الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في تراجيح الأخبار
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
في ترجيح الخبر بكيفية السند
وهو بأنواع:
النوع الأول
الترجيح بكثرة الرواة، وعلو الإسناد، وورع الراوي وهو من وجوه:
أولهما: الترجيح بكثرة الرواة، وقد تقدم بيانه.
وثانيها: بعلو الإسناد، فإنه متى قلت الوسائط كان احتمال الكذب والخطأ والغلط والسهو والنسيان أقل، فيكون ظن صدقه أكثر فيكون أرجح، لأنه لا نعنى بكون الدليل أرجح إلا أن إفادته للظن أكثر فهو من هذا الوجه وإن كان أرجح، لكنه مرجوح من وجه آخر وهو عزة وجوده، فإن كان بحيث لا يعز وجود مثله فيكون راجحًا من غير معارضة عزة الوجود.
وثالثها: بكون راوي أحد الخبرين عدلاً، والآخر مستورًا، وهذا على رأي من يقبل رواية المستور دون من لا يقبلها.
ورابعاً: بكون راوي أحد الخبرين ظهرت عدالته بالاختبار، والأخر بالتزكية فإنه ليس الخبر كالعيان.
وخامسها: بكون عدالة راوي أحد الخبرين عرفت باختبار الصحبة الطويلة، والآخر بالصحبة القصيرة.
وسادسها: بكون عدالته ظهرت بتزكية جمع عظيم، والآخر بجمع قليل.
وسابعها: بكونه مشهورًا بالعدالة والثقة دون الأخر.
فإن عرفت عدالة راوي أحد الخبرين بالشهرة، والأخر بالاختبار فهو في محل النظر من حيث إن الظن الحاصل من الاختبار قد يكون أقوى من الاشتهار.
وثامنها: بكون عدالة راوي أحد الخبرين ظهرت بتزكية من كان أكثر بحثًا عن أحوال الناس، أو بتزكية الرجل الأعلم الأورع، وعدالة راوي الخبر الأخر ظهرت بتزكية من ليس كذلك.
وتاسعها: بكون عدالته عرفت بالتزكية مع ذكر أسباب العدالة دون الأخر.
وعاشرها: بكون راوية غير مبتدع، وهذا فيه نظر، لأن بدعته إذا كان بذهابه إلى أن الكذب كفر أو كبيرة كان ظن صدقه أكثر.
وحادي عشرها: تزكية الراوي بالعمل بما رواه راجحه على تزكيته بالرواية عنه أن جعلت الرواية عنه تزكية له، ومن هذا يعرف أنه إذا عمل أحد الروايين بما روى والأخر خالف ما روى كان ما روى الأول راجحًا (262/ أ)
على ما روى الثاني.
وثاني عشرها: تزكية العدل ذي المنصب العلى راجحه على تزكية من ليس كذلك لأن منصبه يمنعه من الكذب كما يمنعه دينه.
تنبيهان
أحدهما: أعلم أن واحدًا مما ذكرناه من التراجيح لو حصل في مرتبة من مراتب الرواية أعنى الابتداء والواسطة والدوام كان ذلك الخبر راجحًا على ما لم يحصل فيه ذلك المرجح".
وثانيهما: أنه قد يقع التعارض بين هذه المرجحات كما بين كثرة الرواة مثلاً وبين قوة عدالة الراوي وشهوتها، فرب عدل أقوى في النفس من عدلين فينبغي أن يعتمد المجتهد في ذلك على ما يغلب على ظنه، وكذلك إذا ظهرت عدالة راوي بتزكية جمع قليل لكن بخبرة باطنه، وعدالة الأخر بتزكية جمع كثير لكن لا في مثل تلك الخبرة الباطنة، فإن الأول ربما يغلب على ظن صدقه فليحكم المجتهد فيه وأمثاله ظنه.
النوع الثاني
الترجيح الحاصل بعلم الراوي وهو من وجوه:
أحدها: أن يكون أحد الراوين عالماً، سواء كان عالما بالفقه أو بالأصول، والآخر ليس بعالم، فرواية العالم راجحة سواء كانت الرواية باللفظ
أو بالمعنى خلافاً لقوم في الأول.
لنا: أن العالم يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز، فإذا سمع كلامًا لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدمته، وسبب نزوله، فحينئذ يطلع على الأمر الذى يزول به الإشكال، بخلاف من هو جاهل فإنه لا ينتبه لمحل الإشكال، ولا يبحث عنه، ولا يسأل عن مقدمته ولا عن سبب نزوله فينقل القدر الذى سمعه فربما كان ذلك القدر وحده سبب للضلال.
وثانيها: الأعلم إذا روى كانت روايته راجحة على رواية العالم، كما في الأورع بالنسبة إلى الورع.
