الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على كون الوصف علة الحكم
.
فنقول: الدليل على ذلك وجهان:
أحدهما وهو مبنى على مقدمات:
إحداهما: هي أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، يدل عليها وجوه:
أحدها: الإجماع وتقريره من وجهين:
أحدهما: أن العقلاء مجمعون على أنه تعالى حكيم، والحكيم هو الذي [يكون] فعله لمصلحة فمن يفعل لا لمصلحة سواء كان لمفسدة أو لم يكن لها أيضًا لم يعد حكيمًا/ (179/ أ).
وثانيهما: أن أئمة الأمصار في جميع الأعصار من أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله لا تخلو عن حكم مقصودة عائدة إلى العبيد لاستحالة عودها إلى الله تعالى، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما يقوله القائلون بالتحسين والتقبيح، أو بحكم التفضل والوقوع كما يقوله من لم يقل به.
وفي هذا التقرير نظر؛ وذلك لأن من لم يقل من الأئمة بالقياس ربما لا يساعده على هذا، فإن الأحكام عنده غير معقولة المعنى بل ربما زعم بعضهم أنها على خلاف المعقول فكيف يحصل منهم الإجماع على ما ذكر؟ نعم يصح ذلك على رأى القائلين بالقياس.
وثانيها: أن تخصيص الواقعة المعينة بحكم معين إن لم يكن لمرجح لزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال، وإن كان لمرجح فذلك المرجح يستحيل أن يعود إلى الله تعالى.
أما أولًا: فبالإجماع.
وأما ثانيًا: فلأنه حينئذ يلزم أن يكون مستكملًا بذلك المرجح لأن كل من كان فاعليته لأمر يعود إلى نفسه كان ناقصًا في نفسه مستكملًا بذلك الأمر وهو ممتنع في حقه تعالى فيتعين أن يكون لمرجح يعود إلى العبيد، وهو إما المصلحة أو المفسدة، أو لا المصلحة ولا المفسدة، والقسمان الأخيران باطلان بالإجماع فيتعين الأول.
فإن قلت: ففعله لأمر يعود إلى العبيد إن لم يكن له فيه غرض بل وجوده وعدمه بالنسبة إلي سواء لزم الترجيح من غير مرجح، وإن كان له فيه غرض عاد حديث الاستكمال.
قلت: غرض الإحسان إلى المحتاجين لا يعده العقلاء نقصًا بخلاف غرض النفس فإنه يعد نقصًا.
وثالثها: لو شرع الله تعالى الأحكام لا لمصلحة تعود إليه تعالى ولا إلى العبيد لكان إما عابثًا أو ظالمًا؛ لأنه إن لم يفعله لغرض ما لزم الأول، أو لغرض إضرارهم لزم الثاني وهما باطلان.
أما أولًا فبالإجماع فإن العقلاء بأسرهم أجمعوا على أنه تعالى ليس بعابث ولا ظالم.
وأما ثانيًا: فلقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} ، {ربنا
ما خلقت هذا باطلًا} وقوله تعالى: {وما الله يريد ظلمًا للعالمين} وقوله: {وما ربك بظلام للعبيد} .
وأما ثالثًا: فلأن العبث والظلم صفتا نقص وهو على الله تعالى محال.
ورابعها: الاستدلال بكل ما في القرآن والأحاديث من النصوص الدالة على أنه تعالى رحيم رؤوف، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن الرسول كان رحمة للعالمين، وأنه كان هدى لهم، وأنه كان رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين وأنه لم يشرع ما فيه ضررهم، وأنه لم يرد بهم العسر بل يريد لهم العسر، ولم يشرع لهم ما فيه حرجهم، وأنه تعالى ما بعثه إلا بالحنيفية السمحة السهلة نحو قوله تعالى:{إن ربك من بعدها لرؤوف رحيم} وقوله: {ربنا وسعت كل شيء رحمة} وقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقوله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة) فهذه النصوص وأمثالها
تدل على أن التكاليف بأسرها للمصالح فإن تكليف العمل بما لا فائدة فيه في غاية العسر والحرج والمشقة وليس فيه رأفة ورحمة به فيه أضرار.
