الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع السادس عشر
الكلام في التعادل والتراجيح
وهو مرتب على قسمين:-
القسم الأول في التعادل
وفيه مسائل.
المسألة الأولى
أطبق الكل على أن تعادل القاطعين المتنافيين عقليين كانا أو نقليين غير جائزة
لأن مدلول الدليل القطعي يجب أن يكون حاصلاً، فلو جوزنا تعادل القاطعين لزم حصول مدلوليهما وهو جمع بين المتنافيين وهو ممتنع.
واختلفوا في تعادل الأمارتين:- فمنعه الإمام أحمد، والكرخى، وجمع من فقهائنا.
وجوزه الباقون من الفقهاء والمتكلمين.
وهؤلاء اختلفوا في حكمه عند وقوعه على ثلاثة مذاهب:
أحدهما: إن حكمه، التخيير، وهو اختيار القاضي أبى بكر، وأبى على، وأبي هاشم.
وثانيها أن حكمه التساقط، ويجب الرجوع في ذلك إلى غيرهما. وهو البراءة الأصلية، هو مذهب كثر الفقهاء منهم
وثالثها: وهو القول بالتفصيل: وهو أن هذا التعارض والتعادل إن وقع بالنسبة إلى الواجبات فحكمه التخيير، فإن التخيير بين الواجبات في الشرع غير ممتنع كما في وجوب الحقاق، وبنات لبون، وكما في خصال الكفارة.
وإن وقع بالنسبة إلى حكمين متنافيين كالإباحة والتحريم فحكمه التساقط فقط والرجوع إلى البراءة الأصلية، هذا هو النقل المشهور.
وكلام الشيخ الغزالي رحمه الله يدل على أن من قال: المصيب واحد والباقون مخطئون لم يجوزوا تعادل الأمارتين، وأما الذين قالوا: كل مجتهد مصيب فهؤلاء اختلفوا فيه؛ لأنه قال: (إذا تعارض دليلان عند المجتهد، وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلاً من موضع آخر وتخير فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون: هذا لعجز المجتهد وإلا فليس في/ (248/ أ) أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح فلزم التوقف، أو الاخذ بالاحتياط، أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح [وأما المصوبة فاختلفوا فيه).
فقوله. فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح]، يدل بصراحته على ما قلناه
واختار الإمام أن تعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد ككون الفعل الواحد واجبا وحراما جائز في الجملة، غير واقع شرعا.
هذا صريح كلامه ودليله يدل أيضا على عدم جواز وقوعه شرعا، فإن ما ذكره من الدلائل لا يختص بامتناع الوقوع. والأغلب على الظن أن مراده من [قوله. غير واقع شرعا أنه غير جائز الوقوع شرعا وأن تعادلهما في] فعلين متنافيين والحكم واحد جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهتا القبلة.
واحتج المانعون منه مطلقا بوجوه:
أحدهما: لو جار تعادل الأمارتين على حكمين متنافيين شرعا فليفرض واقعا إذ الجائز لا يلزم من فرض وقوعه محال، فعند وقوع هذا التعارض إما أن يعمل بهما وهو محال، لأنه يقتضى الجمع بين المتنافيين، أو لا يعمل بواحد منهما وهو أيضا باطل.
أما أولاً: فلأنه- يلزم الترك بالدليليين.
وأما ثانيًا: فلأنه يلزم أن يكون وضعهما عبثا لكون العمل بهما غير ممكن، أو يعمل بأحدهما على التعيين وهو أيضا باطل، لكونه تحكمًا محضا، وقولاً في الدين بالتشهى، وترجيحًا لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، أو يعمل بأحدهما لا على التعيين بل على التخيير وهو أيضاً باطل.
أما أولاً: فلأن التخيير بين المباح وغيره يقتضى ترجيح أمارة الإباحة بعينها؛ لأنه لما جاز له الفعل والترك مع أنه لا معنى للإباحة إلا ذلك لزم أن يكون ذلك الفعل مباحا له فيكون ذلك ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها وقد تقدم إفساده.
وأما ثانيا: فلأنه يلزم أن يكون المكلف مخيرًا في المسالة الاجتهادية وهو باطل بالإجماع.
وأما ثالثًا: فلأنه يلزم أن يكون الأمر بالنسبة إلى الحاكم والمفتي كذلك وحينئذ يلزم عدم فصل الخصومة ودوام المنازعة، ولزم تخييرًا لعامي في الأحكام الشرعية وكل ذلك ممتنع.
