الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة التاسعة
أطبق الكل على أن العلة المنصوصة أو المجمع عليها يجوز أن تكون قاصرة، وأختلفوا في المستنبطة:
فذهب أصحابنا، والحنابلة، وأكثر المتكلمين نحو القاضي منا،
والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري إلى أنها يجوز أن تكون قاصرة أيضا، وذهبت الحنفية وأبو عبد الله البصري والكرخي إلى امتناعها.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن صحة تعدية العلة إلى الفرع فرع صحتها في نفسها فلو توقفت صحتها في نفسها] على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وهو ممتنع وإذا لم تتوقف صحتها في نفسها [على صحة التعدية في نفسها فتصح نفسها وإن لم تصح تعديتها إلى الفرع وهو المطلوب.
فإن قلت: لا يلزم من عدم توقف صحتها نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع صحتها في نفسها وإن لم تصح التعدية بها؛ لجواز أن تكون صحتها في نفسها متوقفة على وجودها في الفرع، وهو غير موقوف على صحتها في نفسها فلا يلزم الدور، ولا يظن أن صحة تعديتها إلى الفرع هو عين وجودها فيه؛ لأن المعني من صحة التعدية إلى الفرع ثبوت الحكم بها في الفرع، أو صلاحية الثبوت بها، ومعلوم أن هذا يتوقف على صحة كونها علة في
نفسها، فلو كانت صحة كونها علة يتوقف على هذا لزم الدور.
وأما وجودها في المحل الذي جعل فرعا فلا يتوقف على صحة كونها علة في نفس الأمر فلا دور، ولو أراد بصحة تعديتها إلى الفرع وجودها فيه منعنا لزوم الدور لما سبق.
سلمنا لزوم الدور لكن دور معية أو غيره، والأول مسلم لكن لا نسلم امتناعه بل هو صحيح ثابت كما في المتلازمين والمضافين والثاني ممنوع وما الدليل عليه؟
قلت: أجيب عن الأول: بأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه لاستحالة حلول الشيء الواحد في محلين بل يكون مثله، وإذا كان كذلك فنقول: كل ما يحصل من الصفات عند حلول مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول عند عدم حلول مثله في محل آخر لأن حكم الشيء حكم مثله، وإذا أمكن حصول تلك الأمور حينئذ فبتقدير تحققها وجب أن تكون علة لأن تلك العلية ما حصلت إلا بسبب تلك الأمور.
واعترض عليه بمنع عليتها باعتبار تلك الصفات فقط بل بها وبوجود مثلها في غير الأصل، فإن لم يعتبر هذا بناء أنه لا مدخل له في تحقق المناسبة أو لشيء آخر فهو أول المسألة.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن العلية لا يجوز أن تكون بمجموع تلك الصفات وبحصول مثلها في غير الأصل، بل يجب أن تكون بمجموع تلك الصفات
ضرورة أن الحصول في الشيء أمر عدمي على ما تقرر ذلك في موضعه، والأمور الثبوتية لا يجوز أن تكون بالأمور العدمية على ما تقدم تقريره، ولأن العلة القاصرة لا يجوز أن تكون بمعنى المعرف؛ لأن حكم الأصل معلوم بالنص لا بها ولا فرع له حتى يعرف حكمه، بل إما أن يكون بمعنى الباعث، أو بمعنى الموجب بجعل الشارع إياه موجبا؛ إذ الإيجاب الذاتي باطل ببطلان التحسين والتقبيح، وعلى المعنيين لا يجوز أن يكون لحصول مثلها في محل آخر تأثير في العلية، أما بمعنى الباعث فظاهر؛ لأن الباعث للشارع على الحكم إنما هو جهة المصلحة أو المفسدة: إما باعتبار نفسهما على رأي من يجوز التعليل بنفس الحكم، أو باعتبار المشتمل عليهما على رأي من لم يجوز ذلك، ومعلوم أن حصول مثلها في محل آخر لا تأثير له في تحصيل جهة المصلحة أو دفع المفسدة فلم تكن العلية بالمجموع المركب منها ومن غيرها، وأما بالمعنى الثاني فلأن ذلك راجع إلى الأول أيضا؛ لأن الباعث للشارع على جعله علة إنما هو جهة المصلحة أو المفسدة، ومعلوم أن حصول مثلها في محل آخر لا مدخل له في تحصيل مثلها في محل آخر.
