الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
في السبر والتقسيم
السبر في اللغة: هو الاختبار، يقال: سبرته أي اختبرته، ومنه يقال: للميل الذي يختبر به الجرح المسبار.
وإنما سمي هذا النوع الآتي من الكلام بالسبر والتقسيم؛ لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر كل واحد منها في أنه هل يصلح للعلية أم لا؟
ثم اعلم أن التقسيم إما أن يكون دائرًا بين النفي والإثبات وهو التقسيم المنحصر، وإما أن لا يكون دائرًا كذلك وهو التقسيم المنتشر.
أما الأول: فهو لإفادته العلم حجة في العليات والعمليات قطعًا من غير خلاف إن كان الدليل الدال على نفي علة ما عدا الوصف المعين فيه قطعيًا أيضًا وإلا فهو والتقسيم الثاني سواء كان الدليل الدال على نفي علية ما عدا المعين فيه قطعيًا أو ظنيًا حجة في العمليات لإفادته الظن فقط دون العلميات.
طريق إيراد النوع الأول هو أن يقال: الحكم إما أن يكون معللًا بعلة أو لا يكون.
الثاني باطل فيتعين الأول، وتلك العلة إما الوصف الفلاني أو غيره، والثاني باطل ويذكر على ذلك دليلًا قاطعًا من إجماع أو نص، وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدًا أو على وجه التغليب، وأما الأقسام الثلاثة الباقية المفيدة للظن فيمكن أن توجد بأسرها فيها.
وطريق إيراد هذا القسم الظني المسمي بالمنتشر هو أن يقال: الحكم إما أن يكون معللًا، أو لا يكون، والثاني باطل؛ إما لما سبق من الإجماع على أن أحكام الله تعالى بأسرها معللة بالمصالح إن صح ذلك الإجماع، أو لإجماع الفقهاء والمعتزلة على ذلك، وإن اختلفوا في المأخذ كما عرفت ذلك من قبل، ولو سلم عدم انعقاد الإجماع على ذلك، لكن كونه غير معلل بالمصلحة على خلاف الغالب المألوف من أحكام الشرع بدليل الاستقراء، وذلك يدل ظاهرًا على أن ذلك الحكم معلل وهذا كاف في هذا المقام؛ إذ المطلوب إنما هو الظن وهو توجيه.
ثم تلك العلة إما ظاهرة لنا أو غير ظاهرة لنا، الثاني باطل.
أما أولًا: فلأن ذلك يبطل فائدة التعليل إذ فائدته توسع طرق معرفة الأحكام، وشرعية انقياد المكلف له وتلقيه بالقبول على وفق داعية الطبع من غير تأبي من جهة النفس وهي بأسرها غير حاصلة فيما خفيت علته.
وأما ثانيًا: فلأن الغالب في العلل المعللة بها الأحكام إنما هو الظهور واندراج الفرد تحت الأعم والأغلب أغلب على الظن [فيكون كونها ظاهرة أغلب على الظن].
وأما ثالثًا: فلأن الحكم إذا كان معقول المعنى كان على وفق المعتاد من تصرفات العقلاء وأهل العرف، والأصل مطابقة الشرع للعقل والعرف، وإذا بطل الثاني تعين الأول، وحينئذ نقول: العلة إما هذا الوصف، أو ذلك الوصف، أو الوصف الفلاني؛ إذ الأصل عدم ما عداها، ولأن المجتهد ناظر في الأوصاف الحاصلة في محل الحكم فإذا لم يجد بعد البحث الشديد والطلب الأكيد إلا ما ذكر من الأوصاف الثلاثة أو الأربعة غلب على ظنه أنه لم يكن هناك وصف آخر غير ما ذكر، فإذا أخبر بذلك غلب على الظن صدقه؛ لأنه عارف سليم الحس والعقل عدل ثقة، وحينئذ يحصل الظن بانحصار صفات محل الحكم فيما ذكره المجتهد وأخبر أنه لم يجد سواه فإذا نفي بعد ذلك بدليل قاطع أو ظني علية ماعدا الذي ادعي عليته غلب على الظن أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم والعمل بالظن واجب لما سبق فيكون هذا النوع حجة.
وضابط هذا النوع الظني: هو أن لا يكون الدليل الدال على انحصار الصفات في محل الحكم ونفي علية ما عدا الوصف المعين قاطعًا سواء كانا ظنيين أو أحدهما.
فإن قلت: لا نسلم حصر الصفات فيما ذكر فلعل له صفات أخر. قوله: بحث وطلب فما وجد.
قلنا: لا نسلم فلعله لم يبحث ولم يطلب/ (189/ أ) وأخبر بذلك كذبًا ترويجًا أو طلبًا للغلبة.