واعترض عليه: بأنه لم لا يجوز أن يعمل بإحدى الأمارتين على التعين، لكون العمل بهما أحوط، أو لكون العمل بها أخذًا بالأقل؟ وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من أنه تحكم، أو ترجيح من غير مرجح.
سلمنا فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يعمل بإحداهما لا على التعيين قوله أولا: ذلك ترجيح لأمارة الإباحة بعينه.
قلنا: ممنوع؛ وهذا لأن التخيير بين الفعل والترك مطلقا هو الاباحة، وأما التخيير بينهما بناء على الدليلين الذين يدل أحدهما على الحظر والأخر على الإباحة فلا؛ إذ يجوز من الشارع أن يقول للمكلف: أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة، أو بأمارة الحظر، إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل.
وإن أخذت بأمارة الحظر فقد حرمت عليك الفعل ويصرح له بأن الفعل على
أحد التقديرين مباح وعلى الآخر حرام، ولو كان ذلك إباحة للفعل لما جاز ذلك كما لو صرح له بالإباحة ثم صرح له بالحرمة ويؤكده، أنه يجب عليه اعتقاد الإباحة على تقدير الأخذ بأمارتها، ويجب اعتقاد الحرمة على تقدير الأخذ بأمارتها، ولو كان ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة لما اختلف وجوب الاعتقاد.
ومثاله في الشرع: أن المسافر مخير بين أن يصلى أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فلو صلى أربعا وقع الكل فرضا، ولو صلى ركعتين وقعتا أيضا فريضتين، ولا يقال:[إنه]، لما خير بين فعل الركعتين وبن تركهما كانتا مباحتين.
وكذلك من استحق أربعة دراهم على غيره، فقال: تصدقت عليك بدرهمين إن قبلتَ، وإن لم تقبل، وأبيت قبلت الكل عن الدين الواجب [فإذا أتى بالأربع وأخذه المستحق كان كله واقعا عن الدين الواجب]، مع أنه كان يجوز للمديون أن يأتي به وأن لا يأتي به.
فالحاصل أن كون الشيء يجوز فعله وتركه بناء على [أمرين]، يثبت أحدهما فعله، والآخر تركه كالمقتضى والنافي لا يقتضى أن يكون ذلك الفعل مباحًا وإن فعله بناء على - المقتضى له أو تركه بناء [على النافي فكذا ما نحن فيه، فإن المكلف إذا ترك الجمع بين الأختين بناءً على] قوله
تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} لا يقال: إنه ترك أمرأ مباحًا مع أنه كان يجوز أن يجمع بناء على قوله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} ولذلك قال عثمان - رضى الله عنه: (أحلتهما آية، وحرمتهما آية). سلمنا ذلك لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والاباحة أما عند تعارض الحظر والوجوب لم يلزم ذلك: إذ لم يمكن أن يقال: إن التخيير بينهما ترجيح لأمارة الإباحة بعينها فلم يكن دليلكم متناولاً لكل الصور.
قوله ثانيا: يلزم تخيير المكلف في المسائل الاجتهادية.
قلنا: نعم وانعقاد الإجماع على بطلانه مطلقا ممنوع بل على بطلانه عند الترجيح لا يمنع منه فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع، وأما عند تعارض الأدلة وتساويهما فلا.
قوله ثالثا: أنه يلزم أن يكون الأمر بالنسبة إلى الحاكم والمفتي كذلك قلنا: لا نسلم وستعرف تفصيل/ (1/ 249) الأمر فيه.
سلمنا فساد القول بالتخيير، فلم لا يجوز أن يقال بتساقطهما والرجوع إلى
البراءة الأصلية؟
قوله: لأن وضعهما حينئذ عبث.
قلنا: هذا مبنى على قاعدة التحسين والتقبيح وقد ثبت بطلانها.
سلمناه لكن لم لا يجوز أن يقال: إن لله تعالى فيه حكمة خفية لا يطلع عليها، ثم هو منقوض بالتعادل الذهني وهو جائز بالاتفاق، ثم أن ما ذكرتم من الدليل يشكل بما إذا أفتى مفتيان: أحدهما بالحل، والآخر بالحرمة، ولم يظهر رجحان أحدهما على الآخر في ظن المستفتي، فإن قولهما بالنسبة إلى العامي كالأمارتين.
