الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية
.
وطريق ضبط مذاهب الناس فيه أن يقال: الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص، أو لا يكون.
فإن كان الأول: فإما أن يكون وجده المجتهد أو لم يجده، والثاني على قسمين، لأنه اما قصر في طلبه أو لم يقصر، فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام، وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقًا، وإن لم يكن مع العلم به فإن قصر في البحث عنه فكذلك، وإن لم يقصر في البحث عنه بل بالغ في طلبه وتفكر ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه كحكم ما إذا لم يجده مع الطلب الشديد والبحث التام وسيأتي/ (306/ أ) وإن لم يجده فإن كان ذلك لتقصيره في طلبه فهو أيضًا مخطئ وآثم في ذلك، وإن لم يقصر في ذلك بل بالغ في تفتيشه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده بأن خفى عليه الراوي الذي عنده النص، أو وإن عرفه لكنه مات قبل وصوله إليه فهو آثم قطعًا وهو مخطئ أو هو مصيب فهو على الخلاف الذى يأتي فيما لا نص فيه وأولى بان يكون مخطئا، ووجه الأولوية ظاهر.
وأما التي لا يكون عليها نص، فإما أن يقال: لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين، أو لا يكون فيها حكم معين بل حكمه فيها تابع لاجتهاد المجتهد فهذا الثاني قول من قال: إن كل مجتهد مصيب، وهو مذهب جمهور المتكلمين منا كالشيخ أبى الحسن الأشعري والقاضي أبى بكر، ومن المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم.
وقيل: هو مروي عن الشافعي وأبى حنيفة وأحمد- رضى الله عنهم- والمشهور عنهم خلافه وهؤلاء اختلفوا في أنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم معين، فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى بحكم فيها لما حكم إلا به أو لم يوجد ذلك؟
الأول هو القول الأشبه وهو منسوب إلى كثير من المصوبين.
والثاني قول الخلص من المصوبين.
وأما الأول وهو أن لله تعالى في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد حكم معن.
فإما أن يقال. عليه دلالة، أو عليه أمارة فقط أو لا يكون عليه دلالة ولا أمارة.
وهذا الثالث مذهب جماعة من الفقهاء والمتكلمين، وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم كدفين يعثر عليه الطالب اتفاقًا فمن عثر عليه فهو المصيب فله أجران، ومن لم يعثر عليه ولم يصادفه مخطئ وله أجر واحد، لأجل ما تحمل من الكد في طلبه وتعب في تفتيشه وإن لم يكن ذلك بناء على طريق وإلا فكونه مخطئا لا يناسب أن يكون له أجر.
وأما القول الأول، وهو أن على الحكم دليلاً يفيد العلم والقطع، وهو قول بشر المريسي، والأصم، وابن علية.
وهؤلاء أتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه، وأنه إذا وجده فهو مصيب، وإذا أخطاه فهو مخطئ، لكنهم اختلفوا في أن المخطئ هل يأثم ويستحق العقاب أم لا؟
فذهب بشر المريسي إلى أنه يأثم ويستحق العقاب.
وأنكره الباقون لخفاء الدليل وغموضه فكان مخطئًا معذورًا.
واختلفوا أيضًا في أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه أم لا؟
قال الأصم ينقض.
وذهب الباقون إلى أنه لا ينقض.
وأما القول الثاني، وهو أن على الحكم أمارة فقط وهو قول أكثر الفقهاء
كالأئمة الأربعة، وكثير من المتكلمين منا كابن فورك، والأستاذ أبى إسحاق.
وهؤلاء اختلفوا.
فمنهم من قال. إن المجتهد غير مكلف بإصابته لخفائه وغموضه، بل هو مكلف بما غلب على ظنه، فهو وإن كان مخطئا على تقدير عدم إصابته لكنه معذور ماجور، وهو قول الفقهاء وشسب إلى الشافعي وأبي حنيفة، ومنهم من قال: أنه مأمور بطلبه، ومكلف بإصابته أولاً،. فإن أخطأ وغلب على ظنه شيء آخر فهناك يتعين التكليف، ويصير مأمورًا بأن يعمل بمقتضى ظنه ولا يأثم ويسقط عنه العقاب تحقيقًا، فهذا شرح مذاهب الناس فيه ولنشرع الآن في الحجاج فنقول: احتج القائلون بأن كل مجتهد مصيب بوجوه:
أحدها: قوله تعالى في حق داود وسليمان: {وكلا آتينا حكمًا وعلمًا} ولو كان أحدهما مخطئًا لما حسن وصفه بذلك، إذ المخطئ في الشيء لا يوصف بانه أوتى فيه الحكم والعلم.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه وصف بذلك فيما أخطا فيه وهذا لأنه نكرة في سياق الإثبات، فليس فيه دلالة لا على التعيين، ولا على التعميم، وإنما دلالته على أنه أوتى- حكمًا وعلمًا في الجملة فقط، وحينئذ ليس فيه دلالة على المطلوب، لأن المخطئ في الشيء يجوز أن يوصف بذلك في شيء آخر أو في الجملة، فلم قلت أن ذلك غير جائز حتى يحصل المقصود، أو أنه
للتعميم [أو فيما فيه الخطأ حتى يحصل المقصود] أيضًا
سلمناه لكن المخطئ إذا كان مبالغًا في الطلب والتفتيش التام يجوز وصفه بذلك لعدم تقصيره، أو لكون اجتهاده وقع قريبا من الوجه الصائب.
وثانيها: [307/ أ]: قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتضيتم اهتديتم" ووجه الاستدلال به: أنه لو كان المصيب منهم واحدًا والباقي مخطئًا لما كان الاقتداء بكل واحد منهم هدى، ضرورة أن الاقتداء بالمخطئ لا يكون هدى.
وجوابه: منع الملازمة؛ وهذا لأنه لما وجب العمل على العامي بما أفتاه الصحابي، أو على المجتهد إن قلنا: قول الصحابي حجة، أو قلنا: يجوز للمجتهد أن يقلد المجتهد ووجب عليه اعتقاد الوجوب كان ذلك هدى ضرورة أن نقيضه ضلال وباطل وأجيب عنه: بحمله على قبول الرواية عنهم، وفيه بعد من حيث إن ذلك لا يفيد اقتداء بالراو.
وتمسكوا من السعة أيضًا بخبر معاذ.
ووجه التمسك به هو: أنه صوبه مطلقًا حيث رتب الاجتهاد على السنة، والسنة على الكتاب ولم يفصل بين ما إذا صادف حكم الله تعالى أو لم يصادف.
وجوابه: ما سيأتي والمعارضة بحديث الخطأ.
وثالثها: الإجماع، وتقريره: أن الصحابة أجمعت على تسويغ مخالفة بعضهم لبعض مع اعتقاد كل واحده منهم بان ما ذهب إليه حق، وعلى تسويغ
إفتاء المخالفين، وتوليتهم في الدماء والفروج، ولو كان المصيب واحدًا والباقي مخطئًا لما ساغ اتفاقهم على ذلك كما لا يجوز اتفاقهم على الخطأ والأمر بالمنكر أو النهى عن المعروف.
وجوابه: أن عندنا يتغير التكليف عند العجز عن الوصول إلى الحكم فيصير حكم الله تعالى في حق المجتهد ما أدى اليه اجتهاده، وحينئذ لا يكون ذلك الحكم إذ ذاك خطأ وإن خطأ كان بالنسبة إلى الحكم الواقع في نفس الأمر.
سلمنا أنه لا يتغير التكليف لكن إنما لم ينكر بعضهم على بعض المخالفة لكون المخطئ غير معين، ومع ذلك يجب على كل واحد من المجتهدين أن يعمل بما غلب على ظنه فلا يكون الانكار سائغًا إذ ذاك على أحد منهم، وبه ظهر الفرق بين ما نحن فيه، وبين ما قاسوا عليه فإن الخطأ معين في المعين عليه.