وخامسها: أن الله تعالى خلق الإنسان للعبادة لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلابد أن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل مصالحه، ودفع مضاره ليصير فارغ البال حسن الحال متمكنًا من الامتثال، لتجرده من الأشغال، فإذن كونه مكلفًا يقتضى ظن رعايته فيما يتعلق به حالًا ومآلًا، وتكليفه بما لا مصلحة له فيه ليس من رعايته في شيء فينا في كونه مكلفًا.
وسادسها: أنه تعالى خلق الإنسان مكرمًا مشرفًا قال الله تعالى: {ولقد كرمنا بنى آدم} وتكليف المكرم بما لا فائدة فيه لا يلائم تكريمه بل ينافيه، وأما تكليفه بما فيه فائدته يلائم تكريمه، وأفعال الحكيم يجب أن يلائم بعضها بعضًا، فإذن كونه مكرمًا مشرفًا يقتضي ظن أنه لو كلف لم يكلف إلا بما فيه مصلحة.
فثبت بهذه الوجوه أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، ولكن ذلك إما بطريق الوجوب كما يقوله الفقهاء من أهل السنة بخلاف المتكلمين منهم فإنهم
لم يقولوا بتعليل أحكامه وأفعاله تعالى بالمصالح لا بطريق الوجوب، ولا بطريق الجواز أصلًا وهو اللائق بأصولهم.
وثانيها: هو أن هذا الحكم مشتمل على هذه الجهة من المصلحة وهي ظاهرة؛ لأنا إنما نحكم بكون الحكم مشروعًا للمصلحة الفلانية إذا رأينا الحكم مشتملًا عليها.
وثالثها: هي أنا لما علمنا أن الحكم مشروع للمصلحة، وعلمنا أن الحكم الفلاني مشتمل على المصلحة الفلانية غلب على ظننا أنه إنما شرع لأجل تلك المصلحة ويدل عليه وجهان:
أحدهما: أن الحكم لا يجوز أن يكون مشروعًا لا لمصلحة لما تقدم فيكون مشروعًا لها، وهي إما المصلحة الظاهرة لنا، أو غيرها.
والثاني باطل؛ لأن الأصل عدم مصلحة/ (180/ أ) أخرى وعدم الإضافة إليها فيتعين الأول وهو المطلوب.
وثانيهما: أنا إذا اعتقدنا في ملك أنه لا يحكم إلا بمصلحته، ثم رأيناه قد حكم بحكم في محل معين يحصل منه مصلحة معينة، فإنه يغلب على ظننا أنه إنما حكم لأجل حصول تلك المصلحة، وإن أمكن أن يكون هناك مصلحة أخرى، وإذا كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون بالنسبة إلى الغائب كذلك لوجود العلة بعينها في حق الغائب، فإن العلة لذلك الظن الغالب [ليس إلا حصول تينك المقدمتين بدليل الدوران فإن الظن الغالب] حاصل عند حصولهما وغير حاصل عند فقدهما، وهما حاصلتان في حق الغائب إذ الكلام فيه بعد أن ثبت أنه لا يحكم لا لمصلحة وأن هذه مصلحة، فثبت بهذا الدليل أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية.
وثانيهما: في بيان أن المناسبة دالة على العلية وإن لم نقل بوجوب تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح.
والدليل عليه هو: أنا لما تأملنا الشرائع وجدنا المصالح والأحكام مقترنين لا ينفك أحدهما عن الأخرى، وذلك يقتضى حصول غلبة الظن بحصول أحدهما عند حصول الأخرى؛ لأن وقوع الشيء مرارًا كثيرة على وجه مخصوص يقتضي ظن أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه المخصوص.