وعن الثاني أنه ليس بدور معية، والدليل عليه هو: أن صحة تعديتها إلى الفرع فرع صحتها في نفسها بدليل صحة دخول كلمة ثم عليه؛ إذ يصح أن يقال: صحت العلة في نفسها ثم عديت، أو عديت بعد أن صحت ولو كانا معا لما صح بهذا القول؛ إذ لا يجوز إدخال كلمة ثم ما بين المضافين والمتلازمين، فلا يجوز أن يقال: حصلت الأبوة ثم البنوة، ولا يقال أيضا: حصل العلو ثم السفل وبالعكس.
وثانيها: أنا أجمعنا على أن العلة المنصوصة والمجمع عليها بجوز أن تكون قاصرة، فكذا المستنبطة إذ لا فرق بينهما سوى/ (223/أ) أنه نص عليها أو أجمع عليها، وذلك لا يوجب تفرقة في صحة ثبوت العلية وعدمها بل المستنبطة أولى؛ لأن التنصيص على العلة ربما يوهم الأمر بالقياس مع تعذره في القاصرة، والمستنبطة ليس فيها هذا المحذور فكانت أولى بالجواز.
وثالثها: أن طرق العقلية الدالة على العلية من المناسبة والسبر والتقسيم والدوران وجودا وعدما قد يدل على علية الوصف القاصرة، فوجب أن يكون علة كغيره لحصول غلبة الظن فيهما على حد سواء.
ورابعها: أنها لو امتنعت فإما أن تمتنع لذاتها وهو باطل قطعا، أو لامتناع مدركها وهو أيضا باطل لما سبق، أو لعدم فائدتها لو سلم أن ذلك يقتضي الامتناع وهو أيضا باطل؛ لأن فيه فوائد.
أحدها: معرفة الباعث على الحكم الشرعي وكونه مطابقا لوجه الحكمة والمصلحة، وهذه فائدة معتبرة؛ لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل، فيكون أفضى إلى حصول مقصود الشارع من شرعية ذلك الحكم ضرورة أنه حينئذ يكون أفضى إلى الحصول.
وثانيها: أنه يفيد عدم الحكم؛ لأنه يفيد المنع من القياس عليه، فإنه إذا علم أن الحكم في الأصل معلل بعلة قاصرة امتنع القياس عليه.
فإن قلت: هذه الفائدة حاصلة بأن لا يجد الحكم معللا بمتعدية وهو أعم من أن يكون معللا بقاصرة، أو لا يكون معللا أصلا، أو وإن كان معللا بها لكنا لا نجد بعد البحث الشديد، فلم تكن تلك الفائدة فائدتها فلم تكن فائدته.
قلت: بتقدير أن يوجد في الأصل وصف مناسب للحكم متعد فإنه تمتنع
تعدية الحكم به إلا بشرط الترجيح، ولو لم يكن الحكم معللا بالقاصرة لزم تعدية الحكم بالمتعدية من غير شريطة فكان المنع من القياس في هذه الصورة إنما جاء من التعليل بالقاصرة لا غير.
فإن قلت: هذا إنما يلزم أن لو جاز التعليل بالقاصرة مع وجود المتعدية وهو ممنوع فإنه وإن جوز التعليل بالقاصرة لكن عندما لا يمكن التعليل بالمتعدية فأما مع وجود المتعدية فلا نسلم ذلك.
