الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد الرسول- عليه السلام
.
فأما عصره- عليه السلام فقد اختلفوا فيه فمنهم من جوزه مطلقا وهو المختار.
ومنهم من منع منه مطلقًا.
ومنهم من فصل.
وهؤلاء فرق.
أحدهما: الذين قالوا بجواز ذلك للغائبين عن حضرة الرسول من القضاة والولاة دون الحاضرين.
وثانيها: الذين جوزوا ذلك للغائبين مطلقا دون الحاضرين.
وثالثها: الذين قالوا بجواز ذلك مطلقًا إذا لم يوجد من ذلك منع فأما إذا وجد ذلك فلا.
وهذا ليس بمرض؛ لأن ما بعده أيضًا كذلك فلم يكن له خصوصية بزمانه عليه السلام
ورابعها: الذين قالوا: إن ورد الاذن بذلك جاز وإلا فلا، ثم منهم من نزل السكوت عن المنع منه مع العلم بوقوعه، منزلة الإذن، ومنهم من لم ينزله منزلته بل اعتبر صريح الإذن فيه.
ثم القائلون بجواز الاجتهاد اختلفوا في وقوع التعبد به سمعًا.
فمنهم من قال. إن الاجتهاد كان متعبدًا [به]، للحاضرين والغائبين وهو المختار ومنهم من منعه مطلقًا كأبي علي وأبي هاشم.
ومنهم من توقف في ذلك بالنسبة إلى الفريقين.
ومنهم من توقف في حق الحاضرين دون الغائبين وهذا اختيار والقاضي عبد الجبار.
والدليل على جوازه مطلقًا: أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لا من جهة العقل، ولا من جهة الشرع؛ إذ لا يلزم من قول الرسول عليه السلام لبعض من حضره: لقد أوحى [إلى]، أنك مأمور بالاجتهاد، ومأمور بأن تعمل بما غلب على ظنك محال/ (299/ أ) لا من جهة العقل، ولا من جهة الشرع لا لذاته وهو [ظاهر]، جدًا، ولا لغيره إذ الأصل عدمه فمن ادعى فعليه البيان، فوجب أن يثبت جوازه إذ لا معنى للجائز إلا ذلك.
وأيضًا: إن ما جار به الحكم في غير حضرة الرسول جاز به الحكم في حضرته كالكتاب والسنة.
واحتج الخصم بوجوه:
أحدها: أن الاجتهاد في معرض الخطأ والغلط، والنص آمن منه، ومن هو في عصره- عليه السلام قادر على التوصل إلى الحكم بطريق النص، وحينئذ يكون آمنًا من الخطأ والغلط، وسلوك الطريق المخوف مع القدرة على سلوك الطريق الآمن قبيح عقلاً، والقبيح غير جائز عقلاً.
وجوابه: منع المقدمة الأولى؛ وهذا لأن الشرع لما قال له: أنت مأمور بالاجتهاد وبالعمل بما غلب على ظنك كان آمنا من الغلط، لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيًا بما أمر به.
سلمنا لكن لا نسلم أنه قادر على التوصل إلى النص؛ وهذا لأن ورود النص ليس باختيار المكلف ومسألته، بل جار أن يسال عن القضية ولا يرد فيها نص بأن يؤمر بالعمل فيها بما يغلب على ظنه، ولا يمكنكم نفى هذا الاحتمال إلا إذا أثبتم نفى جواز الاجتهاد فبيان نفي جواز الاجتهاد بناء على
نفي هذا الاحتمال دور.
سلمناه لكن لا نسلم أن ترك العمل بمقتضى الاحتياط قبيح.
سلمناه لكن لا نسلم أن القبيح غير جائز عقلاً.
وثانيها: أن الصحابة- رضى الله عنهم- كانوا يفزعون إلى الرسول- عليه السلام عند حدوث الوقائع، ولو كلان الاجتهاد جائزًا لهم لرجعوا إليه وحينئذ يجب أن ينقل كاجتهادهم بعده- عليه السلام.
وجوابه: لعل ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ولو سلم ظهور ذلك لكن سلوك إحدى الطريقتين المفضية إلى المقصود على سبيل السهولة لا يقتضي امتناع إفضاء الطريقة الأخرى إلى المقصود.