ورابعها. لو كان في الواقعة حكل معين في نفس الأمر، لكان إما أن يكون عليه دليل، وأعنى بالدليل: القدر المشترك بين ما يقيد القطع، والظن، أو لا يكون عليه دليل، والقسمان باطلان فبطل القول بكون الحكم معينًا في نفس الأمر.
أما الملازمة فظاهرة.
وأما بطلان القسم الأول، فلأنه لو كان على الحكم دليل لكان المجتهد متمكنًا من تحصيل العلم، أو الظن به فكان الحاكم بغيره حاكمًا بغير ما أنزل الله فيلزم تكفيره لقوله تعالى:{ومن لم يحكم بما أنزل الله فسأولئك هم الكافرون} ويلزم تفسيقه لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} ولكان تاركة تاركًا لما أمره الله تعالى به، فيكون
عاصيًا مستحقًا للنار لما سبق في الأوامر، ولما أجمعت الأمة على بطلان هذه اللوازم، علمنا أنه ليس على الحكم دليل.
لا يقال: ما ذكرتم من الأدلة وإن كلان يقتضى ثبوت الاحكام المذكورة لكن غموض أدلة الأحكام، وكون التكليف باتباعها حرجا وضررًا أوجب تخصيصها بالنسبة إلى الأحكام المذكورة للنصوص النافية للعسو والحرج والضرر.
لأنا نقول: غموض أدلة الفروع لا تزيد على غموض أدلة الأصول، مع ما فيها من المقدمات الكثيرة، والشبه القوية، ثم لا يكون المخطئ فيه معذورًا بل الخطأ فيه إما كفر، أو بدعة وضلال، فما نحن فيه أولى أن لا يكون المجتهد معذورا فيه.
ولقائل أن يقول. المطالب في الأصول جليلة، لكونها تتعلق بذات الله وصفاته ومعدودة معينة غير متناهية فيتناسب تغليظ الامر فيه حتى تتوفر الدواعي على طلب أدلتها التي هي محصورة بخلاف مطالب الفروع فإنها ليست من رتبة المطالب الأصولية، وهى أيضًا غير متناهية، فلم يمكن التنصيص عليها فناسب أن يخفف الأمر فيه بعدم تفسيق المخطئ، وعدم تضليله، لكى يكون ذلك باعثًا وداعيًا إلى كثرة النظر والاجتهاد بحسب ما يمنع من الوقائع، وهذا لأن خوض الانسان فيما أمن غائلته أكثر من الذي لا يأمن فيه ذلك فلم يأمن من التكفير أو التبديع والتضليل في أصول الدين بخلاف الفروع.
وأما بطلان القسم الثاني وهو أن لا يكون على الحكم المعين في الواقعة دليل فلأنه حينئذ يلزم أن يكون التكليف (308/ أ) بذلك الحكم تكليفًا بما لا يطاق، وأنه غير جائز، أو وإن كان جائزًا لكن أجمعت الأمة على أن هذا النوع
من التكليف ليس من تكليف ما لا يطاق فثبت بما ذكرنا فساد القسمين ويلزم منه فساد القول بثبوت الحكم في الواقعة
وجوابه: ما سبق في جواب الاجماع أويه
وثانيًا فإنه لما أوجب عليه العمل بذلك الخطأ وعوقب على تركه امتنع معه التكفير أو التبديع والتضليل وإلا لزم التكليف بالجمع بين المتنافيين.
وأيضًا: فإن دليلكم منقوض بما إذا كان النص موجودًا في المسالة، والمجتهد طلبه ولم يجده وحكم فيه بمقتضى القياس على خلاف النص فإنه مخطئ ومع ذلك لم يكفر ولم يضلل.
وخامسها: أنه لو كان الله تعالى في كل واقعة حكم معين لكان عليه دليل قاطع، لأنه لو لم يوجد عليه دليل قاطع فإما أن لا يوجد عليه دليل أصل، وهو باطل، لكون التكليف بذلك الحكم حينئذ تكليف ما لا يطاق، وأما أن يوجد عليه دليل يستلزم الحكم ظاهرًا فإنه لو لم يستلزم الحكم ظاهرًا حينئذ لم يكن ذلك الدليل دليلاً، لأن المعنى من كون الدليل دليلاً أن يستلزم الحكم إما قطعًا، أو ظاهرًا، والتقدير هنا عدم وجود دليل قاطع عليه فيلزم حينئذ أن يكون مستلزمًا للحكم ظاهرًا وإلا لم يكن دليلاً، وهو خلاف التقدير الذى نحن فيه لكن ذلك باطل، لأنه إنما يكون مستلزمًا ظاهرًا بأن وجد المدلول مع الدليل في أكثر الصور وإن تخلف محنه في بعض الصور فإنه لو لم يختلف عنه في شيء من الصور لم يكن الدليل ظاهرًا بل قطعيًا، وحينئذ اقتضاء الدليل للمدلول في صورة المقارنة إن لم يتوقف على أمر آخر ليس موجودًا في صورة التخلف لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال.
وإن توقف كان المستلزم للمدلول ذلك المجموع لا ذلك الذى فوضناه أولاً، دليلاً ثم الكلام في ذلك المجموع كالكلام في الأول ولا يتسلسل لكونه
محالاً فينتهي إلى مجموع يمتنع تخلف المدلول عنه وحينئذ يلزم أن يكون الدليل قطعيا فثبت أنه لو كان في كل واقعة حكم لكان عليه دليل قطعي لكن ذلك باطل، أما أولاً: فباتفاق بيننا وبينكم، وأما ثانيًا: فلأنه يلزم أن لا يكون شيء من الوقائع اجتهادية، لأن ما فيه دليل قاطع لا يكون من الوقائع الاجتهادية على ما سبق تعريف المجتهد فيه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم فلم يكن لله في كل واقعة حكم.
وجوابه: النقض بالأدلة الظاهرية التي توجب الظنون، فإنه لا خلاف في وجود الدليل الظاهري كالقياس، والاستصحاب، وغيرهما من الأدلة الظاهرية التي توجب الظنون في الشرعيات وغيرها مع أن دليلكم ينفيه، فكل ما هو جوابكم عنه ثمة فهو جوابنا عنه ها هنا.
سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أن الدليل إنما يكون ظاهريا أن لو تخلف المدلول عنه في بعض الصور، وهذا لأن المعتبر فيه جواز التخلف لا التخلف ولا يلزم من الجواز الوقوع.
سلمنا لكن لا نسلم أنه إذا توقف استلزامه له على أمر آخر كان الدليل هو المجموع، وهذا لأنه يجوز أن يكون المتوقف عليه شرطًا وهو غير داخل في ماهية الدليل، فلا يكون المجموع هو الدليل بل الدليل هو ذلك الأمر الحاصل في الصورتين أعنى صورة التخلف وصورة المقارنة [و]، الذي وجد في صورة المقارنة شرط اقتضائه له.
سلمناه لكن الشعور بالمدلول بعد العلم بوجه دلالة ذلك الدليل إنما هو بخلق الله تعالى فجاز أن يخلق في بعض الصور دون البعض، فإن ترجيح أحد طرفي الجائز على الأخر من غير مرجح جائز في حق الفاعل المختار.
ويقرر هذا الدليل بوجه آخر وهو: أنه لو كان في كل واقعة حكم
لنصب عليه دليل قاطع أزاحه لعذر المكلف، وقطعًا لحجته كما قال الله تعالى:{رسلاً مبشرين لئلا يكون للناس على الله حجة} ، ولأن ذلك تمكين له من الإتيان بالمأمور به، والتمكين واجب كاللطف على ما تقدم تقريره في باب الإجماع، ولما لم يكن عليه دليل قاطع لما سبق علمنا أنه لا حكم في الواقعة.
وجوابه. بعض ما سبق ويخصه: أنه مبنى على قاعدة التحسين والتقبيح وقد مر إبطالها.
سلمناه لكن لا مانع من أن تكون الحكمة في طلب الظن بذلك الحكم بناء على الأدلة الظنية لا في طلب العلم به لما في النظر في الظنيات [من] زيادة المشقة والتعب لكون وجه الدلالة فيه/ (309/ أ) خفيًا محتملاً للنقيض فيكون الثواب فيه أكثر.
