الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستدلال بالشيء على نفسه وهو ممتنع، وإن كان غيرها لزم الدور على ما سبق، فعلى التقديرين الاستدلال بالعلية على ثبوت الحكم وترتبه على العلة ممتنع وهو المقصود، والاستدلال بعلية العلة له صورتان:
إحدهما: أن يقال: سببه وجوب القصاص حاصل فيجب القصاص.
وثانيها: أن يقال: قتل عمد عدوان سبب لوجوب القصاص حاصل فيجب القصاص ففي الأول يجعل نفس السببية علة ودليلا، وفي الثانية جزء العلة جزؤ الدليل وكلاهما باطلان كما سبق.
المسألة الخامسة عشرة
اعلم أن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي يسمى تعليلا بالمانع
.
واختلفوا في أنه هل يشترط في صحة هذا التعليل بيان وجود المقتضي أم لا؟
فذهب جمع إلى اشتراطه.
وأباه الآخرون.
ولا يخفى عليك أن هذا الخلاف إنما يتأتى إذا جوزنا تخصيص العلة فأما إذا لم نجوز ذلك فلا يتصور هذا الخلاف؛ لأن التعليل بالمانع حينئذ لا يتصور
فضلا عن أن يكون مشروطا ببيان وجود المقتضى أم لا، وكذا الخلاف فيما إذا علل عدم الحكم بفوات شرط.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن الأحكام مشروعة لمصالح الخلق على ما تقدم تقريره، فما لا مصلحة فيه لا فائدة في شرعه، وما لا فائدة في/ (227/أ) شرعه يكون انتفاؤه لانتفاء فائدته، سواء وجد هناك ما يقتضي عدمه أو لم يوجد. وفرق بين عدم الحكم لعدم المقتضى، وبين عدم الحكم لمقتضى العدم، فإن الأول نفى للمقتضي، والثاني إثبات له، وهو غير مستلزم له وإذا كان كذلك كان عدم الحكم لعدم المقتضي لا لوجود المانع فما لم يوجد المقتضي للإثبات كان نفي الحكم للمانع أو للشرط ممتنعا.
وجوابه: أنا نسلم أن عدمه لعدم المقتضي، لكن لا نسلم أن ذلك يقتضي أن لا يكون عدمه لوجود المانع، وما الدليل عليه؟
فإن قلت: الدليل عليه وهو أنه يلزم منه إثبات الثابت وتحصيل الحاصل وهو ممتنع.
قلت: لا نسلم لزوم هذا الذي يدل على تعليله بالمانع أنه لو لم يكن معللا به أيضا لزم الترك بالمناسبة والاقتران، وأنه خلاف الأصل، ولأن علل الشرع أدلة ومعرفات فلا يمتنع اجتماعها على مدلول واحد] ومعرف واحد [فلا يلزم من تعليله بعدم المقتضي امتناع تعليله بوجود المانع.
وثانيها: أنه لو علل عدم الحكم بالمانع فإما أن تعليل به العدم الأصلي وهو باطل.
أما أولا: فلأن العدم الأصلي واجب أزلي والواجب لا يعلل.
وأما ثانيا: فلأنه كان حاصلا قبل المانع، والشرع الحاصل قبل يمتنع تعليله بالحاصل بعد، أو العدم المتجدد وفيه تسليم المقصود؛ لأن تجدد عدم الحكم لا يحصل إلا بأحد أمرين.
أحدهما: أن يكون عدم الحكم بعد وجوده.
وثانيهما: أن يكون الحكم بفرضية الدخول فمنعه المانع من الدخول، وعلى التقديرين لا يتحقق ذلك إلا عند قيام المقتضي.
وجوابه: منع امتناع تعليل المتقدم بالمتأخر بمعنى المعرف ومنع كون الواجب لا يعلل بذلك المعنى.
سلمنا امتناع هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون الملل المتجدد.
قوله: ذلك لا يتحقق إلا عند قيام المقتضي.
قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنا لا نعني بالعدم المتجدد إلا أنه حصل لنا العلم بعدم الحكم من قبل الشرع، ومعلوم أن هذا لا يقتضي تحقق المقتضي.
وثالثها: أن عدم الحكم معلل بعدم المقتضي وفاقا، فلو علل بالمانع إذ ذاك أيضا فإما نفس ذلك العدم، أو مثله وهما باطلان، لما فيه من تحصيل الحاصل واجتماع المثلين أو غيرهما، وفيه تسليم المقصود، أو خلاف الغرض لا غيرهما، إما العدم المتجدد، أو ثبوت الحكم.
وجوابه ما سبق في الأول.
ورابعها: أن إسناد انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضي أظهر عند العقل من إسناد انتفائه إلى وجود المانع.
أما أولا: فلأنه أعم وأغلب.
