الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
في الدوران
ويسمى بالطرد والعكس
.
ومعناه: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، وينعدم عند عدمه وهو المسمي بالدوران الوجودي والعدمي.
فإن كان بحيث يوجد عند وجود الوصف ولا ينعدم عند عدمه فهو المسمي بالدوران الوجودي، والطرد أو بالعكس ويسمي بالدوران العدمي والعكس.
والكلام في هذا الفصل إنما هو في الدوران الوجودي والعدمي، وقد يسمي بالدوران المطلق.
وهو يقع على وجهين:
أحدهما: أن يقع ذلك في صورة واحدة كالتحريم مع السكر في العصير؛ فإنه لما لم يكن مسكرًا في أول الأمر لم يكن حرامًا، فلما حدث السكر فيه حدثت الحرمة فيه، ثم لما زال السكر عنه بأن صار خلا زالت الحرمة عنه.
وثانيهما: أن يوجد ذلك في صورتين: وهو كوجوب الزكاة مع ملك نصاب كامل تام في صورة أحد النقدين ملكًا تامًا رقبةً ويدًا، وعدمه مع عدم شيء منها كما في ثياب البذلة والمهنة، وعبيد الخدمة فإنه لا تجب فيها الزكاة
لفقد شيء مما ذكرناه.
واختلف الأصوليون في أنه هل يفيد العلية أم لا؟
فذهب الجمهور كالقاضي أبي بكر وغيره إلى أنه يفيد ظن العلية بشرط عدم المزاحم، وهو المختار.
وذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد يقين العلية.
وذهب الباقون من أصحابنا وغيرهم إلى أنه لا يفيد العلية ولا يقينها وهو اختيار الغزالي- رحمه الله.
لنا وجوه:
أحدها: أن العقلاء بأسرهم مع اختلاف عقائدهم وآرائهم يفزعون إلى التجربة في أمر الأدوية والأغذية، فإنهم لما رأوا أن الأثر الفلاني يحصل عند استعمال الدواء الفلاني ولم يحصل عند عدم استعماله، فزعوا إليه عندما أرادوا تحصيل ذلك الأثر، ولولا غلب على ظنهم أنه السبب لذلك الأثر لما فزعوا إليه عند إرادة تحصيله كما لم يفزعوا إلى غيره.
وثانيها: أن الحكم لابد له من علة على ما سبق، فتلك العلة إما الذي دار الحكم معه وجودًا وعدمًا، أو غيره، الثاني باطل.
أما أولًا: فلأن الأصل عدم ذلك الغير.
وأما ثانيًا: فلأن ذلك الغير إن كان موجودًا قبل الحكم لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل، وإن لم يكن موجودًا قبله لم يكن على لذلك الحكم إذ ذاك والأصل بقاؤه على عدم عليته، فيحصل ظن عدم عليته، وإذا حصل ظن عدم علية ذلك الغير حصل ظن عليه ما دار معه الحكم وجودًا وعدمًا لا محالة.
وأما ثالثًا: فلأن ذلك الغير إن لم يصلح للعلية لم يجز جعله علة، وإن صلح لم يكن مسألتنا، لأنه حينئذ حصل هناك مزاحم ونحن إنما ندعى علية المدار عند عدم المزاحم فلم تكن تلك الصورة مسألتنا.
ولا يقال: الحكم كما دار مع ذلك الوصف وجودًا وعدمًا، فكذا دار مع تعينه وحصوله في ذلك المحل، فحينئذ يكون المزاحم حاصلًا فلم تجز الإضافة إلى الوصف، أو يقال: مجموع الوصف مع التعين والحصول في ذلك المحل على عملًا بالدورانين، وعلى هذا التقدير لا يجوز تعديته عن ذلك المحل؛ لأن نقول: التعين والحصول في المحل أمران عديمان؛ إذ لو كانا وجوديين لزم أن يكون للتعين تعين أخر، وللحصول في المحل حصول آخر فيلزم التسلسل، ضرورة أن التعين حينئذ يشارك سائر التعينات في كونه تعينًا ويمتاز عنها بخصوصيته، وكذا الحصول في المحل فإنه حينئذ يكون له حصول في المحل؛ إذ ليس هو جوهر قائم بنفسه، وهو معلوم بالضرورة، فيكون له حصول في المحل، فثبت أنهما أمران عديمان وإذا كانا كذلك فلا يجوز أن يكونا
[جزئي] علة ولا مزاحمًا لها.