ألا ترى أن دوران الأفلاك، وطلوع الكواكب وغروبها، وبقائها على أوضاع مخصوصة غير واجب أن يكون كذلك على رأى المليين، مع أنه قد يجزم بأنه لا يقع إلا على ذلك الوجه المخصوص؛ لما أن الله تعالى أجرى عادته بإيقاع كل واحد منها على وجه مخصوص، وعلى هذا أيضًا الجزم بترتيب جميع المسببات على أسبابها مع أن ذلك ليس على سبيل الوجوب، لما عرف أن ترتبها عليها إنما هو بخلق الله تعالى، فثبت أن المناسبة تفيد ظن العلية وإن لم تعلل أفعال الله تعالى وأحكامه، وإذا ثبت أن المناسبة تفيد ظن العلية لزم أن يجب العمل به للأدلة التي تقدمت في أن العمل بالظن واجب.
فإن قيل: لا نسلم أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة بالمصالح ولا نسلم انعقاد الإجماع على ذلك، وكيف يدعى ذلك مع أن مذهب جماهير المتكلمين من أهل السنة أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى، فإن عندهم أن كل من فعل فعلًا لغرض سواء كان ذلك الغرض يعود إليه أو إلى الغير فإنه يكون حصوله بالنسبة إليه أولى، وإذا كان كذلك فيكون ناقصًا في نفسه مستكملًا بغيره، وهو في حق الله تعالى محال.
أما الوجه الأول وهو الاستدلال بكونه حكيمًا على ذلك فضعيف؛ وهذا
لأنا لا نسلم أن الحكيم هو الذي يكون فعله لمصلحة بل هو الذي يكون فعله متقنًا محكمًا، والمراد من كون فعله محكمًا: أنه واقع على الترتيب العجيب، والتأليف اللطيف لا أنه مشتمل على المصلحة، أو هو الذي لا يصدر عنه ما لا ينبغي، وصدور ما لا ينبغي في حقه تعالى محال؛ لأن ذلك إنما يكون بالتصرف في ملك الغير أو التصرف في ملك نفسه بما لا يأمره الشارع به، وهما في حق الله تعالى غير متصورين.
وأما الوجه الثاني فضعيف أيضًا؛ إذ لا يلزم من إجماع الفقهاء عليه مع مخالفة المتكلمين لهم أن يكون مجمعًا عليه وحجة عليهم وعلى غيرهم من المخالفين؛ فإن هذه المسألة من مسائل الكلام لا من تفاريع الفقه حتى يستدل بإجماعهم على غيرهم.
وأما الوجه الثاني فالاعتراض عليه هو أن نقول: إن ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح إن جاز بالنسبة إلى القادر المختار فقد سقط الدليل، وإن لم يجز فحينئذ إما أن يقال: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى أو مخلوقة لهم، وعلى التقديرين لا يمكن القول بتعليل أفعال الله بالمصالح.
أما على الأول، فلأن الكفر والمعاصي كلها حينئذ تكون واقعة بخلق الله تعالى، ومع القول بذلك لا يمكن تعليل أفعاله تعالى بالمصالح.
وأما على الثاني؛ فلأن العبد المتمكن من فعل المعصية وخلقها إن لم يكن متمكنًا من تركها، كان العبد مضطرًا إلى فعلها ثم ما به الاضطرار ليس منه. وإلا لكان متمكنًا من تركها بسبب ترك فعل ما به الاضطرار، ونحن نتكلم على خلاف هذا التقدير فيكون ما به الاضطرار من فعل الله تعالى، فيكون الله تعالى قد فعل شيئًا أوجب ذلك صدور المعصية من العبد ويمتنع عقلًا انفكاك العبد منه، ومع هذا لا يمكن القول بتعليل أفعال الله تعالى بالمصالح، وإن كان متمكنًا من تركها فرجحان فاعليته على تاركيته لابد وأن يكون لمرجح؛ لأنا نتكلم على تقدير أنه لا يجوز ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير
مرجح وذلك المرجح لا يجوز أن يكون منه وإلا كان الكلام في فاعليته لذلك المرجح كما في الأول فلا يتسلسل بل ينتهي إلى مرجح من جهة الله تعالى بحسب الفعل عنده لما عرفت ذلك آنفًا، وحينئذ يلزم من أنه تعالى خلق في العبد شيئًا أوجب فعل المعصية ولا يتمكن من تركها، ومعه لا يصح القول بتعليل أفعال الله تعالى بالمصالح، فثبت أن على أحد التقديرين الدليل ساقط وعلى التقدير الثاني لا يمكن القول بتعليل أفعاله تعالى بالمصالح.
