الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين".
فأما ما روى عن عمر- رضى الله عنه- أنه قضى في مسألة الحمارية بحكمين، وقال:(ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضى) فيجوز أن يكون ذلك من باب تغير الاجتهاد بأن ظن في المرة الأولى قوة إحدى الأمارتين وفى المرة الثانية ظن قوة الأمارة الأخرى.
المسألة الثالثة
المجتهد إذا نقل عنه قولان كالوجوب والتحريم مثلاً
، فإن كانا في مسألتين مختلفتين كالوجوب في العبادات، والتحريم في المعاملات، أو كانا في مسالة واحدة لكن بالنسبة إلى حكمين مختلفين لا منافاة بينهما كالتحريم، ووجوب الحد كما في الزنا والسرقة/ (252/ أ) والقذف، أو كانا في فعلين متضادين على سبيل البدلية كوجوب غسل الرجلين ووجوب مسحهما، أو غير متضادين كوجوب الوضوء وتحريم استعمال الماء المغصوب فكل ذلك جائز بالاتفاق وهو ظاهر لا غبار عديه، وإنما النزاع في أنه هل يجوز أن يصدر عنه قولان في حكمين متنافيين على سبيل البدلية في شيء واحد، في وقت واحد من غير أن
يرجح أحدهما على الأخر أم لا؟
فمن جوز تعادل الأمارتين جوز ذلك، ومن لم يجوز ذلك لم يجوز هذا.
فإن قلت: التعادل الذهني جائز وفاقا فهلا - جوز - ذلك بناء عليه.
قلت. حكمه إذ ذاك التوقف، أو التساقط والرجوع إلى غيرهما، وأما التخيير فبعيد لعلمه بأن أحدهما راجح قطعا ويجب العمل به دون المرجوح، فإنه لا يجوز العمل به، وإن جوز التخيير حينئذ فهو قول واحد وهو التخيير وليس هو قولن متنافيين فلم يجز تخريجه على التعادل الذهني، والتخيير بينهما حينئذ بعيد وإن نقله بعضهم.
إذا عرفت هذا فنقول: المجتهد إذا نقل له قولان في مسالة واحدة بالنسبة إلى حكمين متنافيين، فأما أن يكون القولان منصوصين، أو لا يكونا منصوصين.
فإن كان الأول إما أن يكونا في موضعين بأن ينص في كتاب بتحريم الشيء، وفى كتاب آخر بتحليله أو في موضع واحد.
فإن كلان الأول فإما أن يعلم التاريخ بينهما أو لا يعلم.
فإن علم كان الثاني رجوعا عن الأول ظاهرًا.
وإنما قلنا ظاهرًا؛ لأنه يحتمل أن يكون القول هو الأول هو الراجح عنده، وإنما أبدى الثاني على وجه الاحتمال، أي: أنه محتمل في الجملة في المسالة وإن كان مرجوحا عنده بالنسبة إلى القول الأول.
وإن لم يعلم التاريخ حكى عنه القولان، ولا يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه، وإن علم أن أحدهما مرجوع عنه لا بعينه ظاهرًا، ولا يخفى
عليك أنه لا يجوز العمل بأحدهما إذ ذاك قبل التبين.
وإن كانا في موضع واحد بان يقول. في المسألة قولان، فإن ذكر عقيب ذلك ما يشعر بتقوية أحدهما نحو أن يقول: هذا أشبه، أو هذا أمثل، أو هذا أوفق، أو ما يجرى مجراها، أو يفرع على أحدهما دون الآخر فهو قوله؛ لأن قول المجتهد ليس إلا ما يترجح عنده.
وإن لم يذكر شيئا من ذلك فإن ذكر القولين في معرض الحكاية لأقوال الغير فلا يكون القولان قولين له بل ذكرهما على سبيل الحكاية ليرجح أحدهما الناظر في المسالة، وإن لم يذكرهما في معرض الحكاية فيكون القولان له ظاهرًا.
فمن لم يجوز تعادل الأمارتين لم يجوز هذا، ومن جوز ذلك جوز هذا لاحتمال صدور القولين عن الأمارتين المتساويتين، ثم من الظاهر أنه ليس مضمونهما معا حقي عنده،، فإن اعتقاد التحريم والوجوب مثلاً معا محال بل ذلك على سبيل البدلية فليس له في المسالة قولان بل قول واحد.
ومنهم من زعم أن له قولين وحكمهما التخيير، وهو ضعيف؛ لأنا لو سلمنا القول به مع أن ميه كلاما فهو قول واحد لا قولين متنافيين، فإن من خير بين خصال الكفارة لا يقال: إن له في الكفارة أقوالا، بل الحق أن ذلك يدل على تردده في المسالة وتوقفه في حكمها وليس للمتردد والشاك في المسالة قول فضلاً عن أن يكون له فيها قولان، ولا يجوز أن ينسب إليه القولان على سبيل الحقيقة؛ لأن قول الإنسان على سبيل الحقيقة هو ما يقول به، وقد ظهر أنه لا يجوز أن يقول بهما ولا بأحدهما عبثا بل على سبيل البدلية، والذى يقال في مثل هذا: إن لفلان قولين في المسالة فهو على سبيل التجوز
من حيث إنه يقول بهذين الاحتمالين في المسألة على سبيل البدلية لوجدان دليلهما المتساويين دون سائر الاحتمالات.