وثالثها: أن الناس إذا شاهدوا من إنسان أنه يغضب عند الدعاء باسم مخصوص، وإذا دعى بغيره لم يغضب، وتكرر ذلك مرة بعد أخرى، فإنه يحصل لهم ظن أنه إنما يغضب لكونه يدعى بذلك الاسم المخصوص؛ ولهذا لو سئلوا عن ذلك لعللوا به، حتى إن الصبيان الذين هم ليسوا من أهل النظر والفكر يعلمون ذلك؛ ولهذا إذا أرادوا إغضابه يدعونه بذلك الاسم المخصوص متتبعين له في الدروب والسكك، ويعللونه به عند السؤال عن ذلك، ولولا أن الدوران يفيد ظن العلية وإلا لما حصل لهم ذلك الظن.
وأيضًا: إذا ثبت أن الدوران في هذه الصورة يفيد ظن العلية، وجب أن يكون في غيرها كذلك أما أولًا، فلقوله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل} والعدل هو التسوية، ولم تحصل التسوية بينهما إلا إذا اشترك كلها في إفادة الظن بالعلية.
وأما ثانيًا: فلأن الأصل أن يترتب الحكم على المقتضي والمقتضي لذلك الظن على ما تقدم إنما هو الدوران فوجب أن يثبت ذلك الظن حيث يثبت الدوران.
احتجوا بوجوه:
أحدها: أنه لا معني للدوران إلا الطرد والعكس، والطرد وحده لا يفيد العلية، لأن حاصله يرجع إلى سلامة الوصف عن النقض، وسلامته عن مفسد واحد لا يوجب سلامته عن/ (186/ أ) كل مفسدة، ولو سلم ذلك لكن لا يلزم من سلامة الشيء عن مفسدات الشيء صحته لذلك، فإنه كما يعتبر في كون الوصف علة عدم مفسدات العلة يعتبر أيضًا وجود المقتضي لعليته، بل اعتبار هذا مقدم على اعتبار ذلك، والطرد من حيث هو طرد لا إشعار له بالعلية ألبتة، بل إشعاره بعد النقض كما تقدم، فثبت أن الطرد وحده لا يفيد العلية، والعكس غير معتبر في العلل الشرعية وفاقًا فمجموعها أيضًا كذلك.
وجوابه: إن حكم المجموع قد يخالف الآحاد، فلا يلزم من عدم علية كل واحد منهما عدم علية المجموع، ألا ترى أن كل واحد من أجزاء العلة ليس بعلة مع أن مجموعها علة.
وثانيها: أن الحكم في صور الدورانات الوجودية والعديمة ما دار مع المشترك بين تلك الصور فقط بل معه وما يخص كلا منهما، فلو دل الدوران على العلية فإنما يدل على علية المجموع الذي هو غير مشترك بين الصور كلها فيتعذر الاستدلال به على العلية، فالحاصل أن ما دل الدوران على عليته، أنتم لا تقولون بعليته، وما تقولون بعليته لا يدل الدوران على عليته.
وجوابه: إن جعل الدوران مفيدًا لعلية المشترك أولى، لأن المختص إن لم يصلح للعلية فظاهر، وإن صلح فكذلك؛ لكونه أكثر فائدة، ولجهة ورود الأمر بالقياس.
لا يقال: التعليل بالمجموع المركب من المشترك والمختص أولى؛ لأن فيه تعدد مدارك الحكم وهو أولى من المتحد؛ لأنه أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع من الحكم، لأنا نقول: يعارضه أن التعليل بالمشترك تعليل العلة المتعدية. والمطردة والمنعكسة وهو أولى مما ليس كذلك.
وثالثها: أن الدوران قد حصل في مواضع ولا علية، وذلك يدل على أنه غير مفيد للعلية.
بيان الأول: أن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا مع أن المعلول ليس بعلة وأحد المعلولين المتساويين يدور مع الآخر ولا علية، والفصل يدور مع معلول النوع كلوازم معلولات النوع ولا علية؛ لأن المعلوم لا يصير علة علته، وكذا تدور مع العلية مع جزء العلة وشرطها ولا علية، وذات الله تعالى وصفاته متلازمان نفيًا وإثباتًا ولا علية هناك على رأينا، وكذا الجوهر والعرض والمتلازمان، والحوادث مع الزمان والمكان يتلازمان من غير علية أحدهما للآخر، وكذا غيرها من الصور التي يوجد الدوران فيها منفكًا عن العلية مما يطول استقصاؤها فثبت أن الدوران حاصل في محال من غير علية.
