الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسأله الثالثة
في شرائط المجتهد
أعلم أن المعتبر في ذلك أن يكون المكلف متمكنًا من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الشرعية، ولا تحصل له هذه المكنة إلا بأمور:
أحدها. أن يكون عارفًا بمعاني الألفاظ ومقتضياتها؟ لأنه لو لم يعرف ذلك لم يفهم منه شيئًا، ولما كان اللفظ قد يفيد معنى بحسب المطابقة، أو التضمن أو الالتزام، وكل واحد منهما إما بحسب الوضع اللغوي أو العرفي، أو الشرعي، وجب أن يعرف هذه الدلالات بهذه الاعتبارات، وكذلك يجب عليه أن يعوف سائر وجوه دلالات اللفظ كدلالة اقتضائه، وإشارته، وايمائه، ومفهومه المخالف، والموافق، وكذلك يجب عليه أن يعرف [ما يتعلق بها من أحكام هذه الدلالة نحو أن يعرف]، ما يجوز منها أن يجتمع صمع مع الأخرى، وما لا يجوز، وأن التي يجوز الاجتماع بينها يجب أن يحصل اللفظ عليها بأسرها عند تجرده عن القرينة المعينة لإحدى الدلالات منها.
وثانيها: أن يعرف من حال المخاطب أنه يعنى باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرد عق القرينة العينة، وإن كان معها قرينة مما تقتضيه القرينة؛ لأنه لولا ذلك لما حصل الوثوق بشيء من الأحكام، ولا بالخبر ولا بالوعد والوعيد، لجواز أن يقال: إنه عنى بالخطاب الذى يدل ظاهره على حكم أو خبر أو وعد أو وعيد غير ظاهره مع أنه لم ينبه عليه.
واختلفوا في طريق العلم إلى ذلك:
فقالت المعتزلة: إنما يعرف ذلك بحكمة المتكلم، أو بعصمته أما الأول فمبنى على أنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بغنائه عنه، ومتى كان كذلك يستحيل منه فعله لعدم الداعي إليه.
وأما أصحابنا لما لم يقولوا بالتحسين والتقبيح العقلي لم يمكنهم بناء ذلك عليه بل قالوا: إنا وإن جوزنا ذلك من الله تعالى بناء أنه لم يقبح شيء من الله تعالى بل كل شيء منه، لكن مع ذلك بأنه لم يقع فإن حسن الشيء لا يقتضى وقوعه، وهذا كما أنا نجوز انقلاب ماء الأدوية دمًا عبيطًا، وانقلاب الأحجار ذهبًا إبريزًار، وتولد الإنسان الشيخ من الأبوين دفعة، ومع ذلك فإنا نقطع بأنه لا يقع فكذا ما نحن فيه، فإنا وإن جوزنا من الله تعالى كل شيء، لكن الله تعالى خلق فينا علمًا ضروريًا بأنه لا يعنى من هذه الألفاظ إلا ظواهرها، فلذلك آمنا من وقوع التلبيس.
تنبيه
قد عرفت أن اللفظ إذا كان معه قرينة كان المراد منه ما تدل عليه القرينة فيجب على المجتهد أن يبحث عن القرينة إلى أن يغلب على الظن وجودها أو عدمها فيعمل بمقتضاها إن وجدها وإلا فيما يقتضيه اللفظ ظاهرًا.
ثم القرينة قد تكون سمعية، وقد تكون غير سمعية، وهى إما عقلية، أو حالية.
أما السمعية فهي تبين جواز ما يراد من اللفظ، وما لا يراد منه، وتبين أيضًا ما هو المراد منه، وما هو غير المراد منه بخلاف القرينة العقلية فإنها لا تبين إلا الجواز دون الوقوع.
ثم السمعية إما مخصصة، وإما معممة، والمخصصة إما مخصصة للأعيان وهو المسمى بالتخصيص، وإما للأزمان وهو المسمى بالنسخ. والمعممة/ (301، أ) هي التي تقتضي تعميم الخاص وهو القياس.
وأما القرينة الحالية فإنها تبين الوقوع دون الجواز إذ لا دلالة للأقوال على ما يجوز من الأحوال وما لا يجوز منها، نعم لها دلالة على الوقوع بسبب شهادة الحال ثم الدلائل السمعية [وقرائنها السمعية] والحالية قد تكون غائبة عن المجتهد، فلابد وأن يكون لنقلها إليه طريق وهى: إما الأحاد، أو التواتر، والأول يفيد الظن، والثاني يفيد القطع، لكن بشرائط [ولابد وأن يكون عارفا بشرائط] كل واحد من الطريقتين.
وثالثها: أن يكون عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وبطرق استنباطاتها [منها]، ووجوه دلالتها وشرائطها.
ثم قيل: مدارك الأحكام أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل فلابد من العلم بهذه الأربعة، ولابد معها من أربعة أخرى اثنان مقدمان، واثنان متممان، فهذه العلوم الثمانية لابد من بيانها، وبيان القدر الذى لابد للمجتهد من معرفته.
فأما كتاب الفه تعالى فلا يشترط معرفة جميعه، بل ما يتعلق منه بالأحكام، وهو خمسمائة آية، ولا يشترط حفظها، بل يكفى أن يكون عارفا بمواقعها حتى يطلب منها الآية التي يحتاج إليها عند نزول الواقعة.