قلت: لو كان التعليل بالقاصرة مشروطا بعدم المتعدية لما تصور وقوع التعارض بينهما، لكن القائلون بتجويز التعليل بالقاصرة أطبقوا على جواز وقوع التعارض بينهما لكن رجح قوم منهم المتعدية، والباقون سووا بينهما ولو كان التعليل بالقاصرة مشروطا بعدم المتعدية لما تصور وقوع التعارض وجريان الترجيح بينهما.
وثالثها: أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشيء فأنا إذا علمنا الحكم ثم اطلعنا على علته صرنا عالمين أو ظانين لما كنا عنه غافلين، وذلك كمال النفوس ومحبوب القلوب، أو لشيء آخر ولابد من بيانه لينظر هل هو مقتض للبطلان أم لا؟ وأيضا الأصل عدم اقتضائه لذلك وعدم وجوده وإذا انتفي مدارك البطلان وجب أن يقال: أنه يصح التعليل به.
احتجوا بوجوه:
أحدها: أن الدليل ينفى القول بالعلة المظنونة، ترك العمل به في المتعدية لكثرة فوائدها فوجب أن يبقى ما عداها على الأصل.
وجوابه: أنه لما وجب العمل بالمظنون قطعا كان العمل به عملا بالمقطوع
لا بالمظنون وأيضا يجب حمل تلك الأدلة على ما المطلوب فيه القطع لا الظن جمعا بينه وبين الأدلة الدالة على جواز العمل بالمظنون ولئلا يلزم التخصيص فإن العمل الظن جائز في كثير من الصور وفاقا.
وثانيها: أنه لا فائدة فيها، وما لا فائدة فيه كان نصبه عبثا، وهو على الحكيم محال.
بيان الأول: أن فائدة العلة إنما هو معرفة الحكم، والقاصرة ليس فيها ذلك؛ لأن معرفة حكم الأصل إنما هو بالنص لا بالعلة وليس يوجد في غيره حتى يعرف منها حكمه فثبت أنه لا فائدة فيه.
بيان الثاني: طاهر.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا فائدة فيها، وقد عرفت أن فيها فوائد.
سلمنا أنه لا فائدة فيها، لكن لم قلتم أن مالا فائدة فيه يكون عبثا باطلا؟ فإنه لا يمتنع عقلا أنه تكون باعثة على الحكم في نفس الأمر، أو مؤثرة فيه وإن لم ينتفع الطالب لها، ويكون الطالب لها طالبا لما لا ينتفع به.
فإن قلت: فائدة الخاصة للعلة إنما هو إثبات الحكم فإذا لم يحصل ذلك وجب القول بالبطلان كالبيع والنكاح فإنه إذا لم يحصل منهما حل البضع وجواز التصرفات في المبيع وجب القول ببطلانهما.
قلت: إن عنيتم ببطلانها أنه لا يثبت لها حكم في غير محل النص فهذا مسلم وإن عنى بذلك أنها ليست مؤثرة أو باعثة للشارع على الحكم في نفس الأمر فهذا باطل، وما ذكرتم لا يدل على بطلانها بهذين المعنيين، ونحن لا نعني بكونها صحيحة سوى أحد هذين المعنيين، ولهذا المعنى قلنا: إن حكم الأصل معلل بعلة لا بمعنى المعرف، فإن العلة لم تعرفنا في الأصل حكماً.
سلمنا أن ما لا فائدة فيه يكون عبثا لا يجوز إثباته لكن متى قبل أن يعلم كونه كذلك أو بعد أن يعلم كونه كذلك؟ والأول/ (224/أ) ممنوع والثاني مسلم، وها هنا المجتهد الطالب للعلة لا يعلم ذلك إلا بعد أن يعثر عليه، وحينئذ لا يمكنه منع نفسه عن معرفتها لكونه خارجا عن وسعه.
وسلمناه لكنه منقوض بالمنصوصة والمجمع عليها.
وثالثها: أن العلة الشرعية أمارة فلابد وأن تكون كاشفة عن شيء، والقاصرة لا تكشف عن شيء من الأحكام فلا تكون أمارة فلا تكون علة.
وجوابه] لا يخفى [مما سبق.