليه السلام: [(كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) وقوله: عليه السلام (كنت نهيتكم عن تحريم)] الأضاحي لأجل الدافة ألا فأدخروها" فإنه يجوز أن يكون كل واحد من الحكمين الناسخ والمنسوخ بوحى غير متلو.

وسادسها: أنه إذا غلب على ظنه- عليه السلام كون الحكم في الأصل معللاً بوصف، ثم علم أو ظن- عليه السلام حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلابد أن يظن أن حكم الله تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل، وترجيح الراجح عبى المرجوح من مقتضيات بدائه العقول، وهذا

ص: 3793

يقتضي أن يجب عليه العمل بالقياس.

ولقائل أن يقول: لا نزل في أن ترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بدائه المحقول، لكن لم لا يجوز أن يقال: لا يجوز له العمل بهذا الراجح لقدرته على ما هو أرجح منه؟ وهو النص فإن عند القدرة على الارجح لا يجوز العمل بالراجح؟

وسابعها. أن السنن مضافة إلى الرسول- عليه السلام ولو كان الكل بالوحى لم يبق لتلك الإضافة معنى كما أن الشافعي- رضي الله عنه مثلا إذا أثبت حكما بصراحة النص بحيث لا يحتاج فيه إلى اجتهاد وفكر فإنه لا يقال فيه: إن ذلك مذهب الشافعي- رضى الله عنه- ولهذا لم يحسن أن يقال: مذهب الشافعي- رضى الله عنه- وجوب الصلوات الخمس ووجوب صوم رمضان فأما إذا أثبته بضرب من الاجتهاد والنظر فإنه يقال فيه ذلك فكذا مانحن فيه.

وهذا ليس بقوى؛ لاحتمال أن يقال: إنه إنما يضاف إليه- عليه السلام

لأن كان منصوصًا عليه، لكونه لم يشرع مثل ذلك لغيره فصحت الإضافة معتمدة على الاختصاص، وإنما لا يضاف إلى الشافعي- رضى الله عنه- ما ذكرتم لأنه لا اختصاص له به؛ ولهذا لو أثبت حكما مختصا به فإنه يضاف إليه وإن كان بصريح النص كما لو أثبت حكما بنص صريح بحيث لا يحتاج فيه إلى الاجتهاد والنظر واعتقد غيره نسخ ذلك النص فإنه يضاف ذلك الحكم/ (294/ أ) إليه وإن لم يكن فيه اجتهاد ونظر، لما أنه مختص به.

ص: 3794

وثامنها: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا، لقوله عليه السلام:"أفضل الأعمال أحمزها" أي أشقها، فلو لم يعمل الرسول عليه السلام بالاجتهاد مع أن أمته عملوا به لزم أن يكون آحاد الأمة مختصا بفضيلة لا توجد فيه فيلزم أن يكون آحاد الأمة أفضل منه في تلك الفضيلة وهو محال لأن آحاد الأمة لا يكون أفضل منه في شيء أصلاً.

لا يقال: إن هذا إنما يمتنع إن لو لم يكن الرسول- عليه السلام متصفا بفضيلة أخرى أعلى منها بآرائه، فأما إذا كان متصفا بآرائه بفضيلة أخرى أعلى منها فلا نسلم امتناعه وها هنا كذلك، لأنه متصف باستدراك الأحكام من جهة الوحى، وهذا المنصب أعلى من رتبة استدراك الأحكام بطريق الاجتهاد. سلمناه، لكن يقتضى أن لا يعمل الرسول- عليه السلام إلا بالاجتهاد، ضرورة أن ذلك أفضل لكونه أشق؛ لأنا نقول:

الجواب عن الأول من وجهين:

أحدهما: أنه لا معنى للنبوة إلا إبلاع أثناء الله تعالى وأحكامه بطريق الوحى إلى خلقه، وحينئذ يصير تقدير كلامكم: إنه إنما يمتنع ذلك إن لو لم يكن الرسول رسولاً، فأما بتقدير ذلك فلا نسلم امتناعه، ومعلوم أن ذلك

ص: 3795

باطل من جهة اللفظ والمعنى.

وثانيهما: أن استدراك الاحكام بطريق الوحى، وإن كان أعلى درجة من الاجتهاد

لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم، ولا يظهر فيه أثر دقة الخاطر، وجودة القريحة، وإذا كان هذا نوعا مفردًا من الفضيلة لم يجز خلو الوصول عنها بالكلية.