وأما الوجه الثالث: فلا نسلم أن الفعل الخالي عن المصلحة عبث وما الدليل عليه.
سلمناه لكن لا يلزم منه أن يكون الله تعالى عابثًا؛ وهذا لأن أساسي الله توقيفية فلا يجوز/ (181/ أ) تسميته بذلك وإن صدر منه هذا النوع من الفعل، ولا نسلم أن بتقدير قصد إضرارهم يكون ظالمًا؛ وهذا لأن الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير وهو في حقه تعالى محال.
ثم ما ذكرتم معارض بوجوه:
أحدهما: ما تقدم اعتراضًا على الوجه الثاني فإنه يمكن أن يكون في المسألة دليلًا ابتداء.
وثانيها: أن تعليل أفعاله تعالى بالأغراض يقتضى نفى كونه فاعلًا مختارًا فكان باطلًا.
بيان الأول: [أن] عند ظهور حصول الغرض إن لم يتمكن من ترك ذلك الفعل فقد لزم أن يكون مضطرًا إلى فعله، ولا شك أن الاضطرار ينافي الاختيار، وإنن كان متمكنًا من تركه أيضًا فقد أمكن الفعل مرة والترك أخرى فرجحان الفاعلية على التاركية إن توقف على غرض آخر كان الكلام فيه كما
في الأول ولزم التسلسل وهو محال، وإن لم يتوقف لم تكن فاعليته متوقفة على غرض وهو المطلوب.
وثالثها: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ إذ لو كانت مخلوقة لهم لوجب أن يكونوا عالمين بتفاصيلها لكنه ليس كذلك فيلزم أن لا تكون مخلوقة لهم، وبيان الملازمة وانتفاء اللازم مستقصى في الكلام.
ورابعها: أن الإمكان مصحح للمقدورية فمقدور العبد مقدور لله تعالى، وحينئذ يجب وقوعه بقدرة الله تعالى؛ إذ لا يجوز أن يقع بقدرة الله وبقدرة العبد؛ لأنه حينئذ يلزم الاستغناء عنها حالة الافتقار إليهما وهو محال، ولا أن لا يقع بهما، لأنه يلزم أن يقع بهما ولا بقدرة العبد لأنها ضعيفة، فإضافة الوقوع إلى القوى أقوى فيتعين أن تقع بقدرة الله تعالى.
وخامسها: لو قدر العبد على بعض الممكنات لقدر على كلها لما سبق أن المصحح للمقدروية إنما هو الإمكان وهو مشترك بين الكل لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.
وسادسها: لو كانت أفعال الله تعالى معللة بالأغراض فتلك الأغراض إن كانت قديمة، لزم من قدمها قدم الفعل والمفعول، وإن كانت حادثة فإن توقف حدوثها على حدوث غرض آخر لزم التسلسل وإلا فهو المطلوب.
وسابعها: بعض ما تقدم وما يأتي من الأدلة الدالة على صحة تكليف ما لا يطاق، فإن كل ذلك ينفي القول بتعليل أفعال الله تعالى بالمصالح.