وإن لم يكونا منصوصين فإما أن يكون أحدهما منصوصًا والأخر منقولاً من نظيره المنصوص عليه وهو كالب ما يقع من هذا الجنس، أو كلاهما منقولين من مسألتين منصوصتين هما نظير في المنقول إليها في وجه معتبر.
فإن كان الأول فإن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يلزم أن يكون قوله في تلك المسالة قولاً في هذه المسالة؛ لاحتمال أنه ذهب إلى ذلك الفرق فلم يجز نسبة ذلك القول إليه في هذه المسألة، وكذلك القول فيما إذا كان القولان منقولين من مسألتين منصوصتين.
وإن لم يكن بينهما فرق أصلاً فالظاهر أن قوله في إحدى المسألتين قوله في الأخرى، وإنما قلنا الظاهر؛ لأنه جاز أن نص عليها عند الذهول من نظيره تلك المسألة فلم يمكن أن يقال إن ذلك القول قوله؛ لأن قول الإنسان في الشيء يستدعي أن يكون الشيء معقولاً له، نعم هو لازم قوله لكن لازم القول قد لا يكون قول الإنسان بمعنى أنه يقول به ويرتضيه، وحينئذ إما أن يكون التاريخ معلومًا أو لم يكن والحكم على كل واحد/ (253/ أ) من التقديرين ما سبق في القولين المنصوصين.
فأما الأقوال المحكية عن الشافعي- رضى الله عنه- في المسألة الواحدة فهو يحتمل وجوها:
أحدها: وهو الأكثر أنه قد نص على حكم في كتبه القديمة، وفى كتبه الجديدة نص على حكم آخر، والناس نقلوهما من غير تعرض لبيان القديم والجديد للاطلاع على مأخذيهما لا للإفتاء، فإن الجديد ناسخ للقديم فلا يحل الإفتاء به، اللهم إلا إذا نص على رجحانه على الجديد.
ولا يخفى على من له أدنى فطانة أن هذا يدل على علو شانه في العلم والورع.
أما الأول: فلأن ذلك يدل على أنه كان في طول عمره مشتغلاً بالطلب والبحث والنظر في أدلة الأحكام، وإلا لما عثر على الأكثر على أدلة أقوى من الأدلة الأولى.
ولا يحال ذلك إلى اختلاف الاجتهاد مع اتحاد الدليل حتى يقال: إن ذلك يدل على ضعف نظره أولاً؛ لأن صلاحية الدليل الواحد للدلالة على الحكمين المتنافيين في شيء واحد في غاية الندور ولا يجوز إحالة الأكثر إليه، ولو سلم ذلك فذلك أيضا يدل على علو شأنه في العلم إذ يدل على أنه كان [مشتغلاً بالعلم طول عمره، من حيث إنه كان باحثًا عن الأدلة، وعن وجوه دلالتها طول عمره حتى كان يظهر له وجه بعد وجه.
وأما الثاني: فلأنه يدل على أنه كان، متبعًا للحق دائرًا معه حيث دار؛ لأنه متى لاح له حقية شيء، بوجه معتبر أقوى من الوجه الأول اتبعه وأظهره، وأنه ما كان يتعصب لنصرة قوله، وترويج مذهبه، بل كان منتهى أمله وطلبه اتباع الحق وإرشاد الخلق إليه.
وثانيها: أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد، وفص على الترجيح، كقوله في بعض ما ذكر فيه قولن: أن هذا أصح، أو أولى، أو أشبه، أو أقيس، أو بهذا أقول.
أو نته عليه كما إذا فرع على أحد القولين دون الآخر فإن ذلك يدل على أن الذى فرع عليه أقوى عنده، أو كما إذا ذكر أحد القولين أولاً أو ما يشبه ذلك، ثم أن الناقل نقل القولين فقط فلم يذكر ما ذكره من الترجيح، إما لعدم اطلاعه عليه لكونه مذكورًا في آخر كلامه وهو لم ينته إليه، أو وإن كان
قد انتهى إليه لكن لم يتنبه له للملالة أو غيرها، أو وإن تنبه له لكنه لم يذكره اختصارًا للمصنف ولعل هذا هو السبب الأكثر في هذا الباب.