بيان الثاني من وجهين:
أحدهما: لو كان الدوران مفيدًا للعلية مع أنه يوجد في بعض الصور منفكًا عنها، فإما أن يقال: أن تخلف العلية عنه لمانع أو لا لمانع، والقسمان باطلان فبطل أن يكون الدوران مفيدًا للعلية.
أما الأول، فلأنه يلزم منه التعارض وهو خلاف الأصل.
وأما الثاني، فلأنه يلزم منه تخلف المقتضي عن المقتضي لا لمانع وذلك يقدح في كونه مقتضيًا، وأيضًا فإن كونه مقتضيًا للعلية في بعض الصور دون
البعض مع أن اقتضاءه لها لم يتوقف على شرط إذ لو كان اقتضاؤه متوقفًا عليه لم يكن الدوران وحده مفيدًا للعلية بل الدوران مع ذلك الشرط وليس كلامنا فيه بل في الدوران وحده.
ولو سلم أن كلامنا في مطلق الدوران الذي يحتمل أن يكون مع الشرط أو بدونه لكن توقيف المقتضي على الشرط على خلاف الأصل يقتضي ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال.
وثانيهما: أن بعض الدورانات إذا لم يكن مفيدًا للعلية وجب أن يكون البعض الآخر كذلك لقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} والعدل هو التسوية ولن تحصل التسوية بين الدورانات كلها حينئذ إلا بأن يكون شيء منها مفيدًا للعلية.
وجوابه: أنا لا نسلم أن الدوران الذي ندعيه أنه دليل العلية قد وجد في بعض الصور منفكًا عن العلية وهذا لأن الدوران الذي ندعيه أنه دليل العلية هو الدوران الذي لم يقم دليل على عدم علية المدار فيه، والخالي عن المزاحم، وما ذكرتم من الصورة التي تخلف عنه العلية فليس كذلك فلم يقدح ذلك في كون الدوران الذي ندعيه أنه دليل العلية، وهذا هو الجواب بعينه عما ذكره في تقرير المقدمة الثانية من لزوم أن لا يكون المقتضي مقتضيًا [ولزوم ترجيح أحد الجانبين على الآخر. قوله: توقيف المقتضي] على الشرط خلاف الأصل.
قلنا: نعم لكن دل الدليل عليه وهو كونه جمعًا بين الدليلين فوجب المصير إليه.
ورابعها: أن المدار يجوز أن يكون وصفًا لازمًا للعلة وليس هو العلة، كالرائحة الفائحة اللازمة للشدة المطرية، ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالتعرض لانتفاء وصف غيره بطريق نحو الأصل، أو السبر والتقسيم، وحينئذ يلزم الانتقال من طريق الدوران إلى طريق السبر والتقسيم، وهو كاف في الاستدلال على العلة فيضيع التعرض لطريقة الدوران.
وجوابه: لو كان احتياج الدوران إلى بيان عدم وصف آخر بالأصل، أو لعدم/ (188/ أ) الوجدان بعد البحث والطلب الشديد قادحًا في كونه طريقًا إلى الظن بالعلة لقدح ذلك في أكثر الأدلة كالمناسبة وغيرها، لأن المستدل إذا أبدى مناسبة وصف أو ذكر دليلًا على الحكم فللخصم أن يقول: إنما يعمل بكل وحد منهما لو سلما عن المعارض ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالأصل أو بالسبر والتقسيم، ويلزم من ذلك الانتقال من تلك الطريقة إلى غيرها، وهو كاف في الدلالة على المطلوب، وأيضًا: فإن كون ذلك المدار وصفًا لازمًا للعلية، وأن العلة حينئذ تكون غيره احتمال مرجوح لا يقدح في ظن علية ذلك الوصف المدار؛ فإنا إذا رأينا دوران حكم مع وصف وجودًا وعدمًا مع صلاحيته للعلية مع عدم علمنا بوصف آخر غلب على ظننا بكون ذلك الوصف علة وأن احتمال أن تكون العلة غيره وأنه لازم لتلك العلة احتمالًا مرجوحًا والعمل بالظن واجب فيكون العمل بذلك الوصف واجبًا ولا نعني بكون الدوران حجة سوى هذا وحينئذ لا حاجة للمستدل إلى دفع ذلك الاحتمال المرجوح؛ لأن طالب الظن ليس عليه دفع الاحتمالات المرجوحة وإنما ذلك على طالب اليقين فلا حاجة له إلى التمسك بالسبر والتقسيم وغيره.
الفصل الخامس
في السبر والتقسيم