وعن الثاني: أن ذلك غير ممكن؟ لأن العمل بالاجتهاد في كل الشريعة ممتنع، لأن العمل بالاجتهاد مشروط بالتنصيص على أحكام الأصول، وإذا كان كذلك كان العمل بالاجتهاد في كل الشريعة [ممتنعًا].

ولقائل: أن يقول: هب أن العمل به كل الشريعة]، متعذر لكن لا يمتنع العمل به في كثر الشريعة وهو ما عدا الأصول المنصوصة عليها، فكان يجب أن لا يعمل في أكثر إلا بالاجتهاد، ومعلوم أن ذلك غير متعذر، لكنه ليس كذلك، فإن أكثر أحكام الشرع ليس صادرًا عن اجتهاد الرسول وفاقًا فالأولى في ذلك أن يقال: مقتضى هذا الدليل إن يكون الامو كما ذكوتم ترك العمل به في الأكثر فوجب أن يبقى. معمولاً به في الأقل.

وتاسعها: قوله عليه السلام: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهذا يوجب أن يكون له في الاجتهاد في الأحكام الشرعية ليرثوا عنه، إذ لو ثبت ذلك لهم

ص: 3796

ابتداء لم يكونوا وارثين عنه في ذلك.

وفيه نظر، وهذا لأنا قد نسلم أن قولنا: فلان وارث فلان يقتضى أن جميع ما للمورث يكون للوارث، لكن لا نسلم أن جميع ما للوارث يكون من الموروث، فلم يلزم من جواز العمل بالاجتهاد للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء جوازه لهم- عليهم السلام.

فإن قلت: الظاهر من قوله- عليه السلام "العلماء ورثة الأنبياء"، أنهم ورثته فيما اختصوا به من العلم مطلقًا وحينئذ لو لم تكن علومهم الاجتهادية مورثة عن الأنبياء لكان ذلك تقييدًا للمطلق، وتخصيصًا للعام من غير ضرورة، وهو خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لدليل.

قلت: لا نسلم المعنى على ما ذكرتم فضلاً عن أن يكون ذلك ظاهره وهذا لأن معناه: أن العلماء ورثة الأنبياء فيما كان للأنبياء من العلوم وعلى هذا التقدير، وإن كان يلزم منه التخصيص ضرورة أنهم ليسوا ورثته في العلوم التي هي مختصمة بالنبوة، لكنه خير من المجاز الذي ذكرتموه؛ فإن ما ذكرتم ليس حقيقة اللفظ بدليل أنه لا يفهم من قول القائل: زيد وارث عمرو وأنه وارثه فيما اختص [به، بل الذى يفهم منه أن زيدًا وارث عمرو فيما اختص]، بعمرو.

ص: 3797

سلمنا أن علومهم الاجتهادية موروثة من الأنبياء، لكن لا يلزم من حصول هذه العلوم لهم جواز العمل بالاجتهاد وهذا هو المتنازع فيه دون الأول، وهذا كما أنه يجوز أن يحصل للمجتهد العلوم الاجتهادية، ثم لا يجوز له العمل في بعض المسائل لاقتداره على تحصيل العلم به، أو الظن بطريق النص، فكذا / (295/أ) في حق الأنبياء- عليهم السلام لاقتدارهم على معرفة الأحكام بطريق الوحى.

وعاشرها: أنه صدر منه أحكام اجتهادية، وهو دليل الجواز والوقوع وإلا فدح ذلك في عصمته.

بيان الأول بصور أحدها: أنه قال في مكة؛ لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها فقال العباس: إلا الإذخر فقال- عليه السلام: "إلا الإذخر" ومعلوم أن الوحي لم ينزل في تلك الحالة بالاستثناء؛ لقلة ذلك

ص: 3798

الزمان، ولعدم إمارة الوحى فكان الاستثناء بالاجتهاد.

وثانيها: أنه أمر يوم فتح مكة بقتل مقيس بن صبابة. وابن أبى سرح. وإن وجدا متعلقين بأستار الكعبة [مع تقدم قوله: "من تعلق بالشار الكعبة فهو آمن]،، ثم أنه- عليه السلام عفى عن ابن أبي سرح

ص: 3799

بشفاعة عثمان فكان ذلك بالاجتهاد، إذ لو كان ذلك بالتنصيص لما عفى عنه إلا بوحى آخر، وهو لم يوجد لما سبق من الوجهين، ولأن النسخ خلاف الأصل ولا يحمل عليه بمجرد الاحتمال.