وسببه: زيادة الثقة بخبوه وغلبة الظن بنفي خطئه وغلطه.
وثالثها: رواية العالم بالعربية أولى من رواية من هو جاهل بها، لافي العالم بها [يتمكن من التحفظ]، عن مواقع الزلل والخطأ، دون غير العالم بها فكان الوثوق بروايته أكثر.
ويحتمل أن يقال: هي مرجوحة، لأن الواقف على اللسان يعتمد على معرفته، ولا يبالغ في الحفظ اعتمادًا على خاطره، بخلاف الجاهل باللسان فإنه يكون خائفا من الذهول عنه والخطأ فيه فيبالغ في الحفظ.
فعلى الأول رواية الأعلم بها راجحة على رواية العالم بها كما مضى في الفقه.
وعلى الثاني روايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية العالم بها على قياس رواية الجاهل بها.
ورابعها: أن يكون أحد الراويين صاحب الواقعة فيما يرويه، فيكون خبره راجحًا على خبره من ليس كذلك.
وبهذا رجحت الصحابة- رضى الله عنهم- خبر عائشة- رضى الله عنها- في التقاء الختانين على خبر أبى هريرة: (الماء من الماء).
ورجح الشافعي- رضى الله عنه- خبر أبى رافع، على خبر
ابن عباس في تزويج ميمونة أنه عليه السلام نكحها وهو محرم، لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة.
وخامسها: أن يكون أحد الراويين أقرب إلى النبي- عليه السلام حالة سماعه الخبر الذى يرويه من الآخر فروايته راجحة على رواية الأخر مطلقًا، وهو كرواية ابن عمر إفراد النبي- عليه السلام بالحج، وكرواية الآخر القران، إذ روى أنه، رضى الله عنه- كان تحت ناقته- عليه السلام وأنه سمع احرامه بالإفراد.
وسادسها: أحد الراويين مخالطته للمحدثين أكثر، فروايته راجحة على
رواية من ليس كذلك وكميته ظاهرة.
وسابعها: أن يكون أحد الراوين حالة روايته عالما بروايته عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه، والآخر معتمد على نسخة سماعه فرواية الأول أولى.
وثامنها: أن يكون طويق أحد الراويين أقوى، وذلك بأن يروى ما يقل فيه اللبس كما إذا روى أنه شاهد زيدًا ببغداد وقت الظهر، والآخر روى أنه شاهده وقت السحو بالبصرة، فرواية الأول أولى لقلة الاشتباه واللبس فيه بخلاف رواية الثاني.
تنبيه
اعلم أنه قد يقع التعارض بين التراجيح الحاصلة من هذا النوع، وبين التراجيح الحاصلة من النوع الأول/ (263/ أ) فلا يجب القطع برجحان النوع الأول على الثاني بناء على أن الورع في هذا الباب أكثر اعتبارًا من العلم، بدليل أن فاقده لا تقبل روايته، وفاقد العلم إذا كان ورعا تقبل روايته، لأن الظنون قد تختلف إذ ذاك فينبغي أن يعتمد المجتهد في ذلك غلبة ظنه لا غير.
النوع الثالث
الترجيح الحاصل بسبب الحفظ والذكاء والضبط، والمعنى منه شدة تحفظه لما حفظ وهو من وجوه:-
أحدهما: رواية الحافظ [راجحة على رواية من ليس بحافظ.
وثانيها: رواية] الأحفظ راجحة على رواية من ليس كذلك [وسببها ظاهر].
وثالثها: [رواية الذكي راجحة على رواية من ليس كذلك].
ورابعها: رواية الأذكى راجحة على رواية الذكي لما تقدم.
وخامسها: رواية الضابط راجحة على رواية من ليس كذلك.
وسادسها: رواية الأضبط راجحة على رواية الضابط.
وسابعها: إذا كان أحدهما أسرع حفظًا، وأسرع نسيانًا، والأخر أبطأ حفظًا، وأبطأ نسيانًا، فهما متعارضان، ويحتمل أن يقال: الثاني أولى، لأن نسيانه بعد التحفظ بطيء، وهو إنما يروى بعد الحفظ فبقاؤه بعد الحفظ أغلب على الظن، ولأن الاستقراء يحققه فإن انتفاع صاحب هذا الطبع بما حفظ من العلوم أكثر من الانتفاع صاحب الطبع الأول لما حفظه منها، ولا يخفى أنه إذا كان أحدهما أسرع حفظًا وأشد ضبطًا، والأخر ليس كذلك بان يكون أبطأ حفظًا [وأقل ضبطًا، ومعناه أسرع نسيانًا، أو يكون أسرع حفظًا وأسرع نسيانًا، فإن رواية الأول راجحة على الكل، وأن رواية القسمين الأخيرين راجحة على رواية القسم الثالث، والكلام في القسمين الباقين ما تقدم.