وثامنها: أن حكم الله تعالى قديم على ما تقدم تعريفه، والغرض حادث وإلا لزم القول بقديم آخر غير ذات الله تعالى وصفاته وهو باطل باتفاق المسلمين فلم يجز تعليله به وإلا لزم جواز تعليل القديم بالحادث وهو ممتنع.
وتاسعها: أن إحداث العالم في وقت مخصوص دون ما قبله أو بعده لا
يجوز أن يكون لغرض ممكن إذ لا وجود لشيء من الممكنات قبل خلق العالم؛ إذ لو كان موجودًا لكان الشيء موجودًا قبل كونه موجودًا ضرورة أنه من جملة العالم وهو محال، وإذا كان كذلك فلا وقت ولا زمان إذ ذاك حتى يمكن أن يقال: أن الإيجاد في ذلك الوقت إنما كان لأجل كون ذلك الوقت منشأ للمصلحة، ولا واجب إذ الواجب لا يجوز أن يكون غرضًا من الفعل لأن الغرض معلول العلل الثلاثة في الوجود الخارجي والواجب لا يجوز أن يكون معلولًا.
وعاشرها: أن الحكم والمصالح متأخرة عن شرع الحكم والمتأخر عن الحكم لا تكون علة الحكم.
وحادي عشرها: أن كل حكمة تعرض ومصلحة تطلب فإن الله تعالى قادر على تحصيلها من غير وساطة الأحكام، فيكون توسيطها زيادة تعب وعناء على المكلف فيكون منفيًا لقوله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من خرج} وبأمثاله من النصوص، وعبث أيضًا وهو أيضًا ممتنع الثبوت في حقه تعالى لما تقدم.
وثاني عشرها: أن الله تعالى خلق بعض الكفار فقيرًا شقيًا بحيث يكون في الدنيا من أول العمر إلى آخره في المحنة والتعب الشديد الذي يتمني معه الموت في كل لحظة، وهو في الآخرة في العقاب الأليم وفي العذاب المقيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا شك أن الله تعالى كان عالمًا في الأزل بأن خلقه إياه وتكليفه بالإيمان لم ينفعه شيئًا بل يصير ذلك سببًا لمحنته وبلائه وأن إبقاءه على العدم الأصلي خير له، ومع هذا كيف يمكن أن يقال أنه تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة للعباد.
وثالث عشرها: أنه تعالى خلق الخلق وركب فيهم الشهوة والغضب
وسائر الصفات الذميمة، نحو الحقد والحسد حتى صدر منهم بسببها أنواع الفساد والشرور فيما يتعلق بهم وبغيرهم، مع أنه تعالى قادر على أن يخلقهم بحيث لا يصدر عنهم شيء من ذلك كما إذا خلقهم ابتداء في الجنة وأغناهم عن القبائح الذميمة بالمشتهيات الحسية، وما يقال: بأنه إنما فعل ذلك؛ لأن يعطيهم العوض، ولأن يكون لطفًا لمكلف آخر فضعيف؛ لأنه لو أعطى ما هو عوض ابتداء من غير تعب ونصب لكان أشد رعاية لمصلحتهم وأكثر إحسانًا إليهم، وتعذيب الحيوان المخصوص لأجل أن يكون لطفًا لآخر لا يرضى به عاقل.
ورابع عشرها: أن أفعاله وأحكامه تعالى لو كانت معللة بالمصالح فإما أن يكون بحيث يمكن انفكاكها عنها أو لا يمكن، والقسمان باطلان/ (182/ أ) فبطل القول بالمقارنة، أما الأول؛ فلأنه لو فرض الفعل خاليًا عنها لوجب أن يكون الفعل عبثًا؛ لأن كل فعل ثبت تعليله بالمصلحة فإذا فرض خاليًا عنها فإنه يوصف بذلك كما [في] فعل العبد بخلاف ما إذا كان فعله لا للمصلحة بل بمحض الإرداة والاختيار فإنه إذ ذاك يمنع وصفه بذلك.