وثالثها: أنه أمر بالنداء يوم فتح مكة (أن لا هجرة بعد الفتح)، فنودى حتى استفاض ذلك، فبينما المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع بن مسعود بالعباس شفيعًا ليجعله مهاجرًا بعد الفتح فقال عليه السلام: "اشفع عمي ولا

ص: 3800

هجرة بعد الفتح" ولم يكن ذلك بالوحى لما سبق فكان ذلك بالاجتهاد فثبت أنه صدر منه أحكام اجتهادية في الشرع وهو المطلوب.

وفى هذا الوجه نظر ستعوف ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

وأما الذى يدل على جواز اجتهاده في أمور الحرب وقوعه منه، فإنه اجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر. فكان يراجعهم في تلك الحالة، وذلك لا

ص: 3801

يكون إلا عن اجتهاد.

ويؤكده: ما عاتبه الله في ذلك بقوله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} الآية. ولو كان بطريق الوحى لما عوتب على ذلك.

وأيضًا قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} يدل على أن ذلك الإذن كان عن اجتهاد إذ لو كان بالوحى لما كان ذنبًا أو تركًا للأولى فما كان يحسن أن يقال: {عفا الله عنك} ، ولأن ذلك لو كان بالوحى لكان امتثاله يوجب إاستحقاق المدح والثناء لا الذم والتوبيخ.

وأيضًا: روى أن بعض الصحابة راجعه في منزل نزلة، فقال. إن كان هذا بوحي فالسمع والطاعة، وإلا فليس هو بمنزل مكيدة، فقال: بل الرأي نرحل عنها.

ص: 3802

وهذا يدل بصراحته على أن ذلك ليس بوحى. ولأنه رحل عنها بقوله، ولو كان عن وحى لما رحل عنها بقوله، ولما جاز له أيضا مراجعته فهو إذن عن اجتهاد.

واحتج المانعون منه بوجوه:

أحدها: قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحي} دلت الآية على أن [كل]، ما ينطق به فهو عن وحى، ترك العمل بها في النطق بالأمور العادية فوجب أن يبقى معمولاً بها في الأحكام الشرعية، ولا يحسن أن نتمسك بصدر الآية فإن من الظاهر أن النطق عن الاجتهاد ليس بهوى، لأن النطق عن الهوى مذموم، والنطق عن الاجتهاد والنظر مأمور به، وإنما الذى يحسن التمسك منها إنما هو بقوله:{إن هو إلا وحي يوحى} .

وجوابه: أنه إنما يتناول النطق دون اجتهاده الذى هو من فعله لا من نطقه، والنزل إنما هو في الاجتهاد.

سلمناه لكن لما أمر بالاجتهاد والابلاغ بمقتضاه والعمل به لم يكن ذلك نطقا بغير الوحى بل هو به.

ص: 3803

وثانيها: قوله تعالى: {إن أتبع إلا ما يوحى إلى} وذلك يقتضى أن لا يتبع الحكم الصادر عن الاجتهاد.

وجوابه: ما تقدم، ويخصه أن المراد منه: القرآن أي ما أتلو عليكم منه إلا ما يوحى إلى بقرينة قوله: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} .

وثالثها: أنه لا يجوز مراجعته في الأحكام الشرعية لقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية وبالإجماع أيضًا، ويجوز مراجعته فى اجتهاده ورأية؛ لما روى أنه نزل منزلاً فقال بعض الصحابة: إن كان هذا عن وحي فالسمع والطاعة وإلا فليس هو بمنزل مكيدة، ولم ينكر- عليه السلام عليه بل روى أنه رحل عنها، فيكون ذلك دليلاً على جواز مراجعته في اجتهاده ورأيه فيلزم أن لا يكون شيء من الأحكام الشرعية عن اجتهاد ورأى.

وجوابه:/ (296/ أ) منع جواز مراجعته فيما يصدر عن اجتهاده ورأيه مطلقًا بل إنما يجوز في الآراء والحروب، فلم قلتم أنه يحوز في الأحكام الشرعية الصادرة عن اجتهاد ورأى؟.

ورابعها: أن مخالفه عليه السلام يكفر بما تلونا من الآية، ومخالفه في الأحكام الاجتهادية لا يكفر لقوله- عليه السلام: (من اجتهد فأصاب فله

ص: 3804

أجران ومن أخطأ فله أجر واحد). ومن له أجر في عمل لا يكفر به وفاقا فليس شيء من أحكامه عن اجتهاد.