والمراد من قلة الضبط وكثرة النسيان في هذه الأقسام: هو الذى لا يمنع من قبول الرواية على ما تقدم بيانه في كتاب الإخبار.
وثامنها: أن يكون أحدهما كثر حفظا لألفاظ الرسول، فإن روايته راجحة
على رواية من ليس كذلك، إذ الغالب فيما يرويه أن يكون لفظ الرسول والحجة في الحقيقة ليست إلا في لفظه- عليه السلام.
وتاسعها: أن يكون أحدهما أقوى حفظا لكلامه- عليه السلام فإن روايته راجحة على رواية من ليس كذلك.
وعاشرها. أن يكون أحد الراوين جازما فيما يرويه، والآخر ظانًا فيه فرواية الجا زم. أولى.
وحادي عشرها: أن يكون أحد الراوين قد اختلط عقله في بعض الأوقات أو جن ثم لا يدرى أنه روي هذا الخبر حال سلامة العقل، أو حال اختلاله، والآخر ليس كذلك بل لم يزل سليم العقل فرواية الثاني أولى.
وثاني عشرها: أن يكون أحد الراوين يعول على حفظه فيما يرويه، والآخر يعول على المكتوب، فرواية الأول أولى، وفيه احتمال من حيث إن النسيان والغلط يتطرق إلى المحفوظ كثيرًا بخلاف المكتوب، فإنه لا يخاف عليه إلا من جهة الالتباس بخط آخر فإن الخط يشبه الخط لكنه نادر فيكون ظن عدم التغيير أكثر لاسيما فيما لا غرض فيه.
النوع الرابع
الترجيح الحاصل من الاشتهار وهو من وجوه:
أحدها: أن يكون الراوي من كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة، لأن دينه كما يمنعه من الكذب، فكذا منصبه العالي يمنعه عنه ولذلك كان على- رضى الله عنه- يحلف الرواة، وكان يقبل رواية الصديق من غير تحليف.
وثانيها: رواية غير المدلس راجحة على رواية المدلس إن كان بحيث تقبل روايته، صالا فليس هو من باب الترجيح.
وثالثها: رواية من اشتهر باسم واحد راجحة على رواية ذي الاسمين، لاحتمال أنه مجروح بأحدهما.
ورابعها: معروف النسب روايته راجحة على رواية مجهول النسب. وخامسها: أن يكون في رواية أحد الخبرين رجال تلتبس أسماؤهم بأسماء قوم ضعفاء، ويصعب التمييز فيترجح على رواية الخبر الذى ليس كذلك.
النوع الخامس
الترجيح الراجع إلى زمان الرواية وتحمله الاسلام وهو من وجوه:
أحدها: إذا كان أحد الراوين مقدم الإسلام، فروايته راجحة على متأخر الإسلام، إذ صدقه أغلب على الظن لزيادة أصالته في الإسلام.
وثانيها: إذا كان أحد الراويين يحتمل أن يكون إسلامه متقدمًا (264/ أ) على راوي الخبر الأخر، ويحتمل أن يكون معه ولا يحتمل تأخر إسلامه عن إسلامه فرواية محتمل التقدم راجحة على رواية الآخر وكميته ظاهرة من نظائره.
وثالثها: إذا كان أحد الراويين روي في زمان الصبا، وغير زمان الصبا والآخر لم يرو إلا في زمان البلوغ، فرواية الثاني راجحة على رواية الأول.
ورابعها: إذا كان أحد الراوين قد تحمل الحديث في زمان الصبا وزمان البلوغ لكن لم يرو إلا في زمان البلوغ، والآخر لم يتحمل ولم يرو إلا في زمان البلوغ فرواية الثاني راجحة على رواية الأول.
وخامسها: من احتمل فيه هذان الوجهان كانت روايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يحملها.
وسادسها: من روى في حالة الكفر والإسلام فروايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يرو إلا في حالة الإسلام.
وسابعها: من تحمل في حال الكفر والإسلام لكن لم يرو إلا في حالة الإسلام فروايته مرجوحة بالنسبة إلى من لم يحتمل إلا في حالة الإسلام.
وثامنها: من احتمل فيه هذان الوجهان كانت روايته مرجوحة بالنسبة إلى من لم يحتملها، وعنده التعارض بين التراجيح الحاصلة في هذه الأنواع أو من الأنواع التي يأتي ذكرها ينبغي أن يحكم المجتهد ظنه، إذ التنصيص على جميعها مما يمتنع للتطويل البالغ إلى الغاية.