وأجيب عنه: أما عن الاول فهو أنه غير وارد على صورة النزاع، فإن النزاع إنما هو حيث تكون الامارتان متعادلتين وذلك ينفى أن تكون إحداهما راجحة على الأخرى سواء كان ذلك الرجحان لأمر يرجع إلى ما في نفسها أو غير ها.
وأما عن الثاني، فهو أن المحظور هو الذى يمنع من فعله، والمباح هو الذى لا يمنع منه، فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع الحجر عن فعله فلا يبقى حظر ألبتة ولا معنى للإباحة إلا ذلك.
وهو ضعيف لانا نمنع ذلك، وهذا لأنه ما ارتفع الحجر عن فعله مطلقا بل أن أخذ بأمارة الإباحة، فأما إذا أخذ بأمارة الحظر فلا، والمباح هو الذى جاز فعله وتركه مطلقا من غير شريطة، وهذا لا يجوز فعله إلا إذا قصد الأخذ بأمارة الإباحة فلم يلزم أن يكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها.
ثم قال المجيب: وأما ما يقال في سند المنع لم لا يجوز أن يقال من أنه محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر، ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة فهو باطل بوجهين:
أحدهما: أن الأمارتين لا يخلو أما يقتضيا حرمة الفعل وإباحته باعتبارين مختلفين، أو باعتبار واحد:
والأول باطل، لأنه غير مسألتنا التي نحن فيها، لأن ما نحن فيه هو أن تقوم الأمارتان على إباحة شيء واحد وحظره، وعلى التقدير الذى قالوه قامت أمارة الإباحة على شيء، وأمارة الحظر على شيء، لأنهم لما قالوا عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل، وعند الأخذ بأمارة الإباحة يباح الفعل، فمعناه:
أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة، وأمارة الإباحة قائمة على إباحة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الإباحة فالأمارتان إنما قامتا على شيئين غير متلازمين، لا على شيء واحد، وليس كلامنا فيه، بل كلامنا في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين على شيء واحد، وإذا بطل هذا القسم تعين القسم الثاني، وإذا رفعنا الحجر عن ماهية ذلك الفعل كان ذلك إباحة، فيكون [ذلك]، ترجيحا لأحدى الأمارتين بعينها، وإن لم نرفع الحجر عنه كان ذلك حظرًا، فيكون ترجيحا لأمارة الحرمة بعينها. وثانيهما: أنه أن عنى بالأخذ بإحدى الأمارتين: اعتقاد رجحانها فهذا باطل.
أما أولاً: فلأنها إذا لم تكن راجحة كان اعتقاد رجحانها جهلا.
وأما ثانيًا: فلأنا نفرض الكلام فيما إذا حصل ظن أو علم بأنه رجحان ففي
هذه الصورة نمنع حصول اعتقاد الرجحان.
وإن عنى به العزم على الإتيان بمقتضاها، فذلك العزم إن كان عزما جازما بحيث يتصل به الفعل لا محالة، كان الفعل حينئذ واجب الوقوع فيمتنع ورود الإباحة والحظر فيه؛ لأنه يكون ذلك إذنًا في ايقاع ما يجب وقوعه أو منعا عن إيقاع ما يجب وقوعه.
وإن لم يكن عزما جازما فحينئذ يجوز له الرجوع، لأنه إذا عزم عزما غير جازم على الترك مثلاً - فإذا أراد الرجوع عن هذا العزم، وقصد الإقدام على الفعل جاز له ذلك، فعلم أن ما ذكروه فاسد.
وهذان الجوابان ضعيفان، أما الأول: فلأنه لا يلزم من قولنا: أنه يحرم عليه الفعل عند الأخذ بأمارة الحرمة، ويباح له عند الأخذ بأمارة الإباحة أن تكون الأمارتان قائمتين على حرمة الفعل وإباحته بما ذكرتم من الاعتبارين المختلفين، وهذا لأن الأخذ بإحدى الأمارتين إنما يكون بعد تمام دلالتها على الحظر أو الإباحة، فلو كانت دلالتها على الحظر أو الإباحة معتبرة بالأخذ بها لزم الدور.