سلمناه لكن ربما وجده ولكن لعله ستره للعليتين السابقتين.
سلمنا أنه لم يجده لكن عدم وجدانه لا يدل على عدمه.
سلمنا أنه يدل على ذلك بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى غيره.
سلمنا أنه يدل عليه مطلقًا لكن لعل الخصم وجد فيه صفات أخر أو ما يدل عليها فحينئذ لا تعتبر تلك الدلالة بالنسبة إليه لعلمه بما يضاده.
سلمناه لكن لا نسلم فساد غير ما عين للعلية.
سلمناه لكن كل واحد منها لا مجموع اثنين أو ثلاثة منها.
سلمنا فسادها مجموعًا ومفردًا، لكن لا نسلم أنه يلزم منه علية ما عين؛ وهذا إنما يلزم ذلك أن لو كان الحكم هناك معقول المعني وهو ممنوع.
سلمنا أنه معقول المعني لكن لا يلزم من عدم علية غير ذلك الوصف عليته؛ لأن عدم علية غيره من قبيل إبطال المعارض ولا يلزم من عدم معارضة علية الشيء عليته في نفسه.
سلمنا علية الباقي بمعني أن غيره ليس بعلة لكن لم لا يجوز أن ينقسم الباقي إلى قسمين وتكون العلة أحد قسميه.
قلت: الجواب عن الأول: أن ما تقدم من الوجهين دليل على انحصار الصفات فيما ذكر ظاهرًا.
قوله: لعله لم يبحث ولم يطلب.
قلنا: الظاهر من حال المسلم العدل الثقة إنما هو الصدق لا الترويج والغلبة لاسيما فيما [لا] يتسامح بالكذب فيه كالإخبار عن حكم الله تعالى ولاسيما ممن شرفه الله تعالى برتبة الاجتهاد في الدين، وبه خرج الجواب عن الثاني، فإن الستر بعد الوجدان خيانة من المجتهد في الدين وهو بعيد منه.
وعن الثالث: أنه لا يدل عليه قطعًا لكن يدل عليه ظنًا، والاستقراء يفيد العلم الضروري بذلك.
وعن الرابع: أن عدم جودانه بعد البحث الشديد والطلب الأكيد أفاد له الظن بالعدم فإذا أخبر عن ذلك مع أن ظاهر حاله الصدق أفاد لغيره الظن أيضًا كما في سائر الأخبار اللهم [إلا] إذا اتهمه بالخيانة لكن سبق أن الظاهر عدمها.
وعن الخامس: أن الظاهر من حال الخصم أنه لو وجدها أو وجد عليها دليلًا لأظهره إفحامًا لخصمه، ونصرة لنفسه، وإبرازًا لعلم مست الحاجة إلى إبرازه فلو ادعى علمه بها طولب ببيانها فإن لم يبين مع إمكان البيان لم يلتفت إلى دعواه لظهور عناده فيه فلو بين واستدل المستدل على إفساده بدليل لم يعد منقطعًا فيما ادعاه من الحصر ظاهرًا وإفساد غير الوصف الذي عينه.
وعن السادس: أن الكلام حيث يتبين إفسادها بدليل من الأدلة التي تدل على عدم علية الوصف نحو النقض وعدم التأثير وغيرها من الطرق الدالة على عدم العلية.
وقال الإمام رحمه الله: بلى لا يمكن إفسادها بعدم المناسبة لأنه حينئذ يحتاج إلى أن يبين خلو ما يدعيه علة عن هذا المفسد وذلك لا يتم إلا ببيان مناسبته، ولو بين ذلك لاستغنى عن طريقة السبر والتقسيم.
قيل عليه: إن كان بيان عدم مناسبة [الصفات المحذوفة بعد تسليم المعترض مناسبة كل واحد من الصفات المحذوفة وغيرها لم يسمع منه منع مناسبة] الباقي لكونه منعًا لما سلمه فلا يجب على المستدل بيان مناسبة
الوصف الثاني.
وإن كان قبل تسليم مناسبة تلك الصفات، فللمستدل طريق صالح في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي وهو ترجيح سبره على سبر المعترض لموافقته للتعدية وموافقة سبر المعترض للقصور، والتعدية أولى من القصور على ما يأتي تقريره في الترجيحات وهو ضعيف؛ أما أولًا: فلأن ذلك كلام على سند المنع وهو قد لا يكون جوابًا عن المنع؛ وهذا لأن المعترض تارة يمنع مناسبة الوصف المستبقي فقط من غير أن يسنده إلى شيء وتارة يسنده إلى شيء نحو الأصل بأن يقول: بأن الأصل عدم المناسبة، أو يقول: بحثت وسبرت فما وجدت فيه المناسبة [فإذا قال المستدل: بحثت وسبرت فوجدت فيه المناسبة] وسبري راجح على سبرك لما تقدم كان ذلك كلامًا على سند المنع لا على المنع.