وسادسها: لو حصل في كل واقعة حكم معين لكان ما عداه خطأ باطلاً، أما أولاً: فبالإجماع، وأما ثانيًا: فالاستحالة أن يكون النقصان حقين في نفس الأمر، ولو كان كذلك لزم أمور:
أحدها: أن لا يجوز للمجتهد من الصحابي أن يولى من يخالفه فيما ذهب إليه من الأحكام، لأن التمكين من ذلك تمكين من ترويج الباطل وأعماله، وأنه غير جائز لكنه يجوز إذ الصحابة كانت تفعل ذلك من غير نكير فيما بينهم، ولى الصديق زيدًا، مع أنه كان يخالفه في الجد، وولى عمر وعلي- رضى الله عنهما- شريحًا مع أنه كان يخالفه في كثير من الأحكام،
وروي أن عمر حين خرج إلى الشام استخلف عليا- رضى الله عنه- مع أنه كان يخالفه في كثير من الأحكام.
وأما إن ذلك كان من غير نكير فيما بينهم فلانه لو وقع ذلك لنقل واشتهر ولما لم ينقل دل على أنه لم يقع.
وثانيها: لزم أن لا يجوز تمكين المخالف من الفتوى، وقد كانوا يمكنون من ذلك.
وثالثها: ولزم وجوب نقض أحكام المخالفين، بل ويجب أن ينقض الواحد حكم نفسه إذا رجع عنه، لكن لم ينقل عق أحد منهم أنه نقض حكم مخالفه، ولا حكم نفسه محند الرجوع عنه، فإن كثيرًا منهم قال في الواقعة الواحدة بأقاويل مختلفة.
ورابعها: ولزم أن يفسق مخالفة في الدماء والفروج وأن يتبرأ عنه، وهذا لأنه إذا خالفه فيما يتعلق بالدماء والفروج كان مرتكبًا الكبيرة. إذ الخطأ في الدماء والفروج من الكبائر إذ لا فرق بين القتل بالإكراه، وبين القتل بالفتوى. بل القتل بالفتوى أقوى وأكثر تسليطًا، لأنه يبيح القتل ويوجبه، والإكراه لا يبيحه، ثم إن القتل بالإكراه كبيرة يتعلق به، وجوب القصاص فكذا القتل بفتوى المخالف يجب أن يكون كذلك عند مخالفة لكن لما لم يفسقوه ولم يتبرؤا عنه علمنا أنه ليس مخطئًا.
وخامسها: ولزم أن يجوز الانكار عليه بل يجب، لأن الإنكار واجب على المنكر والخطأ لا سيما في الدماء والفروج، ولما لم يجب ذلك لم يجوزوا الإنكار عليه علمنا أنه ليس في الواقعة الاجتهادية حكم.
فإن قلت: لعل الخطأ في هذا الباب من الصغائر الحقيرة لكونه بذل الجهد في طلب الدليل ولم يجده فكان يجب أن يكون معذورًا، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن يكون ذنبه صغيرًا حقيرًا فلذلك لم يثبت ما ذكرتم من الأحكام.
سلمنا أنه كبيرة، فلم لا يجوز أن يقال: هذه الامور إنما تلزم إن لو حصل في هذه المسائل طريق مقطوع به، فأما إذا لم يحمل ذلك لكثرة وجه الشبه وتزاحم جهات التأويلات والترجيحات صار ذلك سببًا للعذر وسقوط اللوم.
قلت: أجيب عن الأول: أنه لو كان خطـ لكان من باب الكبائر لا من الصغائر لأن تارك العمل بذلك تارك للعمل المأمور به فيكون مستحقًا للنار.
وهو ضعيف، أما أولاً: فلأنه ليس كل ما يستحق بسببه النار كبيرة، فإن بترك كل واحد من الواجبات، وارتكاب كل واحد من المحرمات النار مع أنه بكبيرة، بل جوابه أن يقال: إنا وأن سلمنا أن الخطأ فيه من باب الصغائر، لكن لا نسلم أن ما ذكرتم من الأحكام من مختصات الكبائر بل هي ثابتة للصغائر والكبائر، "فإن التمكين من تمشية. الباطل غير جائز سواء كان من باب الصغائر أو من باب الكبائر، وكذلك الافتاء بالباطل غير جائز سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وكذا بقية اللوازم.
وعن الثاني: أن غموض الأدلة، وكثرة الشبه، وتزاحم جهات التأويلات في أصول الدين كثر مع أن الخطأ فيه [إما] كفر أو بدعة.
وجوابه: أنه [إنما]، لم يثبت ما ذكرتم من الأمور لكون الخطأ غير معين في إحدى الجهتين بل هو محتمل في كل واحد من الجهتين، فلو ثبتت تلك الأمور فإما أن تثبت في الجهتين معًا وهو محال لخروج الحق عن النقيضين، أو في أحدهما عينا وهو أيضًا باطل لأنه تحكم محض، فلما تعذر إثباتها لا جرم لم يثبت في شيء منهما.
سلمنا لزوم ثبوتها لكن إذا كان ما ذهب إليه المخالف باطلاً وهو ممنوع، وهذا لأن ذلك الحكم لان كان خلاف الحكم الواقع في نفس [الأمر]، وهو خطأ بالنسبة إليه لكنه يصير إذ ذاك حكم الله تعالى في حقه، فلم يلزم ثبوت تلك الأمور.
سلمنا أنه لا يتغير التكليف لكن لما أوجب عليه العمل بموجب ظنه وعوقب على تركه امتنع ثبوت تلك الأحكام فيه معه.
وسادسها: أن الدليل والخصم بل الأمة باسرها مساعدان/ (310/ أ) على أن المجتهد يجب عليه العمل بما مخلب على ظنه، وهو مأمور بان يعمل على وفق ظنه ولا معنى لحكم الله تعالى إلا ما أمر به، فإذا كان مأمورًا بالعمل ظنه فإذا عمل به كان مصيبًا، لأنه يقطع أنه أتى بما أمره الله تعالى به وحينئذ يلزم أن يكون كل مصيبًا.
وجوابه: [أنه]، لا نزاع في أنه يجب عليه العمل بمقتضى ما مخلب على ظنه، وأنه مأمور بذلك وأنه مصيب لما أمره الله تعالى مع اتباع الظن الغالب، لكم هذا لا ينفى ما وقع فيه النزل، وهو أن الله تعالى في كل واقعة حكمًا
معينًا قبل اجتهاد المجتهد، ونصب عليه الدليل الذى يفيد القدر المشترك بين العلم والظن، فمن أصاب ذلك الحكم فهو المصيب، ومن لم يصبه وغلب على ظنه غيره كان مخطئًا وإن كان ذلك الذى غلب ظنه حكم الله في حقه إذ ذاك ومعلوم أن ما ذكروه لا ينفى هذا الاحتمال.
وسابعها: أنه لو كان المجتهد مخطئا لما حصل القطع بكون خطئه مغفورًا له، لكنه حصل القطع بكونه خطئه مغفورًا له، فلا يكون مخطئًا.
بيان الملازمة: أنه لو كان مخطئًا فإما إن لا يجوز كونه مخطئًا، أو يجوز كونه مخطئا والأول باطل.
أما أولاً فلأن هذا الاعتقاد مضاد لاعتقاد كونه مخطئا الذى هو المفروض ولا يكون حاصلاً معه.
وأما ثانيًا: فلان الخطأ غير متعين في حق واحد بعينه بل هو محتمل في كل واحد من المجتهدين فيستحيل أن يحصل معه اعتقاد عدم التخطئة في حق واحد بعينه وإلا لم يكن الخطأ محتملاً في. كل واحد منهم، والثاني لا يخلو إما أن يجوز معه كونه مخلاً بنظر يلزمه [فعله] لم أو لا يجوز ذلك معه، وهذا الثاني باطل، لأنه حينئذ يكون كالغافل عن ذلك النظر الزائد فلم يكن مكلفًا به، لأن الغافل عن شيء لا يكلف به فلا يكون حينئذ مستحقًا للعقاب على تركه فلا يكون مخطئًا، وقد فرض أنه يجوز أن يكون مخطئًا هذا خلف.