وأما الثاني، فلأنه يقتضي أن يكون الباري تعالى مضطرًا في فعله وأن لا يكون متفضلًا على خلقه بتحصيل مقاصدهم ومآربهم وكل ذلك خلاف النصوص وإجماع السلف، ولأن الفقهاء مساعدون على فساد هذا القسم.
وخامس عشرها: لو كانت معللة بالمصالح فإما أن يكون مع وجوب التعليل وهو باطل؛ لأنه لو ترك ذلك لتوجه إليه السؤال؛ لأن كل من ترك ما وجب عليه فإنه يتوجه عليه أن يقال: لم تركته بالاستقراء لكن ذلك باطل؛ لقوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} أولا مع وجوب التعليل، وهو أيضًا باطل؛ لأنه حينئذ يمكن خلو الفعل عن المصلحة ويعود
ما تقدم من المحذور هو كون الفعل عبثًا.
وسادس عشرها: أنه تعالى مكن العبيد من فعل المعاصي وتركهم يرتكبون الفواحش مع علمه تعالى بذلك وقدرته على منعهم من ذلك، وذلك ينفي تعليل أفعاله تعالى بالمصالح.
وسابع عشرها: أن متعلق التكليف في النهي [إما نفس أن لا يفعل، أو فعل الضد، وعلى التقديرين يلزم أن يكون التكليف بمتعلق النهي] تكليف ما لا يطاق.
أما على التقدير الأول فلأن نفس أن لا يفعل نفي محض، وعدم صرف والقدرة صفة مؤثرة فالجمع بينهما متناقض، ولأن هذا المفهوم مستمر من الأزل إلى وقت التكليف فتأثير القدرة فيه تأثير في تحصيل الحاصل وهو محال.
وأما على التقدير الثاني فلأن المكلف قد يكون غافلًا عن ضد المنهي عنه حال النهي فيكون التكليف به إذ ذاك تكليف بالمغفول عنه وهو تكليف ما لا يطاق.
وثامن عشرها: لو كانت أفعال الله تعالى وأحكامه معللة بالمصالح لوجب أن لا يوجد شر وفساد في العالم، لكن الثاني باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة هو: أنه إن لم يكن لغير الله تعالى فعل في العالم فظاهر، لأنه حينئذ جميع ما يحصل في العالم إنما هو بفعل الله وفعله إنما هو للمصلحة فوجب ترتبها عليه فيلزم أن لا يحصل شر وفساد، وإن كان لغيره تعالى فعل فلا شك أن ذلك الفعل فلا يحصل إلا بأقدار الله تعالى لذلك الغير عليه، واقداره إنما هو فعله فهو لمصلحة فوجب أن تترتب المصلحة عليه، ولا يترتب عليه شر وفساد وإلا لم يكن فعله لمحض المصلحة بل لها وللمفسدة المساوية أو
الغالبة؛ ضرورة أنه ليس الغالب في العالم إنما هو المصلحة بل هو الشر والفساد، وحينئذ يلزم أن لا يكون فعله معللًا بالمصلحة ضرورة أن مجموع تلك المصلحة والمفسدة ليست مصلحة بل إما عبث أو مفسدة.
فإن قلت: اقداره تعالى إياه إنما هو للمصلحة وما يترتب عليه من المفاسد فإنما هو بسوء اختيار المكلف.
قلت: فاختيار المكلف إن كان من فعله تعالى عاد المحذور المذكور، وإن كان من فعل العبد فالكلام في اقداره عليه كما في الأول، فيلزم إما التسلسل وهو محال، أو لزوم الشر والفساد من فعله تعالى.
وتاسع عشرها: لو كانت أفعاله تعالى معللة بالمصالح لما أمات الأنبياء والخلفاء الراشدين، وأنظر إبليس وسلطه على بني آدم فيأتيهم من حيث لا يرونه، ولما ملك الملوك الجبابرة الظلمة وسلطهم على الضعفاء والصالحين، ولما أوجب تخليد أهل النار؛ إذ لا مصلحة في شيء من ذلك، أو وإن كان فيه مصلحة لكنها مرجوحة بالنسبة إلى ما فيه من المفسدة والعقوبة.