وجوابه: منع أن مخالفة في الأحكام الاجتهادية لا يكفر؛ وهذا لأن الحكم الاجتهادي وإن كان مظنونًا لكن الرسول- عليه السلام لما أفتى به صار مقطوعًا به. لأنه لا يجوز أن يقو على الخطأ كما أن الحكم الاجتهادي إذا صار مجمعا عليه صار مقطوعًا به، واجتهاده- عليه السلام، وتقريره- عليه "السلام- لا يتقاصر عن إجماع مجموع الأمة على الحكم الاجتهادي [فإن عصمتهم]، نتيجة عصمته- عليه السلام، والحديث محمول على الخطأ في الحكم الاجتهادي الذي لم يصو مقطوعًا به؛ بدليل أن الحكم الاجتهادي إذا صار مجمعًا عليه لم يستحق مخالفه على ذلك أجرًا بل ربما يضلل ويفسق.

ص: 3805

وخامسها: لو كان شيء من الأحكام الشرعية صادرًا عن اجتهاده لجاز أن يخالف فيه؛ لأن ذلك من لوازم الحكم الاجتهادي، ولجاز أن يحصل لمخالفه أجر لما تقدم من الحديث لكنه باطل بالإجماع، فوجب أن لا يكون شيء من الأحكام الشرعية مشروعا بطريق الاجتهاد من جهته عليه السلام.

وجوابه: منع أن ذلك من لوارم الحكم الاجتهادي مطلقًا بل هو من لوازم الحكم الاجتهادي المظنون، فأما إذا صار مقطوعا به فلا.

وسادسها: لو كان مأمورًا بالاجتهاد في الأحكام الشرعية لكان عاملاً به، وإلا قدح ذلك في عصمته، ولو كان عمل به لأظهره، لئلا يكون موهما شرعيته بطريق الوحى فإنه أكثر، والفرد يلحق بالأعم والأغلب فيكون مغريًا على الجهل، ولكن ليقتضي به فما فعل ذلك في غيره، ولما توقف في شيء عن الأحكام الذى سئل عنه على الوحى لتمكنه من معرفة الحكم فيه بطريق الاجتهاد والعقل وإلا كان مؤخرًا للبيان عن وقت الحاجة، فإن القدرة على تحصيل الشيء قد تجعل كحصول الشيء، كما جعلت القدرة على تحصيل الماء كحصوله في عدم جواز التيمم، وهو غير جائز لكن- عليه السلام توقف عليه في كثير من المسائل كما في مسائل الظهار

ص: 3806

واللعان فدل على أنه غير مشروع في حقه.

وجوابه: لعله إنما لم يظهره صريحا لعلمه- عليه السلام بمعرفة الأمة ذلك من الأدلة التي ذكرناها على ذلك.

سلمنا أنه لابد من الاظهار لكن لا نسلم أنه لم يظهره فلعله أظهره صريحا لكنه لم ينقل لندرته.

سلمنا أنه لابد من النقل لكن لا نسلم أنه لم ينقل؛ وهذا فإنه نقل طويق الاجتهاد في حديث الخثعمية، وفي حديث عمر في قبلة الصائم، فلعل ذلك كان طويقه في معرفة ذلك الحكم فلما سئل عنه أجاب عنه بطريق اجتهاده.

وأما توقفه على الوحى فلعله كان في الأحكام التي لا مجال للاجتهاد فيها. يؤكده: أنه إنما نقل عنه- عليه السلام التوقف في الأصول المستقلة التي لا يمكن أن تقاس على أصول أخر بجامع معتبر بل لا يعقل معناها كما في الظهار واللعان وغيرهما دون تفاريع المسائل للأصول المستقلة.

سلمنا إمكان الاجتهاد فيما توقف فيه لكن الاجتهاد إنما. يسوغ حيث علم أو ظن العجز عن وجدان النص، فلعله- عليه السلام كان يتوقف ريثما يعلم

ص: 3807

أو يظن أن الله تعالى لم ينزل عليه الوحى وحينئذ لم يكن مؤخرًا للبيان عن وقت الحاجة.

وسابعها: لو جاز له الاجتهاد في الأحكام الشرعية لجاز لجبريل- عليه السلام. وحينئذ لا يعرف أن هذا الشرع الذى جاءنا به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحي الله تعالى، أو من اجتهاد جبريل- عليه السلام.