ويقال بعبارة أخوى: أن هذا الاعتقاد يقتضى أن لا يكون تاركًا لما أمر به فلا يكون مستحقًا للعقاب فلا يكون مخطئًا وهو مضاد لاعتقاد أنه يجوز أن يكون مخطئًا فلا يحصل معه.
وأما الأول وهو أنه يجوز معه الإخلال بنظر زائد يجب عليه فعله وهذا على قسمين: أحدهما: أن يعلم معه أنه انتهى في النظر إلى المرتبة التي يغفر له إخلاله بنظر ما بعدها [لأنه لو اقتصر على أقل المراتب لم يغفر له ما بعده، فما من مرتبة ينتهى إليها إلا ويجوز أن لا يغفر له ما بعدها] ولا تتميز له بعض تلك المراتب عن بعض.
وأيضًا: لو تميزت تلك المرتبة عن التي لا يغفر له ما بعدها لكان ذلك إغراء على الخطأ والمعصية، لأنه إذا انتهى إليها ترك النظر فيما بعدها لعلمه أنه لا مضرة عليه في ذلك مع كونه شاقًا عليه.
وثانيهما: أن لا يعلم ذلك بل يجوز في كل مرتبة أن لا يغفر له ما بعدها فحينئذ لا يقطع بكونه مغفورًا له، فثبت أنه لو كان مخطئًا لما حصل القطع بكون خطئه مغفورًا له لكن ذلك باطل، لأنهم أجمعوا من أن عصر الصحابة إلى زماننا هذا أن المجتهد مثاب ومغفورًا له ما أخل به من النظر فيلزم أن المجتهد ليس بمخطئ.
وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأن المرتبة التي يغفر له إخلاله بنظر ما بعدها متميزة عن غيرها، وهى المرتبة التي يغلب التي على ظنه انتقاء قدرته على ما يزيد عليها، وعلى هذا التقدير سقط ما ذكروه مع أنه لو تميزت تلك المرتبة لكان ذلك إغراء على الخطأ والمعصية، لأنه لا يمكنه الإتيان بها بعده سواء تميزت أو لم تتميز فلا يمكن التكليف به لكونه غير مقدور ولا يكون تركه إغراء على المعصية والخطأ.
وأما من قال: إن لله تعالى في كل واقعة حكمًا معينًا، وعليه دليل يفيد القدر المشترك بين العلم والظن، وأن من لم يصادف ذلك الحكم أو إن صادف لكنه من غير بناء على الطريق فهو مخطئ فقد احتجوا بوجوه:
أحدها: قوله تعالى في قصة داود وسليمان: {ففهمناها سليمان} .
ووجه الاحتجاج به: أنه لو كان كل مجتهد مصيب لما كان لتخصيص الفهم بسليمان معنى.
لا يقال: أن تخصيص الفهم سليمان لا يدل على عدمه في حق داود إلا بطريق المفهوم وهو ليس بحجة، لا سيما مفهوم اللقب، لأنا نقول: نحن لا نحتج به بهذا الطريق بل بسياق/ (311/ أ) الآية، ودلالتها على مدح سليمان، فإن الآية سيقت لزيادة مدخ سليمان في هذه القضية، ولهذا فهمت الأمة ذلك منها، فلو كان كل واحد منهما مصيبًا مثل الآخر، لما كان لزيادة مدحه معنى.
وجوابه: لعل ذلك بناء على القول بالأشبه، فلا دلالة فيها حينئذ على مذهبكم سلمنا فساد القول به لكن لعل ذلك بناء على ما علمه سليمان من النص في ذلك دون داود ولا نزاع في حصول الخطأ في مثل هذه الصور، وهذا لأن كان بعيدًا لكنه محتمل في الجملة.
سلمنا علمهما بالنص الدال على الحكم لكن لعل سليمان- صلوات الرحمن عليهما- انفرد بعلم النص الناسخ لذلك الحكم، ويؤكده: ما روي أنهما حكما في تلك القضية بالنص حكمًا واحدًا، ثم نسخ الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل فأحاط علم سليمان بذلك دون داود- صلوات الله عليهما- فلهذا أضيف الفهم إليه دون داود، وهذا وإن كان بعيدًا من وجهين: أحدهما: أنه لو نسخ لأحاط علمه بذلك كما أحاط علم سليمان بذلك دون داود - صلوات الله عليهما - فلهذا الفهم إليه دون داود، وهذا وإن كان بعيدًا من وجهين: أحدهما: أنه لو نسخ لأحاط علمه بذلك كما أحاط علم سليمان بذلك لا سيما أنه صاحب الشريعة وأنه الأصل في نزول الوحي.
وثانيهما: أن في ذلك لا يوصف بالفهم فإن بلوغ النص إلى المكلف ليس من الفهم في شيء لكنه محتمل فعليكم إبطاله وهو سهل.
وثانيها: قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} وقوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وقوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} ولولا أن في محل الاستنباط حكمًا معينًا لما كان كذلك ولما نهى عن الاختلاف.
وهو ضعيف جدًا، أما الآية الأولى: فإن المراد منها تأويل المتشابهات أي ما هو المراد منها، وهو ليس مما نحن فيه في شيء وإن فرض ورود المتشابه في الحكم الشرعي، ثم الذى يؤكد أنه ليس المراد منه الحكم الشرعي أنه قال:{وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} والقضايا الاجتهادية لا عدم فيها.
وأيضًا: فإنه لا يستقيم قراءة من وقف على قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} إذ لا فائدة في إنزال نص شأنه ذلك في الحكم الشرعي بخلاف ما يتعلق بالأصول فإن فائدته الايمان والتصديق بمقتضاه على مراد الله تعالى.
وأما الآية الثانية فكذلك ببعض ما سبق.
وأيضًا: فإن الضمير في قوله: {لعلمه الذين يستنبطونه} راجع إلى المذكور في صدر الآية، وهو ليس حكمًا شرعيًا فليس فيها دلالة على
المطلوب ولئن سلمنا إمكان حملها على الأحكام الاجتهادية، لكن ليس فيهما دلالة على أن البعض من المجتهدين ليس بمصيب، بل لو كان فيهما دلالة على عدم إصابة أحد فإنما تدل على عدم إصابة من ليس من الراسخين في العلم، ومن ليس من أهل الاستنباط فيحمل ذلك في حق العوام، [إذ لا يمكن على بعض المجتهدين، إذ ليس البعض أولى من البعض فيحمل في حق العوام، دفعًا للتعطيل.
وأما الآية الثالثة فالمراد منها: النهى عن الاختلاف والتفرق في أصول الدين كالتوحيد والنبويات وغيرهما، وكما يطلب فيه القطع واليقين دون الظن بدليل إجماع الأمة على أن المجتهد مأمور باتباع ظنه، ومنهى عن مخالفته، وهو أمو بالاختلاف في المجتهدات ضرورة اختلاف الظنون فيها فإن اتحاد الظنون فيها مستحيل عادة.
وثالثها: قوله عليه السلام: " من اجتهد وأصاب فله أجواق ومن أخطا فله أجو واحلى "وهو صريح في أن المجتهد يخطئ ويصيب وهو على [قول]، تصويب الكل محال.
وفيه نظر أيضا؛ لأنا نمغ أن ذلك على قول تصويب الكل محال؛ لأن القول بالخطأ متصور أيضًا على قولنا: إن كل مجتهد مصيب؛ وذلك فيما لا يستفرغ الوسع في النظر في الاجتهاد، فإن كان ذلك مع العلم بالتقصير فهو مخطئ وآثم، وإن كان بدون العلم به فهو مخطئ غير آثم، فلعل هذه الصورة هي المراد من الحديث.
سلمنا عدم تصور الخطأ على القول بتصويب الكل، لكن لعل المراد من الحديث ما إذا كان في الواقعة نص أو قياس جلى والمجتهد طلب ذلك واستفرغ الوسع في ذلك فلم يجده وحكم في القضية بغيره فإنه مخطئ في هذه الصورة.
