الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعلم أن هذا التضعيف ضعيف؛ لأن ما ذكره من الاحتمال وإن كان جائزًا لكنه غير واجب، والمنع لا يندفع بمجرد الاحتمال، بل لابد من الدلالة على أنه لا مشترك بينهما إلا نفس كونه مصلحة حتى يتحقق النقض ويمكن أن يورد الاعتراض على الجواب بحيث لا يرد عليه هذا التضعيف بأن يقال: إنه إن عنى بقوله: إنه لابد وأن يكون بين الأصل والفرع مقدار معين مشترك بينهما مقدارا وائدا على مسمى المصلحة بحيث لا ينتقض ممنوع، ولابد من الدلالة عليه.
وإن عنى به: نفس الاشتراك في مسمى المصلحة أو مقدارا زائدا على نفس مسمى المصلحة لكن ليس بحيث لا ينفك الحكم عنه لزم النقض المذكور ومعلوم أن هذا الكلام لا يرد عليه التضعيف المذكور.
المسألة الخامسة
ذهب جمع إلى جواز التعليل بالعدم ثبوتيا كان الحكم أو عدميا
.
ومنع قوم منه إذا كان الحكم ثبوتيا.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنه لا معنى للعلة إلا المعرف، على ما تقدم تقريره، وهو غير
مناف للعدم، فإن العدم قد يعرف وجود الحكم الثبوتى؛ فإن عدم امتثال العبد لأوامر سيده يعرفنا سخطه عليه، والحكم العدمى فإن عدم العلة يعرفنا عدم المعلوم وكذا عدم اللازم، وعدم الشرط يعرفنا عدم الملزوم وعدم المشروط، وإذا كان كذلك وجب أن يصح قيام العلية بالعدم كما بالموجود.
وثانيها: أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات، والدوران يفيد ظن العلية على ما تقدم تقريره، والعمل بالظن واجب، فيكون العمل بهذا القياس واجبا.
وثالثها: لو لم يجز أن يكون العدم علة، فأما لأن العلية ثبوتية ويستحيل قيام الصفة الثبوتية بما ليس بثابت، وهو باطل.
أما أولا: فلأن العلية ليست ثبوتية؛ وإلا فإن كانت واجبة لذاتها لم تفتقر إلى معروضها وموصوفها، أو كانت ممكنة/ (218/أ) لذاتها فتفتقر إلى مؤثر يؤثر فيها، والكلام في علية تلك العلة كالكلام في الأول ولزم التسلسل.
وأما ثانيا: فلأنها لو كانت وجودية فإن كانت قديمة، لزم امتناع قيامها بالمحدثات، ولزم أيضا قدم المعلول، وإن كانت محدثة لزم أن يكون لها موجدا، والكلام في عليته كالكلام في الأول ولزم التسلسل.
وأما ثالثا: فلأن العلية من الأمور النسبية والإضافية، وقد ثبت أنه لا وجود لها في الأعيان.
وأما رابعا: فلأن المخالف والعرف يساعدان على أنه يجوز أن يكون العدم علة العدم؛ إذ يجوز أن يقال: لم يعص أمره فلم يسخط عليه، ولم يره فلم
يسلم عليه، ولو كانت العلبة ثبوتية لاستحال قيامها بالعدم سواء كانت علة للعدم أو الثبوت، أو لأن العلية تقتضي التأثير والإيجاب وذلك في العدم لا يعقل فهو أيضا باطل لما سبق آنفا أنه لا معنى للعلة إلا لكونها معرفة للحكم، وقد عرفت أن ذلك جائز على العدم أو لمعنى آخر، وهو أيضا باطل؛ لأن الأصل عدمه، ولأن كل من قال بعدم جوازه فإنما قال به بناء على الاحتمالين المذكورين فالقول بفساده بناء على احتمال آخر قول مخالف للإجماع فكان باطلا، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل القول بعدم جوازه فوجب القول بصحته.