ولا نسلم أن معنى قولنا: إنه يحرم الفعل إذا أخذ بأمارة الحرمة ويباح إذا أخذ بأمارة الإباحة ما ذكرتم وسنده ما سبق معناه: أنه إن قصد المكلف العمل بأمارة الحرمة حرم عليه الفعل، لأن دلالتها على الحرمة حال أخذ أمارة الحرمة، وكذا القول في جانب الإباحة وهو ظاهر غنى عن تطويل البيان.
وأما الثاني فهو أيضا ضعيف؛ وهذا لأنا نختار مما ذكرتم من المعنين المعنى الثالث.
قوله: إن كان ذلك العزم جازما فيمتنع ورود التكليف فيه ممنوع؛ وهذا
لأن تكليف ما لا يطاق جائز باتفاق بيننا وبينك [سلمنا امتناعه لكن المأمور إنما يصير مأمورًا عندنا]، وعندك حال المباشرة لا قبله مع أن الفعل إذ ذاك واجب الو قوع.
سلمنا سلامته عن النقض لكن الجزم على الفعل الناشئ من قصد الامتثال لا ينافى التكليف به وإلا لزم بطلان التكاليف بأسرها، بل الذى ينافيه ورود التكليف عليه إذ ذاك، وما نحن فيه ليس كذلك فإن الجزم على الفعل إنما يحصل بعد قصد الامتثال بمقتضى إحدى الأمارتين وهو لا ينافى التكليف.
سلمنا فساد هذا/ (1/ 250) القسم أيضا فلم لا يجوز أن يكون المراد منه العزم الغير الجازم.
قوله: فحينئذ يجوز له الرجوع عنه، فيلزم أن يكون ذلك الذى عزم عليه من الفعل أو الترك حراما أو مباحا، وأن أتى بغيره بقصد امتثال إحدى الأمارتين وهو باطل.
قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد من الأخذ بإحدى الأمارتين العزم الذى ذكرتم بشرط أن يتصل به الفعل أو الترك بقصد الامتثال، فإذا لم يوجد هذا الشرط لم يوجد الأخذ بإحدى الأمارتين الذى عنده يحرم الفعل أو يباح فلا يلزم حينئذ ما ذكرتم من المحذور.
وأجيب عن الثالث أيضا بوجهين:
أحدهما: أنه إذا ثبت ذلك عند تعارض أمارتي الحظر والإباحة وجب أن يثبت في غيره أيضا ضرورة أنه لا قائل بالفصل.
وثانيهما: أن الإباحة منافية للوجوب والحظر، فعند تعادل أمارتي الوجوب
والحظر لو حصلت الإباحة لكان ذلك قولا بتساقطهما، وإثبات الحكم لم يدل عليه دليلاً أصلاً.
وهذا ضعيف، لأنه بناء على ما سبق وقد عرفت ضعفه وأجيب عن قوله: لم لا يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية: بأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوصل به إلى المدلول، فإذا كان هو في ذاته بحيث يمنع التوصل به إلى الحكم كان خاليا عن المقصود الأصلي منه، ولا معنى للعبث إلا ذلك.
وهذا بخلاف التعارض الذهني، فإنه لما كان بحيث يمكن التوصل إلى رجحان إحدى الأمارتين لم يكن واضعهما عابثا بل غايته أنا لقصورنا وتقصيرنا ما انتفعنا به.
وبه خرج الجواب أيضا عن الأخير، ويخصه أن ذلك للضرورة فإنه لا طريق للعامي سواه إذ ذاك لجهله بطريق التراجيح، وإذا عرفت ضعف بعض هذه الأجوبة عرفت توجه الاعتراض على الدليل فيكون الدليل مقدوحًا. وثانيها: أن لله تعالى في كل واقعة حكما واحدًا على ما سيأتي تقريره، والخصم مساعد عليه أيضا، فلو تعادلت الأمارتان الدالتان على النفي والإثبات لزم من ذلك التضليل والحيرة في إصابة الحق وهو ممتنع على الشارع الحكيم، فإن الحكيم إذا كان له طريقان في تحصيل الغرض سلك أفضاهما إلى حصول الغرض، ولا شك أن نصب الأمارة الراجحة أفضى إلى إصابة الحق.
وجوابه: أنا وأن سلمنا أن الحكم في الواقعة واحد، لكن لا نسلم أنه يلزم منه امتناع تعادل الأمارتين.
قوله: يلزم منه التضليل والحيرة في إصابة الحق.
قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه إنما يلزم ذلك أن لو كان مكلفا بإصابة ما هو الحكم عند الله تعالى وليس كذلك، بل بما غلب على ظنه فإن لم يغلب على ظنه شيء كما في صورة التعادل كان الواجب عليه التخيير، أو التساقط هو حكم الله تعالى.
[وثالثها: أن إحدى الأمارتين تدل على الوجوب بعينه والأخرى تدل على الحظر بعينه وهذا في الحكمين المتنافيين، أو تدل إحدى الأمارتين على وجوب شيء بعينه والأخرى تدل على وجوب شيء آخر بعينه، وهذا في الفعلين المتنافيين والحكم واحد والقول بالتخيير سواء كان بالنسبة إلى الحكمين أو بالنسبة إلى الفعلين مخالف لمقتضى الأمارتين معا فكان باطلاً، وكذا القول بتساقطهما، لأنه يلزم منه الترك بالدليلين.
وجوابه: أن أمارة وجوب الفعل يقتضى وجوبه فقط، أما المنع من الإخلال به على كل حال فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه، وعلى هذا التقدير لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين وكذا القول في الحكمي المتنافيين فإن أمارة الوجوب دلت على الوجوب بعينه، وأما المنع من الإخلال به على كل حال والرجوع إلى غيره فموقوف على عدم الدلالة على حكم آخر يعادل الأمارتين.
واحتج المجوزون له مطلقا بوجوه:
أحدهما: أنه لو امتنع تعادل الأمارتين فأما أن يمتنع لذاته وهو باطل؛ لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته عقلاً، أو لدليل خارجي عقليًا كان، أو نقليا وهو أيضا باطل؛ إذ الأصل عدمه فمن أدعى فعليه بيانه.
وثانيها: أنا أجمعنا على جواز التعادل الذهني، فوجب أن يجوز أيضًا
التعادل الخارجي أيضًا.
وأجيب عن الأول: بأنه إثبات للجواز بعدم ما يدل على الفساد، وأن ليس أولى من إثبات الفساد بعدم ما يدل على الجواز.
وعن الثاني: بأنه قياس خال عن الجامع سلمناه لكن الفرق ظاهر وهو ما تقدم.
وثالثها: أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين، أو ثبوت الحكمين المتنافيين في الفعل الواحد يقتضى إيجاب الضدين، وذلك يقتضى إيجاب كل واحد منهما على سبيل البدلية، ولا معنى للتخيير إلا ذلك.
وجوابه: أنه لا نزاع في جواز ذلك، وإنما النزاع في أنه هل يجوز أن تتعادل الأمارتان على الحكمين المتنافيين أو على الفعلين المتنافيين والحكم واحد، وما ذكرتم لا يفيده.
وإذا ظهر ضعف مأخذ الجانبين وجب التوقف وإن كان الأقرب إنما هو القول بالجواز.
وأما الإمام رحمه الله فقال: "أما تعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد فهو جائز في الجملة، لكنه غير واقع في الشرع.
أما أنه جائز في الجملة، فلأنه/ (251/ أ) يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفي والإثبات، وتستوى عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الأخر.
وأما أنه في الشرع غير واقع فقد احتج عليه بما تقدم من الوجه الأول في
حجة المانعين منه مطلقًا.
ومن الظاهر أن ذلك لا يختص بعدم الوقوع بل يدل على عدم الجواز الشرعي أيضًا، نعم لا يدل على عدم جوازه عقلاً، وأما تعادلهما في فعلين متنافيين والحكم واحد فهو جائز ومقتضاه التخيير.
والدليل على جوازه وقوعه في صور:
إحداها: قوله عليه السلام في زكاة الابل: (في كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة)، فمن ملك مائتين فقد ملك أربع خمسينات، وخمس أربعينات، فإن أخرج الحقاقَ فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله عليه السلام:(في كل خمسين حقة).
وأن أخرج بنات اللبون فقد عمل بالحديث الأخر وليس أحدهما أولى من الآخر فيتخير بينهما.
وثانيها: من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جانب شاء منها، لأنه كيف فعل فقد يستقبل شيئا من الكعبة.
وثالثها: أن الولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه، ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا، ولو أطعم أحدهما مات الآخر، فها هنا هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك الأخر، أو بالعكس ولا سبيل إلا التخيير.