وأما ثانيًا: فلأنه إذا ادعى المناسبة في الوصف المستبقي ورجحه على غيره، طولب ببيانها فإن لم يبين واقتصر على قوله: بحثت ووجدت فيه المناسبة، ولم يبينها تفصيلًا لم يصغ إليه ولم يكتف منه بهذا القدر، وإن اكتفينا بهذا في جانب النفي لأنه لا كلفة في الإظهار بعد الوجدان فيكون في عدم بيانها وسترها معاندا أو لأنا لو اكتفينا منه بهذا القدر لاكتفينا منه في كل مسألة خلافية أن يقول ابتداء بحثت وفتشت فوجدت على حكم المسألة دليلًا، إذ الظاهر من حال المجتهد العدل إنما هو الصدق ولا قائل به وإنما اكتفينا منه بهذا في النفي لأنه لا طريق إليه إلا ذلك.
وأما ثالثًا: فلأنا لو سلمنا الاكتفاء بهذا القدر فهو أيضًا بيان للمناسبة في الوصف المستبقي، غايته أنه على وجه جملي فلا يكون ذلك مافيًا/ (190/ أ)
لقول القائل: إنه لا يتم ذلك إلا ببيان مناسبة الوصف المستبقى فبطل قول المعترض عليه أن له طريقًا صالحًا في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي فإن ما ذكره بيان للمناسبة في الوصف المستبقي غايته أنه على وجه جملي.
واعترض على طريقة عدم التأثير [المسمي] بالإلغاء أيضًا: بأن ذلك لا يتم إلا أن يبين أن الحكم ثابت بالوصف المستبقي في صورة دون سائر الصفات المحذوفة لكن لا يكفي في ذلك أن يبين أنه يوجد الحكم مع الوصف المستبقي مع انتفاء الأوصاف المحذوفة، فإنه لو كفى ذلك لكفى في أصل القياس فلم يكن إلى البحث والسبر وسائر طرق العلية حاجة فإذن لابد من بيان الاستقلال بالاستدلال ببعض طرق إثبات العلة [وعند ذلك لابد وأن يشرع المستدل في بيان الاستدلال ببعض طرق إثبات العلة] فإن بين الاستقلال في صورة الإلغاء بالبحث والسبر كما أثبت ذلك في الأصل الأول فقد استقلت صورة الإلغاء بالاعتبار وأمكن أن يكون ذلك أصلًا [لعلته] وتبينًا أن الأصل الأول لا حاجة إليه فإن المصير إلى أصل لا يمكن التمسك به في الاعتبار إلا بذكر صورة أخرى مستقلة بالاعتبار تطويلًا بلا فائدة وإن بين الاستقلال بطريق آخر فيلزمه مع هذا المحذور محذور آخر وهو الانتقال من طريق إلى آخر في إثبات كون الوصف علة الحكم وهو قبيح في مقام النظر، وفيه نظر من حيث إن الصورة التي يتبين فيها إلغاء الأوصاف المحذوفة قد تكون متعددة فلا يمكن جعل كل واحد منها أصلًا لعلته إذا لم يجتمع في واحد منها جميع تلك الأوصاف المحذوفة فلم تستقل بالاعتبار فيكون أصل العلة محل السبر والتقسيم الذي اجتمع فيه الأوصاف المحذوفة والمستبقى ومحل
الإلغاء هو تلك الصور.
وعن السابع: أنه باطل بالإجماع إذ الكلام حيث انعقد الإجماع على أنه لا يعتبر في ثبوت الحكم مجموع تلك الصفات.
وعن الثامن: أنه يلزم منه علية ذلك المعين وإلا لزم أن لا يكون الحكم معللًا، أو يكون معللًا بما لا يعقل وكلاهما باطلان لما تقدم.
وعن التاسع: أنه لا يلزم علية ذلك الوصف من ذلك الوجه الذي ذكرتم بل من حيث أنه لو لم يكن ذلك الوصف علة إذ ذاك لزم أحد ما تقدم من المحذور.
وعن العاشر: أنه على خلاف الإجماع، لأن المخالف لم يقل بعلية ذلك الوصف أصلًا، والمستدل بقول بعليته مطلقًا فالقول بعلية أحد مسمى ذلك الوصف دون الآخر قول لم يقل به أحد.