واحتج المانعون منه بوجوه:
أحدها: أن العلية ثبوتية، ضرورة أنها نقيض "اللا علية" المحمولة على العدم، والمحمول على العدم عدمي، وإلا لزم كون العدم موصوفا بالثبوت وهو يفضى إلى القول بالسفسطة. ومقتضى النفي ثبوت، فوجب أن تكون العلية ثبوتية، وإذا كان كذلك استحال اتصاف العدم بها.
وجوابه: أن الاستدلال بصورة النفي على الوجود يتوقف على العلم بأن ذلك المفهوم قبل دخول حرف النفي وجوديا، فإن بتقدير أن لا يعلم ذلك بل يجوز أن يكون عدميا، كان مفهومه حينئد بعد دخول حرف النفي وجوديا، ضرورة أن عدم العدم ثبوت وإذا كان كذلك كان العلم بكون ذلك المفهوم وجوديا قبل العلم بوجه دلالة صورة النفي على الوجود، فلو استدللنا بصورة النفي على الوجود لزم أن يكون العلم به حاصلا قبل العلم بالوجود؛ ضرورة أن العلم بالدليل وبدلالته قبل العلم بالمدلوم فيلزم الدور وهو ممتنع.
سلمنا صحة دلالته لكنه منقوض بالامتناع، والامتناع مع أنه ليس بوجودي قطعا.
سلمنا المقدمتين، لكنه منقوض بالعدم إذا كان علة العدم، فإن جميع ما ذكروا آت فيه مع أنه يجوز أن يكون العدم علة العدم وفاقا.
وثانيها: أنه يصح أن يقال: أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر؟ ولو لم يكن الحدوث متوقفا على وجود شيء لما صح هذا الكلام، كما لو قال:"أي رجل مات حتى مرض هذا" حيث لم يكن مرض المشار إليه متوقفا على موت رجل.
وجوابه: أنا لا نسلم أن صحته واستقامته بناء على خصوصية الوجود بل لعموم الحدوث، ألا ترى أنه لو قال: أي شيء حدث حتى حدث هذا الأمر، استقام الكلام أيضا، وحدوث الأمر يعم الوجود والعدم؛ ولهذا يصح أن يقال: أي شيء عدم مما كان حتى وجدها الأمر.
وثالثها: أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة بأي معنى كان وإلا لما صح الحكم عليها بكونها علة، والتمييز: عبارة عن كون واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا توجد خصوصيته في الآخر وإلا لما كان متميزا، لكن ذلك غير معقول في العدم لأنه نفى صرف وعدم محض.
وأيضا لو جاز وقوع التمييز فيه لجاز أن يكون ما نراه من المحسوسات المتميزة بعضها عن البعض إعداما صرفا؛ إذ لا طريق إلى العلم بوجودها إلا ذلك، ويلزم أيضا إنسداد باب إثبات الصانع تعالى؛ لأنه حينئذ يجوز أن يقال: المؤثر في العالم عدم صرف ونفي محض؛ لأنه حينئذ يجوز أن يتميز عن غيره بصفات مخصوصة كما هو على تقدير الوجود.
وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك غير معقول في الإعلام، وهذا لما سبق أن التمييز في الإعدام واقع؛ فإن عدم اللازم يتميز عن عدم الملزوم بكون ذلك يستلزم عدم الملزوم، وعدم الملزوم لا يستلزم ذلك، وكذا عدم أحد الضدين عن المحل يصحح حلول الضد الآخر فيه.
ولا نسلم أنه يلزم تجويز كون هذه المحسوسات إعداما؛ وهذا لأنا لا نقطع بوجودها بمجرد تميزها، بل تميزها بصفات محسوسة نحو الأكون، والألوان، ولا نسلم أنه يلزم انسداد باب إثبات الصانع؛ وهذا فإن مجرد التميز غير كاف في ذلك بل لا يصلح ذلك طريقا إلى العلم بالوجود، لما سبق، بل طريقه في حقه تعالى مشاهدة آثاره من مخلوقاته ومصنوعاته.
ورابعها: أن العدم لو كان علة لكان له نسبة مخصوصة، وإلا لم يكن باقتضاء حكم دون حكم، في وقت دون وقت أولى من العكس وحينئذ يلزم أن يكون العدم محل النسبة المخصوصة وهى وجودية؛ لأنها نقيض للانتساب الذى هو عدمي فيكون محل الصفة الوجودية فتكون موجودة فيلزم أن يكون العدم موجودا وهو محال.