سلمنا عدم انحصار الخطأ في ذلك فلعل ذلك بناء على القول بالأشبه وحينئذ يحصل المطلوب.
ويمكن أن يجاب عن الأول: بأنه إذا علم بتقصيره فهو آثم فلم يمكن تنزيل الحديث عليه، وإذا لم يعلم ذلك فلا/ (312/ أ) نسلم أنه مخطئ عندهم؛ وهذا لأنه مهما كلب ظنه أنه غير مقصر في طلب الدليل ووجه الدلالة وطلب على ظنه أن الذى تمسك به دليل على الواقعة كان مصيبًا فإن مناط التكليف ليس إلا كلبه الظن.
وعن الثاني: أنه تخصيص فيكون على خلاف الأصل.
وعن الثالث: أن القول بالأشبه باطل على ما سيأتي تقريره.
سلمنا لكن المتبادر من الخطأ عدم مصادفة الواقع لا عدم مصادفة ما هو في تقدير الواقع فتنزيله عليه خلاف الأصل.
ورابعها: أن المجتهدين إذا حكما في الواقعة بحكمين متقابلين كالتحريم والوجوب مثلاً فإن لم يكن الحكمان بناء على الدليلين فهما مخطئان فلم
يكن كل مجتهد مصيبا، وإن كانا بناء على الدليلين فإن كانا متساويين فمقتضاهما التخيير أو الوقف فالجارم بالنفي أو الإثبات مخطئ فلم يكن كل مجتهد مصيبًا، وإن كان أحدهما راجحًا والآخر مرجوحًا فالتمسك بالراجح مصيب والآخر يكون مخطئا فلم يكن أيضا كل مجتهد مصيبا، وإن كان أحد الحكمين بناء على الدليل دون الآخر كان المتمسك بالدليل مصيبا دون الآخر فلم يكن أيضًا كل مجتهد مصيبًا فعلى كل التقادير لم يكن كل مجتهد مصيبًا.
وأورد الإمام هذا بطريقة أخرى وهى أن أحد المجتهدين إذا اعتقد رجحان الأمارة الدالة على العدم فنقول: أحد هذين الاعتقادين خطأ، والخطأ منهي عنه، فأحد هذين الاعتقادين منهي عنه.
بيان الأول: إن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو لا تكون، فإن كانت إحداهما راجحة على الأخرى كان اعتقاد رجحانه صوابًا واعتقاد رجحان الأمارة الأخرى خطا؛ ضرورة أنه غير مطابق؛ وإن لم تكن إحداهما راجحة على الأخرى كان كل من الاعتقادين خطأ ضرورة عدم مطابقتهما للمعتقد فعلى كل التقديرات لا يكون الاعتقادان مطابقين بل أحدهما يكون بخلاف المعتقد فثبت أن كل مجتهد ليس بمصيب بمعنى كون اعتقاده مطابقا للمعتقد وهذا إحدى صور الخلاف فإن اكتفينا به جاز، وان أردنا بيان أن الكل ليس بمصيب بمعنى أنهم ما أتوا ما كلفوا به قلنا: الدليل عليه: أن الاعتقاد الذى لا يكون مطابقًا للمعتقد جهل والجهل بإجماع الأمة غير مأمور به فثبت أيضًا أن الكل ليسوا بمصيبين بمعنى الإتيان بالمأمور به.
وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن هذين الاعتقادين خطأ.
قوله: أن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو لا تكون.
قلنا: تعنى به في نفس الأمر، أو في اعتقاد المجتهد؟
فإن/ (313/ أ) عنيت به الأول فممنوع، وهذا لأن الأدلة الظنية ليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها حتى تكون في نفس الأمر إحداهما راجحة على الأخرى أو لا تكون.
ولئن سلم ذلك لكن إنما يلزم أن يكون أحد الاعتقادين خطا أن لو اعتقد كل واحد منهما أن أمارته راجحة على الأخرى في الخارج، فأما إذا لم يعتقد ذلك بل بالنسبة إلى اعتقاده فلا.
وإن عنيت به الثاني فمسلم لكن لا نسلم أن إحداهما إذا لم تكن راجحة على الأخرى كان كل من الاعتقادين خطأ؛ وهذا لأنه يحتمل حينئذ أن تكون كل واحد منهما راجحة على الأخرى في اعتقاد كل من المجتهدين، وحينئذ يكون الاعتقادان مطابقين لحصول الرجحان في أمارة كل واحد منهما في اعتقاده؛ وهذا لأن الأدلة الظنية مما تختلف باختلاف الظنون فهي أمور إضافية غير حقيقية فجاز أن يكون كل منهما راجحا عند صاحبه.
وأما ما أجاب به عن هذا، وهو: أن الرجحان في الذهن إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج، أو أمرًا لا يثبت إلا معه لأنا نعلم بالضرورة أنا لو اعتقدنا في الشيء كون وجوده مساويًا لعدمه فمع هذا الاعتقاد يمتنع أن يكون اعتقاد وجوده راجحا على اعتقاد عدمه فضعيف.
أما أولاً: فلأنه لو كان الرجحان في الذهن نفس اعتقاده رجحانه في الخارج أو أمرًا لا ينفك عنه لما تصور وجوده بدونه لكنه يتصور فإن الإنسان قد يجزم برجحان الشيء في ذهنه مع عدم اعتقاد كونه راجحًا في الخارج، ولهذا
لو صرح بذلك لما عد مناقضا ومتهافتًا، فإنه لو قال: هذا راجح في ذهني ولا أدرى كونه راجحا في الخارج أم لا، لم يعد كلامه متهافتا ولا يوصف بالجهل عند عدم ظهور الرجحان في الخارج.
وأما ثانيًا: فلأنا لو سلمنا أن الرجحان في الاعتقاد لا يبقى مع اعتقاد كون وجود الشيء مساويًا لعدمه في الخارج لكن فيما له وجود في الخارج [فأما الشيء الذى لا وجود له في الخارج]، فلا يتصور فيه ذلك الاعتقاد فلا يمكن أن يقال فيه: أنه إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج أو أمرًا لا يثبت إلا معه، ورجحان الادلة الظنية أمر إضافي غير حقيقي كما تقدم فلا يتصور فيه ذلك.
وأما ثالثًا: فلأن كون الرجحان في الذهن لا يبقى "عند اعتقاد كون وجود الشيء مساويًا لعدمه لا يدل على أنه عيق اعتقاد الرجحان في الخارج أو أمر لا يثبت إلا معه؛ وهذا لأنه قد يعتقد وجود الشيء مع الذهول عن ضده فضلاً عن اعتقاد عدمه، مع أنه لا يبقى ذلك الاعتقاد عند اعتقاد وجوده.
سلمناه لكن الدليل إنما يدل على أن الاعتقادين فيما ذكره من الصورة ليسا بمطابقين للمعتقد بل لابد وأن يكون أحدهما خطا لكن لا يلزم منه إن كل مجتهد في الحكم الشرعي ليس بمصيب؛ لأن رجحان الإمارة ليس حكمًا شرعيًا، نعم يلزم من خطأ الطريق خطأ الحكم لكن من جهة الطريق لا بمعنى عدم مصادفة الحكم الواقع في نفس الأمر الذى فيه النزاع دون القائلين، فإن القائلين بأن كل مجتهد مصيب اتفقوا أيضًا على إمكان الخطأ في الحكم من جهة الطريق وذلك بان يقصر في الاجتهاد.