وجوابه: أنه قياس خال عن الجامع، ثم الفرق ظاهر غنى عن البيان.

سلمنا عدم الفرق لكنه احتمال مدفوع بالإجماع.

وثامنها: أن تجويزه له يورث التهمة في حقه وهى أنه ربما يعتقد أته- عليه السلام هو الواضع / (297/أ) للشريعة من تلقاء نفسه وهو مما يوجب النفرة ويخل بمقصود البعثة وهو باطل قطعًا.

وجوابه: أن التهمة إنما تتأتي إذ لو أمكن وضع الشويعة بالاجتهاد لكن ذلك معلوم الامتناع، فتكون التهمة زائلةً محنه لعدم إمكانه.

سلمناه لكن التهمة زائلة عنه في وضع الشريعة بالرأي والاجتهاد بالمعجزات الدالة على صدقه في كل ما يدعيه، ومعلوم أنه ادعى أن هذه الشريعة من جهة الله تعالى بالوحى والتنزيل لا من تلقاء نفسه فيلزم أن يكون صادقًا فيه فتكون التهمة زائلة.

وتاسعها: أن الاجتهاد مشروط بعدم النص، وهذا الشموط مفقود في حقه

ص: 3808

عليه السلام لأنه ما من حالة إلا ويتوقع نزول الوحى فيها، وإمكان نزول الوحي في حقه كإمكان وجدان النص في حقنا فما لم يحصل له اليأس عن نزول الوحي لا يجوز له الاجتهاد كما لا يجوز لنا الاجتهاد ما لم يحصل لنا اليأس عن وجدان النص.

وجوابه: منع أن إمكان نزول الوحى في حقه كإمكان وجدان النص في حقنا؛ وهذا لأن الأصل في كل معدوم دوامه واستمراره، وليس الأصل عدم وجدان الموجود، ولأن شرط صحة العمل بالاجتهاد عدم وجود، لا عدم وجدانه، غاية ما في الباب أنه إذا لم يجده جاز له العمل بالاجتهاد للضرورة، ولهذا لو علم وجود النص بعد ذلك تبينا بطلان الاجتهاد من أصله، وليس كذلك في صورة توقع نزول الوحي والنص فإنه لا يبطل العمل به إلا من حين نزول الوحي.

سلمناه لكن لا يشترط في اليأس من نزوله أن يحصل له القطع بذلك بل يكفي فيه غلبة الظن فلعله- عليه السلام ما كان يجتهد حتى يحصل له الظن بعدم نزول الوحي في تلك الواقعة.

وعاشرها: أجمعنا على أنه لا يجوز له أن يخبر ما لا يعلم كونه صدقًا وإذ غلب على ظنه صدقه، فكذا لا يجوز له أن يحكم بما لا يعلم كونه صوابًا وحقًا وإن غلب على ظنه صوابًا وحقًا.

وجوابه. أنه قياس خال عن الجامع.

ص: 3809

سلمناه لكن الفرق بينهما حاصل وبيانه من حيث الإجمال والتفصيل.

أما الإجمالي فهو: أن الإخبار بما لا يعلم كونه صدقا لا يؤمن فيه عن الكذب الذى هو عبارة عن الاخبار عن الشيء خلافًا ما هو عليه، وذلك مما لا يجوز الإقدام عليه لأحد من الأمة فضلاً عن النبي- عليه السلام بخلاف الحكم بطريق الاجتهاد فإنه وإن اختلف في جوازه للنبي- عليه السلام لكنه جائز للامة وفاقا، والاختلاف في الحكم دليل على الاختلاف في الحكمة.

وأما من حيث التفصيل فهو: أن الحكم بطريق الاجتهاد مما علم كونه صوابًا وحقًا لا محالة أما على قولنا: كل مجتهد مصيب فظاهر، وأما على قولنا: المصيب واحد فكذلك؛ لأن المجتهد مأمور بالعمل بما غلب على ظنه أنه حكم الله في حقه، فيكون العمل بمقتضى ما غلب على الظن حقصا وصوابًا قطعًا.

سلمنا احتمال الخطأ للمجتهد في الجملة لكن الرسول ممنوع عنه؛ وهذا لأنا وإن جوزنا له الاجتهاد لكن لا يجوز له أن يخطئ في اجتهاده فليس هو كالخبر الذي لا يؤمن من فيه عن الكذب.