وجوابه: ما سبق/ (219/أ) ولو سلم دلالة ما ذكره على ذلك لكنه معارض بما يدل على أن النسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان.
وخامسها: أن المجتهد يجب عليه سبر الأوصاف التى تصلح للعلية وفاقا، ولا يجب عليه سبر الأوصاف العدمية؛ لكونها غير متناهية فلا شيء من الأوصاف التي تصلح للعلية بعدمية.
وجوابه: منع المقدمة الثانية؛ وهذا فأنا لا نسلم أنه لا يجب عليه سبر ما يتخيل المناسبة فيه، أو الدوران، أو ما يقرب من العلية.
وسلمناه لكن ذلك لتعذره؛ لأن العدمات لما كانت غير متناهية تعذر سبرها.
وسادسها: العدم ليس من سعي الإنسان فلا يترتب عليه حكم لقوله تعالى} وأن ليس للإنسان إلا ما سعى {، لا يقال: هذا ينتقض بجميع المناهي، فإنا مكلفون فيها بالامتناع، ونثاب عليه، ويترتب عليه أحكام؛ لأنا نقول: قد ثبت أن ذلك تكليف بفعل الضد، لا بنفس أن لا تفعل الذى هو عدم محض بل ذلك يترتب عليه.
وأجيب عنه: بأنه لو كان كذلك لكان الممتنع عن الفعل فاعلا للفعل وهو محال.
وهو ضعيف؛
أما أولا: فلأنه مناقض لما اختاره هذا المجيب من أن متعلق التكليف في النهي إنما هو فعل الضد لا نفس أن لا تفعل، وأيضا لا محال في أن يكون الإنسان ممتنعا عن فعل ويكون فاعلا لفعل آخر، بل جوابه: أنه ليس من شرط ما يترتب عليه الحكم من العلل أن يكون من سعي الإنسان فإن كثيرا من العلل ليس من فعل الإنسان وسعيه، سلمناه لكن العدم الطارئ قد يكون من سعيه.
وسابعها: أن العلة في الأصل لابد وأن تكون بمعنى الباعث على ما تقدم تقريره، والباعث ما يكون محصلا للمصلحة أو تكميلها، أو دافعا للمفسدة أو تقليلها، فإذا كان الحكم ثابتا بخطاب التكليف لمثل هذا الغرض، فلابد وأن يكون ضابط ذلك الغرض مقدورا للمكلف إيجادا وإعداما، وإلا لما كان شرع ذلك الحكم مفيدا للغرض؛ لعدم إفضائه إلى الغرض المطلوب والعدم المحض لا انتساب له إلى الحكم. ومقصوده، فلا يكون مفضيا إلى المقصود من شرع الحكم فيمتنع التعليل به.
وجوابه: أنه إن عنى بالعدم المحض، العدم الأصلي الذي لا يخصص ولا تمييز فيه بوجه من الوجوه فمسلم أنه لا انتساب له إلى شيء لكن لا يلزم من نفي علته علية مطلق العدم الذي وقع النزاع فيه.
وإن عنى به أنه الذي يصدق عليه أنه لا شيء ولا ذات متقررة ولا ثابتة فممنوع أنه لا انتساب له إلى الحكم أو إلى غيره؛ وهذا لأن الأعدام المضافة ليست أشياء ولا ذوات متقررة مع أن لها انتسابا وإضافة.
سلمنا كل ما ذكرتم لكنه إنما ينفي تعليل حكم الأصل به دون تعليل حكم الفرع؛ فإنه لا يجب أن تكون العلة فيه بمعنى الباعث بل يجوز أن تكون بمعنى الأمارة.
تنبيه
التعليل بالوصف الإضافي جائز إن قيل بوجود الإضافات وإلا فينبني على جواز التعليل بالعدم، فإن جوز ذلك جاز هذا وإلا فلا، وأما أدلة كونها وجودية أو عدمية فقد عرفت في علم آخر.