وثالثها: أنه وإن ذكر في المسألة الواحدة قولن في وقت واحد، لكن لم يقل: قولان لي، بل قال: فيها قولان، فلعل القولين لغيره وإنما ذكرهما في كتابه على سبيل الحكاية كما تقدم ذكره ليطلع فيه عليهما وعلى مأخذهما، وإيضاح القول في كل واحد منهما وعليهما.
وأيضًا فإنه قد يلوح للإنسان ما ينوى أحد ذينك القولين لكن لا يمكنه القول به لظنه أنه قول حادث، خارق للإجماع، فإذا نقل القولين عرف أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع، ثم أن الناقل ذكر القولين ونسبهما إليه- رضى الله عنه- لظنه كذلك فهذا لا يكون عيبا على الإمام الشافعي- رضى الله عنه- بل على الناقل حيث جزم بالنسبة إليه مع احتمال أن لا يكون كذلك.
وأيضًا: فإنه يحتمل أن يكون المراد من القولين: الاحتمالين وإنما سماهما قوفي وذكرهما دون ما عماهما من الاحتمالات، لانهما بحيث يمكن القول بهما دون ما عداهما من الاحتمالات فإنه قد يكون ظاهر البطلان.
فأما الاحتمالان المذكوران فإنهما قويان، بحيث يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة، ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق بالنظر الدقيق فلا جرم أفردهما بالذكر، دون سائر الاحتمالات الممكنة في المسالة. فالحاصل أن تسميتها قولين مجاز باعتبار الصلاحية والصيرورة أي أنهما صالحان لان يكونا قولن وأنهما يمكن أن يصيرا قولين وهو أحد أسباب المجاز القوية.
ورابعها: أن ينص على القولين من غير أن يرجح أحدهما على الأخر بناء على تساوى أمارتيهما إما في ذهنه أو في الخارج إن جوز ذلك ولم يوجد
من الإمام الشافعي رضي الله عنه قولان على هذا الوجه أعنى من غير ترجيح منه لأحدهما إلا في سبعة عشر مسالة على ما ينقل ذلك عن الشيخ أبى حامد الإسفراييني - رحمة الله تعالى.
وهذا أيضًا يدل على كمال علمه ودينه.
أما الأول: فلأن كل من كان أغوص نظرًا، وأدق فكرًا، وأكثر إحاطة بالأصول والفروع، وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات عنده أكثر.
فأما الإصرار على الوجه الواحد طول العمر وعدم التردد بين محتملات المسالة في المسائل الظنية، والمباحثات الغير يقينية فذلك لا يكون إلا من جمود الطبع، وقلة الفطنة، وكلال القريحة، وعدم الاحاطة بشرائط الأدلة والاستدلال، وعدم الوقوف على الأسئلة القادحة، والاعتراضات المنقدحة.
وأما الثاني فمن وجهين:
أحدهما: أنه لما لم يظهر له في المسألة وجه الرجحان بين محتمليهما لم يستنكف من/ (254/ أ) الاعتراف بعدم العلم، ولم يشتغل بالترويج والمداهنة، بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه، ومعلوم أن مثل هذا لا يصدر إلا عن الدين المتين، ولهذا عد المسلمون وأئمة الدين من فضائل عمر- رضي
الله عنه- ومناقبه ما روى عنه من اعترافه بعدم العلم في كثير من المسائل. وثانيهما: أنه لم يقل ابتداء، إني لا أعرف هذه المسائل حتى لا يحمل ذلك على تقصيره في طلب أدلته ومرجحاته بل بين حكمها لكن تردد بين احتمالين فيها لكونه وجد المسألة واقعة بين الأصلين، دائرة بين الدلالتين القويتين، فبين وجه وقوعها بينهما، وكيفية مشابهتها لهما، وترددها بين تينك الدلالتين القويتين، ثم لما لم يظهر له الرجحان تركها على تلك الحالة ليكون ذلك باعثا له على الفكر بعد ذلك وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح، ولا يخفى أن هذا هو اللائق بالدين المتن، والعقل الرزين.
فظهر من هذا أن ترديد القولين أو الأقوال في المسألة ليس عيبًا ولا تقصيرًا في الاجتهاد كما اعتقده بعض المتعصبين بل هو من الفضائل العلية والمناقب السنية كما تقدم تقريره.
القاطعين لزم حصول مدلوليهما وهو جمع بين المتنافيين وهو ممتنع.
واختلفوا في تعادل الأمارتين:- فمنعه الإمام أحمد، والكرخي، وجمع من فقهائنا.
وجوزه الباقون من الفقهاء، والمتكلمين.
وهؤلاء اختلفوا في حكيمه عند وقوعه على ثلاثة مذاهب:-
أحدها: أن حكمه له التخيير، وهو اختبار القاض أبى بكر، وأبى على، وأبى هاشم.
وثانيها: أن حكمه التساقط، ويجب الرجوع في ذلك إلى غيرهما، وهو البراعة الاصلية، وهو مذهب أكثر الفقهاء منهم.