ص: 3810

فرع

إذا جوزنا له الاجتهاد فالحق عندنا أنه لا يجوز له أن يخطئ.

وقال أكثر أصحابنا يجوز لكن بشرط أن لا يقر عليه.

لنا: أن تجويز الخطا عليه غض من منصبه فوجب أن لا يجوز.

وأيضًا: فإن اجتهاده بتشريع الأحكام جار مجرى إبلاغ تشريعه لكما لا يجوز عليه الخطأ في ذلك فكذا فيما نحن فيه.

واحتج الإمام- رحمه الله تعالى- على ذلك: بأنا مأمورون لاتباعه في الحكم لقوله تعالى. {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدا في أنفسهم حرجًا مما قضيت} فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ وذلك ينافي كونه خطأ.

ص: 3811

ولقائل أن يقول: الأمر باتباعه إنما يكون بعد أن يقر عليه، فأما قبله فلا يتصور ذلك. إذ المعنى منه أنه لا يقر عليه بحيث إن / (298/ أ) يحكم به وبشرعه بل ينبه عليه قبل ذلك والخصم لا يجوز أن يقر عليه فلم ينتهض ما ذكره دليلاً عليه.

واحتج على ذلك أيضًا: بأن مجموع الأمة معصومة عن الخطأ في اجتهادها فكذلك النبي عليه السلام بل بالطريق الأولى؟ لأن عصمتهم مستفادة من عصمته- عليه السلام، ولأنه أكرم عند الله تعالى منهم.

وفيه أيضًا نظر؛ من حيث إن ذلك إنما لا يجوز لأن الأمة لو أخطأت لم يمكن أن يقال: إنهم لا يقرون على ذلك لانقطاع الوحى بعد الرسول عليه السلام فيفضى ذلك إلى أن يبقى الخطأ شرعًا دائمًا، وليس كذلك في حق الرسول- عليه السلام، فإنه إذا اتفق ذلك منه- عليه السلام نبه عليه بالتنزيل والوحي فافترقا.

واحتج الخصم بوجوه:

أحدها: قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} والعفو لا يكون إلا عن خطأ.

وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك كان عن اجتهاد.

سلمناه لكن ذلك في أمر الأمراء والحروب والمصالح الدنيوية، والخصم ربما يجوز ذلك، فلم قلت: يجوز مثله في الأحكام؟

ص: 3812

سلمناه، لكن لا نسلم أن العفو لا يكون إلا عن خطأ، فلم لا يجوز أن يكون عن ترك الأولى؟ فإن سيئات المقربين حسنات الأبرار.

وثانيها: قوله تعالى في أسارى بدر: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} وقال عليه السلام "لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب".

ص: 3813

وهذا يدل على أنه عليه السلام أخطأ في أخذ الفداء.

وجوابه: بعض ما سبق.

وثالثها: قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم} فلما جاز الخطأ على غيره جاز أيضًا عليه.

وجوابه: أنه لا يلزم من التساوي في البشرية التساوي في جواز الخطأ، فإن الافتراق بينه- عليه السلام وبين غيره من البشر واقع في أمور كثيرة.

ورأسها: قوله عليه السلام: "إنكم لتختصمون لدى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار"، فلو لم يجز أن يقضي لأحد إلا بحقه لم يفد هذا.

ص: 3814

وجوابه: أن ذلك ليس مما نحن فيه [في] شيء؛ لأن الحديث محمول على إقامة شهادة الزور ونحوها، وهو ليس من اجتهاده- عليه السلام في شيء.

وخامسها: أنه يجوز أن يغلط في أفعاله، فيجوز أن يغلط في أقواله كغيره من المجتهدين.

وجوابه: منع الحكم في الأصل.

سلمناه لكنه قياس خال عن الجامع.

سلمنا حصول الجامع لكن يجوز عليه الخطأ والغلط في أفعاله، ولا يجوز أن يغلط في أقواله كغيره من المجتهدين.

وجوابه: منع الحكم في الأصل.

سلمناه لكنه قياس خال عن الجامع.

سلمنا حصول الجامع لكن يجوز عليه الخطأ والغلط في أفعاله، ولا يجوز ذلك في أقواله فيما يتعلق في الإبلاغ عن الله تعالى، وتشريع الشريعة التي أوحى بها إليه وفاقًا، فليس الأقوال كالأفعال فلم يصح قياسها عليه.

ص: 3815