وخامسها: المجتهد مأمور بالحكم عند نزول الواقعة وفاقًا، فإما أن يكون ذلك بناء على طريق، أو لا يكون بناء على طريق، والثاني باطل، لأن
القول في الدين بمجرد التشهي باطل بالإجماع فيتعين أن يكون ذلك بناء على طريق، فذلك الطريق إن كان خاليا عن المعارض تعين الحكم بمقتضاه وفاقا فيكون المخالف لذلك مخطئا فلم يكن مجتهد مصيبا، وإن لم يكن خاليا عنه فذلك المعارض إن كان راجحا عليه وجب العمل بمقتضاه، لإجماع الأمة على وجوب العمل بالراجح فيكون مخالفه مخطئا، وإن لم يكن راجحا فإن كان هو راجح عليه تعين العمل به فيكون مخالفه مخطئا، وإن لم يكن منهما راجحا فهما حينئذ متعارضان متساويان وحكم ذلك إما التخيير، أو التساقط، والرجوع إلى غيرهما، وعلى التقدير فحكمه معين فمن حكم بخلاف ذلك كان مخطئًا فثبت أن المصيب واحد على كل التقادير.
وأما ما يقال: إن القول في الدين بمجرد التشهي باطل إذا كان هناك دليل، فأما إذا لم يكن هناك دليل فلا نسلم امتناعه فلم لا يجوز حيذ القول بمجود الحدس والتخمين ولا دليل في المسائل الاجتهادية، بدليل أنه لا إثم فيه ولا عقاب، ولو كان فيها دليل لكان مخالفه مستحقا له لما سبق أن مخاوف الأمر مستحق للعقاب فضعيف، لأنه إن عنى بالدليل ما يفيد القطع لم يلزم من عدمه جواز القول بالحدس والتخمين، لجواز أن يكون القول في الدين مشروطًا بما يفيد القطع أو الظن، وإن عنى به ما يفيد القطع أو الظن لم يلزم من مخالفته عقاب لأن من ترك الدليل الظني لدليل ظني آخر لم يستحق العقاب، ولو سلم أنه لا دليل في المسائل الاجتهادية بالمعنى الثاني لكن القول في الدين بمجرد الحدس والتخمين باطل بالإجماع سواء وجد هناك ما يفيد القطع أو الظن أو لم يوجد، واعلم أنه لا يخفى عليك الاعتراض على هذا الدليل مما سبق.
وسادسها: المجتهد مستدل بشيء على شيء، والاستدلال عبارة عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب، ومعلوم أن ذلك يستدعى وجود الدليل متقدمًا عليه، والدليل يستدعى وجود المدلول متقدما عليه بالرتبة؛ لأن [دلالة]، الدليل على المدلول نسبية بينهما، والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على ثبوت كل واحد منهما فوجود المدلول الذى هو المطلوب متقدم/ (314/ أ) على الاستدلال بمرتبتين والظن متأخر عنه لكونه أثره ونتيجته، فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن الذى هو متأخر عن الاستدلال الذى هو متأخر عق الدليل الذي هو متأخر عن المدلول لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب وهو ممتنع قطعا.
وسابعها: المجتهد طالب، والطالب لابد له من مطلوب متقدم في الوجود على وجود الطلب فلابد من ثبوت الحكم قبل الطلب، وإذا كان كذلك كلان مخالفه مخطئًا.
لا يقال. مطلوب المجتهد إنما هو غلبة الظن الذى يترتب عليه الحكم لا الحكم الثابت قبله، وهذا كما يقال لمن أراد ركوب البحر: إن غلب على ظنك السلامة جار لك الركوب وإلا حرم، فمطلوبة في هذه الصورة غلبة الظن بالسلامة ويترتب عليه حكم الله من جواز الركوب وحرمته لأنا نقول: ليس المطلوب كلبة الظن كيف ما كان وفاقًا بل الظن الذي يحصل بالنظر في الأمارة، وذلك يتوقف على وجود الأمارة المتوقف على وجود ما هي أمارة عليه فيكون غلبة الظن موقوفًا على وجود المدلول بمراتب فلو كان وجود المدلول موقوفًا على غلبة الظن لزم الدور.
واعلم أن حاصل هذا الدليل يرجع إلى الذى قبله وفيه نظر يعرف بالتأمل.
وثامنها: أن القول بتصويب المجتهدين يقتضى الجمع بين النقيضين وهو محال فما يفضي إليه فهو أيضًا محال.
بيان أنه يقتضى الجمع بين النقيضين لان [أحد]، المجتهدين إذا قال في المسالة بالحل والأخر بالحرمة فلا شك أن الحرمة مستلزمه لعدم الحل، فلو كانا القولان حقين في المسالة لزم ثبوت الحل وعدمه معا في المسألة وهو جمع بين النقيضين فكان ممتنعًا، وهو أيضًا ضعيف؟ لأنه إنما يلزم ذلك أن لو اتحدت النسبة وهو ممنوع؛ وهذا فإن الحل إنما هو ثابت فيها بالنسبة [إلى المجتهد الذى غلب على ظنه الحل، والحرمة بالنسبة إلى من غلب على ظنه الحرمة وإذا اختلفت النسبة] فلا يلزم ذلك، ألا ترى أن المرأة المعينة توصف بالحل بالنسبة إلى زوجها وبالحرمة بالنسبة إلى الأجنبي، وكذا القول في الميتة فإنها تحل للمضطر وتحرم على غيره، وليس هو من قبيل الجمع بين النقيضين وفاقًا فكذا ما نحن فيه.
وتاسعها: أن القول بتصويب الكل يفضى إلى وقوع منازعة لا يمكن قطعها، وهذا كما إذا أبان المجتهد روجته المجتهدة بقوله:"أنت بائن" ثم راجعها بناء على اجتهاده في أن الكنايات كلها رجعيات، والمرأة ترى ذلك من جملة البوائن بناء على اجتهادها أنه من جملة البوائن، فها هنا الزوج متمكن من مطالبتها بالوطء، والمرأة مأمورة بالامتناع فهذه منازعة لا يمكن قطعها، وكذلك إذا تزوج واحد امرأة بغير وليها ونكحها الأخر بعده بولي وتنازعا في
ذلك فلو قيل بتصويب المذهبين معًا لزم إما حل الزوجة للرجلين وهو محال، أو المنازعة التي لا يمكن قطعها، وإذا كان ذلك كان القول باطلاً؛ لأن المنازعة التي لا يمكن رفعها شرعًا محال فما أفض إليه فهو أيضا محال.
وهو ضعيف أيضًا؛ لأنه وارد على الخصم أيضًا، فإنه وإن لم يقل بتصويب الكل لكنه يوجب العمل على كل مجتهد بما يغلب على ظنه إذ المخطئ غير معين والجواب واحد على المذهبين، ولنذكرها هنا طريق فصل الخصومة بتقسيم يتضمن بيان حكمه وغيره ليعلم أن ذلك غير مختص بأحد المذهبين فنقول:
الواقعة النازلة بالمكلف إما نازلة بالمجتهد أو بغيره، وعلى التقديرين إما أن تكون مختصه به، أو لا تكون مختصه به بل تتعلق بغيره فهذه أقسام أربعة:
أحدها: أن تكون نازلة بالمجتهد، ومختصة به، وحكمه: أنه يجب أن يعمل بما يؤس إليه اجتهاده فإن استوت عنده الأمارات تخير بينهما أو يعاود الاجتهاد إلى أن يظهر الرجحان فيعمل به.
وثانيها: أن تكون نازلة به لكنها غير مختصة به بل هي متعلقة به وبغيره، وحكمه: أن يرجعا إلى حاكم يفصل بينهما، أو إلى محكم ومتى حكمًا بشيء لم يكن لهما الرجوع عنه، وإن كانت الواقعة فيما يجرى نيه الصلح، نحو التنازع في مال فيختص بزيادة جريان الصلح فيه.
وثالثها: أن تكون الواقعة نازلة بغير المجتهد وهى. مختصة، وحكمه: أن يستفتى ويعمل بما اتفق عليه فتاوى المفتين فإن اختلفوا في ذلك عمل
بفتوى الأعلم والأورع فإن استووا تخير بينهما.
ورابعها. أن تكون الواقعة متعلقة به وبغيره، وحكمه: كما تقدم في المجتهد من غير تفاوت وعند هذا ظهر أن الجواب واحد على المذهبين؛ لأن ما ذكرنا من طريق فصل الخصومة لا يختص بمذهب دون مذهب.