والعشرون: أن التكليف بمعرفة وجود الصانع متوجه نحو المكلف وهو إن كان حال العلم به فيلزم تحصيل الحاصل وهو محال، أو حال عدم العلم به وهو أيضًا محال؛ لأن في تلك الحالة يستحيل أن يعرف تكليفه إياه؛ لأن العلم بذلك يستدعى العلم بالمكلف فحالة الجهل به يستحيل العلم بذلك، وإذا استحال أن يعرف تكليفه إياه كان التكليف إليه متوجهًا إليه حالة الجهل به وإنه تكليف ما لا يطاق. فثبت بهذه الوجوه أن أفعال الله تعالى وأحكامه غير معللة بالمصالح، وحينئذ لا يغلب على الظن كون الأحكام مشروعة للمصالح وإن رأيناها مقترنة معها.
وأما الكلام على الدليل على المقدمة الثالثة فهو أن الدليل الأول مبني على أن استحصاب الحال حجة وسيأتي الكلام فيه أيضًا.
سلمنا حجيته في الجملة لكن لا نسلم أن الموجب لذلك الظن ليس إلا تينك المقدمتين بل هما مع ما نعلمه من أمرين آخرين من الإنسان وهما كون الإنسان بطبعه يميل إلى جلب المصالح ودفع المضار وهذا المعني غير موجود في حق الله تعالى؛ فإن الله تعالى منزه عن ذلك وكونه يراعي النوع المخصص من الحاجة، وليس المطلوب دفع عموم الحاجة حيث كان دفع الحاجة مطلوبًا وإلا لاندفعت الحاجات كلها، بل دفع الحاجة الخاصة، فلا جرم عند العلم بذلك يحصل الظن/ (183/ أ) بأن الإنسان إنما فعل الفعل الفلاني لأجل كذا، وليس هذا النوع من العلم حاصلًا من جهة الله، فلا جرم لم يجب حصول ذلك الظن بل المعلوم منه تعالى خلافه؛ بدليل اختلاف أفعاله وأحكامه بالنسبة إلى الأزمان والأشخاص.
سلمنا أن ما ذكرتم يدل على صحة قولكم لكنه معارض بوجوه:
أحدهما: أن الحكم لو كان معللًا فإما أن يكون معللًا بالحكمة وهو باطل؛ لأن الحكمة غير مضبوطة فلا يجوز ربط الأحكام بها، أو بالوصف وهو أيضًا باطل.
أما أولًا: فلأن الوصف إنما يكون علة لاشتماله على الحكمة بدليل أنه لو لم يتضمنها لم يجز جعله علة، ولما بطل أن تكون الحكمة علة بطل أن يكون متضمنها لأجلها يكون علة.
وأما ثانيًا: فلأن الحكمة حينئذ تكون على علته فيعود ما تقدم من المحذور.
وثانيها: أن أفعال الله تعالى وأحكامه غير معللة بدفع حاجة العبيد؛ إذ
لو كانت معللة به لاندفعت الحاجات بأسرها؛ لأن الحاجات كلها مشتركة في كونها حاجة ومتباينة بخصوصياتها، وتلك الخصوصيات يجب أن لا تكون حاجة وإلا لما حصل بها الامتياز، كما أنها مندرجة تحت الحاجة المشتركة بين الكل حينئذ، فإذا ثبت أن الأحكام شرعت لدفع الحاجة وثبت أن الحاجات كلها مشتركة في كونها حاجة لزم دفع الحاجات كلها لكنها غير مندفعة بأسرها وهو ظاهر، فبطل كونها معللة به.
وثالثها: أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه يقتضي توقيف المقتضي على الشرط أو تخلف الحكم عنه لمانع كلاهما على خلاف الأصل فالتعليل بدفع الحاجة على خلاف الأصل.