وأما ثانيا: فلأنه لا يتوقف ذلك إلا على عدم المقتضي، وأما إسناد انتفائه إلى وجود المانع فيتوقف على وجود المانع ومناسبته واقتران العدم معه، ثم الوجود يتوقف على مقدمات لا يتوقف عليها العدم والمتوقف على أقل المقدمات أظهر عند العقل من المتوقف على أكثرها فثبت أن إسناد انتفاء الحكم إلى عدم المقتضي أظهر عند العقل من إسناد انتفائه إلى وجود المانع، وحينئذ إن كان ظن عدم المقتضي أقوى من ظن وجود المانع أو مثله لم يجز التعليل بالمانع؛ لأنه حينئذ يكون ظن عدم المقتضي أرجح من ظن وجود المانع، أما في الصورة الأولى فظاهر، وأما في الثانية فلأنهما لما استويا فى الظن واختص عدم المقتضي بمزية، وهي أن ظن إسناد عدم الحكم إليه أظهر من ظن إسناد إلى وجود المانع كان ظن تعليل العدم بعدم المقتضى أظهر من ظن تعليله بوجود المانع، وإذا كان كذلك لم يجز التعليل بوجود المانع؛ لأن مع وجود العلة الراجحة لم يجز التعليل بالعلة المرجوحة، وإن كان ظن عدم المقتضي مرجوحا بالنسبة إلى ظن وجود المانع جاز التعليل بالمانع، بل وجب لكن ذلك يتضمن رجحان ظن وجود المقتضي؛ لأن ظن عدمه لما كان مرجوحا وجب أن يكون ظن وجوده راجحا، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فيكون التعليل بالمانع يتوقف على بيان رجحان وجود المقتضي وهو المطلوب.
وجوابه: أن مجرد العلم أو الظن بوجود المانع يقتضي ظن عدم الحكم، بدون الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التى ذكرتموها.
وخامسها: أن التعليل بالمانع يتوقف على بيان وجود المقتضي في العرف فوجب أن يكون في الشرع كذلك.
بيان الأول: أن من قال في طير القفص: إنما لا يطير، لأن القفص يمنعه، فهذا التعليل موقوف على العلم أو الظن يكون الطير حيا قادرا على الطيران، فإن بتقدير أن يكون ميتا، أو كان مقصوص الجناح امتنع هذا التعليل ونظائره كثيرة.
بيان الثاني بالحديث المشهور.
وجوابه: منع توقف التعليل عليه في العرف؛ وهذا لأن العرف في ذلك مختلف، فتارة يتوقف عليه كما في المثال الذي ذكرتم، وتارة لا يتوقف عليه كما إذا علمنا أو ظننا وجود سبع في طريق شخص، فإن/ (228/أ) هذا القدر كاف في حصول الظن في أن ذلك الشخص لا يحضر، وأإن لم يخطر ببالنا سلامة أعضائه، وأن له داعية الحضور، ويمكن أن يجعل هذا مع الحديث المشهور الذى تمسك به الخصم دليلا في المسألة ابتداء.
واحتج الآخرون بوجوه:
أحدهما: أن بين المقتضي والمانع عنادا وتضادا، والشيء لا يتقوى بضده ومعانده بل يضعف فإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه وهو حال وجود المقتضي، فلأن يجوز حال قوته وهو حال عدم المقتضي بالطريق الأولى.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من جواز تعليل عدم الحكم بالمانع حال وجود المقتضي الذي هو شرط التعليل به] جواز تعليله به حال عدم المقتضي الذي هو مناف لتعليله به [وأما كونه قويا إذ ذاك ضعيف حال وجوده فممنوع أولاً؛
وهذا لأن وجود المقتضي لما كان شرط تأثيره في عدم الحكم استحال أن يقال إنه يضعف إذ ذاك؛ لأن الشيء لا يضعف حال وجود شرط تأثيره.
سلمناه لكن لا يلزم منه أيضا عدم الجواز؛ لأن المأخذ في هذا ليس هو القوة والضعف حتى يلزم ما ذكرتم بل غيرهما كما عرفت مما تقدم فلا يلزم ما ذكروه.
وثانيها: أن توقيف اقتضاء المقتضي على شرط خلاف الأصل لا سيما إذا كان ذلك الشرط يستلزم خلاف أصل آخر، ولا شك أن المانع مقتضي لعدم الحكم فتوقيف اقتضائه بعدم الحكم على وجود المقتضي الذي يستلزم التعارض الذي هو خلاف الأصل بينه وبين نفسه خلاف الأصل وهذه الحجة لا بأس بها.
وثالثها: أن الوصف الوجودي إذا كان مناسبا للحكم العدمي أو كان دائرا معه وجودا وعدما حصل لنا ظن عليته له والعمل بالظن واجب، فيكون العمل بعليته واجبا ولا نعني بكونه علة سوى هذا.
وجوابه: منع حصول الظن بذلك مطلقا، بل إذا لم يكن شرط، أو أن كان له شرط لكن إذا وجد شرائط تأثيره فلم قلتم أن ذلك حاصل هاهنا، ثم أنه لا يمكنكم إلا إذا بينتم أن وجود المقتضي ليس بشرط له فالاستدلال به على عدم اشتراط وجود المقتضي دور.
فرع
ثم أن شرطنا بيان وجود المقتضي في التعليل بالمانع فلا يجب على المستدل في الفرع موجودا فيه لم يكن الحكم ثابتا فيه وهو المطلوب. وإن كان موجودا فيه كان ذلك لمصلحة كذا، أو دفع حاجة كذا، وهذا المعنى حاصل في الأصل، والعدم ثابت فيه بالإجماع، فيكون عدم الحكم فيه معللا بالمانع وأنه حاصل في الفرع فيلزم عدم الحكم في صورة الفرع.
تنبيه
شرط بعضهم أن يكون الاتفاق حاصلا على وجود الوصف الذي جعل علة الحكم في الأصل.
وهو ضعيف؛ لأنه لما أمكن لإثباته بالدليل حصل الغرض ولأنه ليس شرط حصول الاتفاق على هذه المقدمة من مقدمات القياس أولى من اشتراطه في غيرها] بل ربما يكون غيرها [أولى بذلك لمدار القياس عليه.
والحق أن وجود ذلك قد يكون معلوما بالضرورة، وقد يكون بالنظر، وقد يكون مظنونا بالأمارة الموجبة لها.