وعاشرهما: أنه لو كلان كل مجتهد مصيبا لم يكن لشرعية المناظرة فائدة؛ لأن فائدة المناظرة إنما هي تحقيق الحق ومعرفة الصواب ليستمر صاحبه عليه ويرجع الذاهب إلى نقيضه عليه، ويرجع حاصلة فتحصيلها تحصيل للحاصل، والثانية ممتنعة الحصول ألان الذاهب إلى نفيضه أيضًا محق ومصيب فلم يجردوه عنه فكانت الفائدة الثانية ممتنعة أصول، وهو ظاهر الضعف؛ لانا نمنع انحصار فائدة المناظرة فيما ذكروه بل لها فوائد أخر نحو: معرفة وجود الدليل القاطع، وانتقائه ليتفرع عليه جواز الاجتهاد وعدمه في تلك المسالة، ونحو معرفة حصول التراجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد وعدمه حتى لا يتوقف أو لا يتخير في محل الجزم أو يجزم في محل التوقف/ (315/ أ) والتخيير، ونحو معرفة الخطأ في طريق الاجتهاد فإن الخطأ في الطريق متصور على المذهبين، ونحو تشحيذ الخاطر والتمرين على طرق الاجتهاد.
وحادي عشرها: وهو الذى عول عليه بعضهم، أن الاصل عدم التصوب، والأصل في كل. مستحق دوامه، والاصل عدم الدليل على التصويب؛ لأن الأصل في الأشياء العدم لا سيما الدليل الذى يخالف الأصل
لاسيما بعد البحث والفحص عنه إذ تد ظهر ضعف أدلة المصوبة، وحينئذ يلزم القضاء بالبقاء على حكم الأصل، ولا يتأتى مثله في تصويب واحد غير معين؛ لأنه وجد الدليل عليه وهو الإجماع؛ لأن من قال: المصيب واحد لا بعينه فقد قال به، ومن قال: إن كل مجتهد مصيب فقد قال أيضًا بإصابة واحدة فكون الواحد مصيبا مجمع عليه، ثم ذلك الواحد إما معين وهو باطل بالإجماع، أو غير معين وهو المطلوب، أو نقول: إذا ثبت أن كون الواحد مصيبًا بالإجماع وجب أن يكون غير معين لئلا يلزم خلاف الاجماع، ولا إجماع على تصويب الكل بهذا الطريق فوجب بقاؤه على النفي الأصلي. واعلم أن التمسك بالأصل دليل عام في كل ما يدعى فيه النفي لكن إنما يتم بالقدح في دليل المثبت فلم يكن له تعلق بخصوصية المسالة.
وثاني عشرها: [التمسك]، بإجماع الصحابة، وتقويره: أن الصحابة - رضى الله عنهم- صرحوا بالتخطئة من غير نكير فيما بينهم وذلك يدل على إجماعهم على أن المصيب واحد بيان الأول: ما روى عن الصديق- رضي الله عنه أنه قال في الكلالة، (أقول فيها برأي إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، واستغفر الله).
وعن عمر- رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال له بعفن الحاضرين: هذا والله الحق.
ثم حكم بحكم آخر فقال الوجل هذا والله الحق فقال عمر له: إن عمو لا يعلم أنه أصاب الحق، لكنه لا يألوا جهدًا.
روى أنه قال: إن يكن خطا فمنه، لان يكن صوابًا فمن الله. وقال أيضًا
لكاتبه: (أكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمنه".
وقال أيضًا: (أخطا عمر وأصابت المرأة" قال في كله المرأة التي ردت عليه نهيه- رضى الله عنه- عن المغالاة في الصداق.
وقال على لعمر في قصة المجهضة: "إن لم يجتهد فقد غشك، وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة" وقال ابن مسعود- رضي الله عنه في المفوضة: (أقول فيها برأي فإن كان صوابًا فمن الله، لأن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان) ويقل أن جماعة من الصحابة خطأوا ابن عباس- رضي الله عنه في إنكار العول، وهو أيضًا خطأهم في إثباته فقال:(من باهلني باهلته إن الله تعالى لم يجعل في المال الواحد نصفًا ونصفًا وثلثًا، وهذان النصفان ذهبا بالمال فاين موضع الثلث).
وخطأ ابن عباس زيد بن ثابت في مسألة الجد مع الأخوة وقال: (ألا يتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا).
وأما أن ذلك كان من غير نكير فيما بينهم فلانه لو وجد الإنكار على ذلك لنقل وأشتهر، ولما لم ينقل ذلك ولم يشتهر علمنا أنه لم يوجد.
بيان الثاني ظاهر، فإنه لو كان كل منهم مصيبا لم يجز تخطئة بعضهم فكان يمتنع اتفاق الكل عليها فكان ذلك دالا على اتفاقهم على أن المصيب واحد، ولا يعارض هذا بأن هؤلاء الذين نقل عنهم التصريح بالتخطئة فقد نقل عنهم تولية المخالف في الدماء والفروج وتمكينه من الفتوى فيهما وترك البراءة عنه وتفسيقه كما سبق في حجج المصوبة؛ وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون تصويب الكل؛ لأن التخطئة مصرح بها، والتصويب مستدل عليه لو سلم الاستدلال فكان الأول أولى).
فإن قلت: إنما يصار إلى الترجيح إذا لم يمكن التوفيق بين الدليلين؛ وهذا لأن الترجيح يقتضي إعمال الراجح وترك المرجوح بالكلية، والتوفيق لا يقتضى ذلك بل يقتضى إعمالها ببعض الاعتبارات فكان أولى، وإذا كلان أولى لم يجز المصير إلى ما هو دون الأول مع إمكان المصير إلى الأولى، كما لا يجوز المصير إلى المرجوح مع وجود الراجح وهنا يمكن التوفيق، وهو أن تحمل التخطئة على ما إذا قصر المجتهد في الاجتهاد، أو لم يكن أهلا
للاجتهاد، أو أنه وإن كان أهلا وما قصر في الاجتهاد لكن وجد في المسألة نص قاطع، أو إجماع، أو قياس جلى، وهو بعد البحث التام والاستقصاء البالغ لم يجده وحكم بخلافه، وما ذكرنا من الدليل يحمل على ما إذا لم يوجد شيء من هذه الأمور وإذا أمكن هذا النوع من التوفيق لم يجز المصير إلى الترجيح لاستلزامه الترك بأحد الدليلين.
قلت: حمل تخطئة الصحابة بعضهم لبعض، أو لنفسه على ما ذكرتم من الصور الثلاث خلاف الظاهر.
أما الأول: فلأن الظاهر منهم عدم التقصير في الاجتهاد، بل المعهود منهم المبالغة التامة في ذلك حتى نقل عن بعضهم أنه كان يبقى في الاجتهاد في مسألة مدة مديدة، ويراجع نفسه فيها مرة بعد مرة مع المساءلة والمذاكرة مع الغير وطلب الاستعانة من الله تعالى، ومعلوم أن التقصير في ذلك من مثل هؤلاء بعيد غاية البعد وأما الثاني فغير ممكن لأنه لا يمكن إحالة التخطئة إلى عدم أهلي الاجتهاد لإجماع الأمة على أهليتهم للاجتهاد.
وأما الثالث فكذلك؛ لأن من الظاهر أن لا إجماع إذ ذاك من/ (316/ أ) غيرهم فإن كان هناك إجماع فهو منهم فيستحيل ذهولهم عنه.
وأما النص والقياس الجلي فالظاهر اطلاعهم عليهما لشدة بحثهم عن الأدلة الشرعية، ولكونهم نقلة الشريعة فمن البعيد أن يخفى عليهم لاسيما وقوع الحادثة واشتهارها فيما بينهم، فهذا ما أردنا أن نذكر من أدلة الفريقين في هذه المسألة.
فروع
الذين قالوا ليس في الواقعة حكم معين، اختلفوا في الأشبه على التفسير الذى تقدم ذكره، فمنهم من أثبته، ومنهم من نفاه، وهو الأظهر؛ لأن ذلك الأشبه إن كان هو العمل بأقوى الأمارات وهو موجود كان الأمر بالعمل به واردًا لإجماع الأمة على وجوب العمل بأقوى الأمارات، وحينئذ لا يكون ذلك قولاً بالأشبه إذ يعتبر فيه أن لا يكون هناك حكم بالفعل وعلى هذا التقدير يكون هناك حكم معين وهو العمل بأقوى الأمارات فلم يكن ذلك قولاً بالأشبه.