سلمناه لكن لا نسلم أنهم ما رجعوا إليه؛ فلعلهم رجعوا إليه وإنما سألوا الرسول- عليه السلام بعد اجتهادهم، ليتأكد اجتهادهم بنص الرسول- عليه السلام ولم تنقل تلك الاجتهادات، إما لقلتها، أو لأنهم لم يظهروها، أو اكتفاء بالنص.
وثالثها: أن الحكم بالاجتهاد في حضرة الرسول- عليه السلام يعد من باب التعاطي والافتيات عليه فوجب أن لا يجوز.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه معدود منه وإنما يعد ذلك أن لو كان ذلك بغير الإذن، فأما إذا كان بإذنه كان ذلك امتثالاً لأمره [لا] افتياتًا.
وأما الدليل على وقوع التعبد به سمعا فمن وجوه:
أحدها: قول الصديق- رضى الله عنه- لأبي قتادة: (لاها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه) فقال- عليه السلام: "صدق" صدقه في فتواه ولم يكن ذلك عن نص وإلا لم يكن لتصديقه معنى، ولكان الصديق أسنده لكونه أقرب إلى الإذعان والانقياد فهو إذن عق رأيه واجتهاده.
وثانيها: ما روى عنه- عليه السلام أنه حكم سعد بن معاذ في بنى قريظة، فحكم بقتل مقاتلتهم، وسبي نسائهم وذراريهم، فقال عليه
السلام: "لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة".
وثالثها. ما روى عنه- عليه السلام أنه قد أمر لعمرو بن العاص وعقبة ابن عامر أن يحكما بين خصمين وقال لهما: [إن أصبتما فلكما عشر
حسنات وأن أخطأتما فلكما حسنة واحدة. وقد روى على غير هذا الوجه؛ وهو صريح الدلالة في جواز الاجتهاد بحضرته بالإذن.
وأما ما يدل على جواز ذلك للغائب عن حضرته فقصة معاذ حين بعثه قاضيًا إلى اليمن، وعتاب بن أسيد حين ولاه مكة.
فإن قلت: هذه أخبار آحاد فلا تفيد القطع فلا يجوز التمسك بها فيما نحن فيه، لأنها من المسائل العلمية.
سلمناه لكن إنما يدل على من منع ذلك مطلقًا، فأما من جوز ذلك بشرط الإذن فلا.
سلمناه لكنها أخبار خاصة في حق بعض الناس فلا يثبت بها جواز الاجتهاد على سبيل العموم.
قلت: هذه الأخبار وإن كانت أخبار أحاد لكن تلقته الأمه بالقبول فجاز أن يقال أنها تفيد القطع للاتفاق عليه.
سلمنا أن كل واحد منها لا يفيد القطع لكن لم/ (300/ أ) قلت: إن مجموع [ما ورد] في هذا الباب لا يفيد
القطع فالمقصود إفادة القطع من مجموعها لا من كل واحد منها.
سلمناه لكن المدعى إنما هو حصول الظن لا القطع.
وأما قوله. إنها تفيد جوازه بشرط الإذن.
قلنا: بل تفيد جوازه مطلقًا فإن حديث أبى بكر- رضى الله عنه- يدل على المطلوب مطلقًا، لأنه ما كان مسبوقًا بالإذن.
قوله: لا يثبت به الجواز في حق عموم الناس.
قلنا: بل يثبت، وهذا لأنه إذا ثبت جواز في حق بعض من عاصره ممن هو بحضرته عليه السلام ثبت ذلك في حق غيرهم ضرورة أنه لا قائل بالفصل.
سلمنا عدم دلالته على العموم، لكن ليس المطلوب ذلك بل المطلوب بيان وقوع الاجتهاد ممن هو بحضرته، سواء كان بالإذن أو بغيره وقد ثبت فيكون المطلوب حاصلاً).
وأما الاستدلال على المسألة بقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} من حيث إنه كان- عليه السلام مأمورًا بالمشاورة، ولا فائدة في ذلك إلا جواز الحكم على حسب اجتهادهم فضعيف، لاحتمال أن يقال: إن ذلك في الحروب والآراء ومصالح الدنيا لا في أحكام الشرع.