بيان الملازمة: أن أحكام الشرع من قبلنا كانت حسنة في تلك الشرائع؛ ولذلك كانت معمولة بها ثم صارت قبيحة في زمان شريعتنا؛ ولذلك حسن نسخها، ولا يجوز أن يكون ذلك من مقتضيات ماهية ذلك الفعل من حيث هو؛ لأن ماهية الفعل الواحد لا يقتضي حكمين مختلفين بحسب ماهيته، بل ذلك لأن اقتضاءه لذلك الحكم كان مشروطًا بشرط لم يوجد في زمننا، أو لأنه وجد في زماننا ما يمنعه من اقتضائه، وإنما كان يلزم أحد ما ذكرنا من الأمرين.
ورابعها: لو كانت الأحكام مشروعة لتحصيل المصالح لحصلت المصالح قطعًا ضرورة أن الحكيم القادر لا يسلك ما يحتمل أن لا يؤدي إلى المقصود مع قدرته على سلوك ما يؤدي إليه جزمًا لكن المصالح غير حاصلة قطعًا بدليل أن الزنا والسرقة وغير ذلك من الأحكام المشروعة لمصالحها قد تتخلف عنها، ولو كانت حاصلة على وجه القطع لما تخلفت في شيء من الصور، ولما تخلفت دل على أنها لم تشرع لها.
الجواب: اعلم أن ما ذكرتم من الاعتراضات والمعارضات وإن كان قويًا أمكن الجواب عن بعضه، لكنه بأسره وارد على الدليل الأول دون الثاني واعتمادنا في إثبات هذا المطلوب إنما هو على الدليل الثاني، ولا يرد شيء منها [عليه] فلا حاجة إلى تكلف الأجوبة عن تلك الاعتراضات والمعارضات.
وأما الجواب عن المعارضة الأولى من معارضات الحكم فمن وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أن الحكمة غير منضبطة بل قد تكون منضبطة وبها يجوز التعليل عند بعضهم.
سلمناه لكن لا نسلم أن الحكمة إذا لم تصلح للعلية لم يكن الوصف المشتمل عليها يصلح للعلية؛ وهذا لأن عدم صلاحيتها للعلية إنما هي لكونها غير مضبوطة، وهذا المعني زائل عندما تكون الحكمة متضمن الوصف فلا يلزم منه عدم صلاحية الوصف للعلية.
قوله في الوجه الثاني: (إن الحكمة علة لعلية الوصف فيعود المحذور المذكور).
قلنا: نعم لكن عندما تكون متضمن الوصف وحينئذ يلزم المحذور المذكور
وثانيهما: النقض بأفعالنا وفيه نظر.
وعن الثانية: النقض بأفعالنا، وأيضًا: فإن قولنا: الحكم معلل بدفع الحاجة لا نعني به ما صدق عليه أنه حاجة بل نعني به حاجة مخصوصة تختص بكل باب ونوع بل بمسألة بخلاف مطلق الحاجة فإنه مشترك بين الكل فلا يلزم اندفاع الحاجات بأسرها.
وعن الثالثة: النقص بأفعالنا، وأيضًا: فإنه مبنى على تحسين الفعل وتقبيحه وقد مضى إبطالهما.
وعن الرابعة: منع أنه غير حاصل قطعًا بل هو حاصل قطعًا وذلك لأنه ليس المقصود من شرع الحكم ترتب الحكمة عليه في كل صورة من صوره بل تكثير ذلك النوع من المصلحة أو تقليل ذلك النوع من المفسدة التي يترتب عليه، وهو حاصل قطعًا.
وأيضًا: فإنه يجوز أن يكون المقصود من شرع الحكم هو كون تلك الحكمة والمصلحة بحيث تترتب على ذلك الحكم ظاهرًا ولا شك في أن هذا مصلحة وهو حاصل قطعًا.
......................................................................................
الفصل الثالث