وإن كان غير موجودة لم يكن الأشبه- أيضًا- موجودًا؛ لأن الأشبه على هذا المدير هو العمل بأقوى الأمارات فإذا لم يكن أقوى الأمارات موجودًا لم يكن الأشبه موجودًا وإن لم يكن الأشبه هو العمل بأقوى الأمارات بل غيره فذلك الغير إن كان مصلحة العبد وقلنا: يجب على الله تعالى رعاية مصالح العباد وجب عليه التنصيص على ذلك الحكم ليتمكن المكلف من استيفاء تلك المصلحة، وحينئذ لا يكون ذلك قولاً بالأشبه.
وإن قلنا: انه لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح فجار أن لا. ينص على ذلك الحكم بل على غيره، وذلك يبطل قولنا: أنه تعالى لو نمى على الحكم لما نمى الا على ذلك الحكم.
وإن كان مفسدة العبد فهذا باطل؛ لأنه ليس في الأمة من يوجب على الله شيئا لمفسدة العبد. وإن كان ذلك الغير لا مصلحة العبد ولا مفسدته فهذا أيضًا باطل؛ لأن القول بالوجوب على الله تعالى مع أن ذلك الواجب ليس مصلحة العبد ولا مفسدته قول لم يقل به أحد ولأن ذلك إنما يمكن أن لو قيل بعدم وجوب رعاية المصالح على الله تعالى، وكل من قال بذلك قال أنه لا يتعين على الله تعالى أن يحكم على وجه معين بل له أن يحكم بحكم
المالكية كيف شاء وحينئذ يتعذر القول بتعين الأشبه.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك الغير [هو مصلحة العبد ونظام العالم، ورعاية المصالح وإن كانت غير] واجبة على الله تعالى لكن الله تعالى لم يشرع من الاحكام إلا ما فيه مصلحة العبد ونظام العالم تكريما وتفضيلاً منه على العبيد، فحينئذ لو نص لما نص إلا على ذلك الذى فيه مصلحة العبد ونظام العالم، فلم يجز أن ينص على غير ذلك الحكم نظرًا إلى ما أجرى به سنته وعادته.
واحتج من قال بالأشبه بالنص والمعقول:
أما النص فهو قوله- عليه السلام "من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد"، صرح بالتخطئة، وهذه التخطئة ليست لأجل مخالفة حكم واقع، لأنه قد تقدم في أدلة المصوبة أنه لا حكم في الواقع، فلابد وأن يكون لأجل كونه مخالفًا لحكم مقدر وهو الأشبه.
وجوابه: أنه قد تقدم ضعف تلك الأدلة فلا يبنى على مقتضاها شيء.
وأيضًا لا يليق بكرم الله تعالى ورحمته على عبيده أن يخطئهم بالعدول عما لم ينص عليه ولا أقام عليه دلالة ولا أمارة، ولا جعل على تلك علامة، وأن ينقص أجرهم بسبب ذلك فإن إصابة مثل هذا اتفاقي، ولا يجوز ورود التكليف للاتفاقيات.
وأما المعقول. فهو أن المجتهد طالب، وكل طلب فلابد وأن يكون له مطلوب، وإذ ليس مطلوب المجتهد واقعًا لما تقدم من الأدلة فهو إذن مقدر.
وجوابه. أن مطلوبة واقع وأما أدلتكم على نفيه فقد سبق ضعفها.
خاتمة
في نقض الحكم والاجتهاد
أطبق الكل على أنه لا يجوز نقض حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية؛ إذ لو جوز ذلك فإما أن يجوز من غير سبب وهو باطل قطعًا، أو بسبب وهو تغير الاجتهاد، أو بحكم حاكم آخر وهو أيضًا باطل، وإلا جاز نقض النقض، وكذا نقض نقض النقض إلى غير النهاية، إذ ليس البعض أولى بذلك من البعض الأخر وحيئذ فإما أن لا يجوز نقض شيء منها وهو المطلوب، أو يجوز نقض كلها وهو الملازمة لكن ذلك باطل؛ لأنه يلزم منه الاخلال بالمقصود الذى لأجله نصب الحاكم وهو فصل الخصومات، وقطع المنازعات، فإن على هذا التقدير لم تنفصل خصومة، ولا تنقطع منازعة، فإنه وإن حكم حاكم في قضية فالخصم الأخر يرفع خصمه إلى حاكم آخر [يرى خلافه، وإذا حكم ذاك بخلاف حكم الأول فخصمه الأول يرفعه إلى حاكم آخر] يرى خلاف ذلك فتبقى القضية متنازع فيها أبدًا، ومعلوم أن هذا مضاد مقصود نصب الحكام فكان باطلاً.
وإنما ينقض حكم الحاكم إذا وقع على خلاف النص القاطع، أو الإجماع، أو القياس الجلي، أما إذا وقع على خلاف غير ذلك من الأدلة الظنية نحو خبر الواحد وغيره فلا ينقض إلا في مواضع لقوة أدلتها وإن كانت ظنية.
ولو حكم حاكم على خلاف اجتهاده مقلدًا لمجتهد آخر فقد اتفق الكل على
إبطال حكمه، ولو كان الحاكم مقلدا لإمام وحكم بحكم مخالف مذهب إمامه لم يجز نقض حكمه إن رأينا صحة حكم المقلد لضرورة عدم المجتهد في زماننا وجوزنا للمقلد تقليد غير إمامه وإلا نقض.
وأما نقض الاجتهاد ففيه بحثان:
الأول: المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى حكم في حق نفسه، ثم/ (317/ أ) تغير اجتهاده، كما إذا أدى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ، فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده إلى أنه طلاق، فإن حكم حاكم قبل تغير اجتهاده بصحة ذلك النكاح بقى صحيحا لما سبق من أن حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية لا ينقض، وإن لم يحكم بها حاكم قبل تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده؛ لأنه حينئذ يكون مستديما لحرمة الاستمتاع بها نظرًا إلى اعتقاده.
الثاني إذا أفتى المجتهد على وفق اجتهاده للعامي فعمل العامي بذلك وبقي مستديمًا عليه، كما إذا أفتاه بجواز نكاح المختلعة ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده إلى أن الخلع طلاق، فإن حكم حاكم بصحة النكاح قبل تغير اجتهاده فالحكم ما سبق في حق المجتهد، وإن لم يحكم بها حاكم فقد اختلفوا فيه: والأظهر أنه يجب عليه تسريحها كما في المجتهد في حق نفسه، وكما لو قلد من ليس له أهلية الاجتهاد في القِبلة لمن له أهلية الاجتهاد فيها، ثم تغير اجتهاده إلى جهة أخرى في أثناء صلاة المقلد له فإنه يجب عليه أن يتحول إلى الجهة التي تغير اجتهاد متبوع إليها تنزيلاً له منزلة متبوعه، فإنه لو تغير اجتهاده في أثناء صلاته إلى جهة أخرى لوجب عليه أن يتحول إلى تلك الجهة.
ومنهم من لم يوجب ذلك لزعمه أنه يؤدى إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد
وهو ممتنع، ولأنه تغير اجتهاد المتبوع في صورة لم يكن المقلد مستديمًا عليه بل يعد فراغه عنه فإنه لم يلزمه تتبعه بالنقض فكذا إذا كان مستديمًا عليه وهما ضعيفان.
أما الأول: فلأن زوال ذلك الحكم ليس بالنقض بل لزوال شرطه بأن شرط جواز فعله والاستدامة عليه بقاء اجتهاده فإذا زال الحكم لزوال شرطه.
وأما الثاني: فلأن ذلك يفضي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهو ممتنع وهذه الظاهرة لا يمكن أن يقال فيه ما يقيل في صورة الاستدامة.