وأما السنة فلا يشترط أيضًا معرفة جميعها، بل ما يتعلق منها بالأحكام وهي مع كثرتها مضبوطة في الكتب المصنفة في هذا الفن، ثم لا يشترط حفظها بل معرفة مواقعها حتى يطلب منها الحاجة إليها.
وأما الإجماع فينبغي أن يكون عالمًا بمواقعة، حتى لا يفتى بخلاف الإجماع، وطريق ذلك: أن لا يفتى إلا بشيء يوافق قول واحد من العلماء المتقدمين، أو يغلب على ظنه أنه واقعة وقعت في هذا العصر وليس فيها
خوض للمتقدمين.
وأما العقل، فيعرف البرامة الأصلية، ويعرف أنا مكلفون بالتمسك به ما دام لم يرد [دليل]، ناقل من النص، أو إجماع، أو غيرهما، فهذه هي العلوم المعتبرة بالمدارك الأربعة، وأعلم أن هذا ما ذكره الشيخ الغزالي، ونقله الامام عنه، ووافقه على ذلك، ولم يذكر فيه القياس، فإن كان ذلك باء على أنه متفرع [من الكتاب]، والسنة فالإجماع والعقل أيضًا كذلك، فكان يجب أن يذكرهما، وإن كان ذلك بناء على أنه ليس بمدرك فكونه حجة ينفي ذلك، بل هو أيضًا مدرك من المدارك فينبغي أيضًا أن يكون المجتهد عارفًا به، وبأنواعه، وأقسامه، وشرائطه المعتبرة والطرق الدالة على العلة فيه.
وأما العلمان المقدمان:
فأحدهما: علم شرائط الحد والبرهان، والعلم المتكفل ببيان ذلك هو المنطق، ولا يشترط في ذلك أن يكون بالغًا إلى الغاية القصوى، نحو أن يعرف نوادر الحد، وأن يعرف طرق الإنتاجات البعيدة من المتصلات، والمنفصلات، والمختلطات، بل يكفي أن يكون في المرتبة الوسطى من ذلك.
وثانيهما: معرفة النحو واللغة والتصريف، [لأن شرعنا]، عربي فلا يمكن التوصل إليه إلا بفهم كلام العرب، وقد تقدم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يشترط في ذلك أن يكون بالغًا إلى حد
الأصمعي، والخليل، وسيبويه، بل يكفى في ذلك أن يكون عارفًا بأوضاع العرب بحيث يميز العبارة الصحيحة عن الفاسدة، والراجحة عن المرجوحة، فإنه يجب حمل كلام الله وكلام رسوله على ما هو الراجح لأن كان عكسه مرجوحًا جائزًا في كلام العرب، وبحيث يميز بين دلالة المطابقة، والتضمين، والالتزام، وبين المفرد والمركب وسائر الاقسام التي ذكرناها في اللغات.
وأما المتممان:
فأحدهما: يعم الكتاب والسنة وهو علم الناسخ والمنسوخ، وأسباب
النزول في النصوص الأحكامية.
وثانيهما: مختص بالسنة وهو علم الجرح والتعديل، ومعرفة أحوال الرجال، ومعرفة الصحيح منها عن غيره من المطعون والمردود وغيرهما، ولا يشترط في ذلك أن يعرف ذلك بالنظر، والاختبار، والتواتر فإن كل ذلك متعذر أو متعسر في الذين درجوا، وطالت مدتهم، وكثرة الوسائط بيننا وبينهم بل يكفى في ذلك أن يعرف بالتقليد بتقليد الائمة الذين اتفق الخلق على عدالتهم/ (302/ أ) كالإمام أحمد، وصاحبي الصحيحين مسلم والبخاري وأمثالهم- رحمهم الله تعالى-.
ولا يشترط معرفة علم الكلام بل يكفى أن يعرف منه ما يصح به إسلامه كوجود الرب تعالى وتوحيده، وكونه عالمًا بكل المعلومات، وقادرًا على كل المقدورات، وكونه حيًا مؤيدًا، وما يتوقف عليه صحة التكليف ككونه متكلمًا آمرًا وناهيًا، ولا يشترط معرفة هذه الأشياء بالدليل والبرهان بل يكفي فيه التقليد لأنه يصح إسلام المقلد على الأصح، ويصح منه الاستدلال بالأدلة الشرعية إذ ذاك ولا يعتبر فيه سوى الإسلام، والتمكن من استنباط الأحكام
عن الأدلة وهو حاصل إذ ذاك.
وأما تفاريع الفقه فغير معتبر معرفتها؛ لأن هذه التفاريع فرع الاجتهاد، فلو اعتبرت معرفتها فيه لزم اشتراط الفرع في الأصل وأنه دور.
واعلم أن الإنسان كلما كان أكمل في معرفة أصول الفقه كان منصبه أتم وأعلى في الاجتهاد، لأنه قد ظهر مما تقدم ذكره أن أهم العلوم في الاجتهاد إنما هو علم أصول الفقه، وإذا كان الانسان فيه أكمل لزم منه أن يكون منصبه في الاستدلال والاجتهاد أتم وأعلى، ثم ضبط القدر الذي لا تحصل صنعة الاجتهاد بدونه كالأمر المتعذر، وإنما يتبين القدر المعتبر منه فيه بنوع من التقريب وهو الذى تقدمت الاشارة إليه.