الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الأمر]، الذي جعل علة الحكم في الأصل في أحد القياسين معلوما وفى الآخر مظنونا كان الأول أولى لما ثبت أن القياس الذى بعض مقدماته معلوم راجح على ما يكون كل مقدماته مظنونًا.
المسألة الثالثة
في ترجيح القياس بسبب الدليل الدال على علية الوصف في الأصل
وهو
من وجوه:
أحدها: ما نص على عليته كقوله: علة الحكم هذا، أو ثبت الحكم لعلة هذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا فهو مقدم على كل ما عداه من الطرق الدالة على علية الوصف عقليًا كان أو نقليًا، لأنه نص في الباب لا يحتمل النقيض فكان أولى.
وثانيها: ما نص على علته بألفاظ ظاهرة في إفادة العلية، كاللام، وإن، والباء، فهو مقدم على غيره من الطرق العقلية "والنقلية سوى. طريقة النص لأنه ظاهر جدًا في العلية، ثم اللام منها مقدم على الباء، لأن؛ لأنه أظهر منهما في التعليل؛ لأن الباء قد تكون للإلصاق وقد تفيد كونه محكومًا به كقولك: أنا أقضى بالظاهر، وغير ذلك من المحامل التي تقدم ذكرها في اللغات، وإن للتأكيد وهي قليلة الاستعمال في التعليل بخلاف اللام فإنها كثيرة الاستعمال في التعليل قليلة المحامل في غير التعليل فكان أولى منهما، ثم الباء مقدم على إن، لكونها كثر استعمالا في التعليل من إن للاستقراء
وثالثها: الأظهر أن الإيماءات راجحة على الطرق العقلية عند من لا يشترط المناسبة في الوصف المومى إليه، وأما من يشترط ذلك فالذي يليق بمذهبه أنه يرجح بعض الطرق العقلية عليها كالمناسبة لأنها تستقل بإثبات العلية بخلاف الإيماء، فإنه لا يستقل بذلك بدونها فكانت أولى.
ونقل الإمام اتفاق الجمهور على أن ما ظهرت عليته بالإيماء، راجح على ما ظهرت عليته بالطرق العقلية مطلقًا من غير فصل، ثم قال: وفى هذا نظر، ذلك لأن الإيماء [لما]، لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية فلابد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ، ولما بحثنا ولم نجد شيئا يدل على عليته إلا أحد أمور ثلاثة: المناسبة، والدوران، والسبر على ما مر شرح ذلك في باب الإيماءات.
وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق الثلاثة كانت هي الأصل، والأصل لا محالة أقوى من الفرع، فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات.
وهو ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن ما ذكره هو من الدليل وهو استقباح أهل العرف قول القائل: كرم الجاهل، وأهن العالم على أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية دليل آخر غير هذه الثلاثة فلم يلزم افتقار دلالة الإيماءات إلى الطرق الثلاثة لا محالة فلا يلزم كون الطرق العقلية أصلاً لها فلا يلزم رجحان الطرق العقلية عليها.
وثانيهما: أنه اختار أنه لا يشترط في الوصف المومى إليه المناسبة ولا في
غيره من وجوه الإيماءات ولم يشترط فيه الدوران والسبر وفاقا، فجاز أن توجد عليته بدون هذه الطرق الثلاثة فلم يستقم قوله: لم نجد شيئا يدل على عليته سوى أحد الثلاثة المذكورة.
رابعها: أن فرعنا على عدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه فلا شك أن الوصف المومى إليه إذا كلان مناسبا فهو راجح على ما لا يكون مناسبا للانتقال عليه، ولإجماع الطريقتين المستقلتين فيه.
وخامسها: إيماء الدلالة اليقينية راجحة على إيماء الدلالة الظنية، لما سبق أن الدليل الذى بعض مقدماته يقيني، والبعض ظني راجح على ما يكون كل مقدماته ظنيا، وأما إذا ثبت علية الوصفين بإيماء الدليلين الظنين فأي ما كلان منهما راجحا على الأخر راجح على إيماء الآخر وقد عرفت ذلك فيما سبق من الكلام في ترجيح النصوص الظنية.
وسادسها: الإيماء الذى يلزم من ترك العمل به العبث والحشو في الكلام أولى من غيره نحو ما رتب فيه الحكم على الوصف بغاء التعقيب، لأنه يلزم منه العبث والإلغاء في كلام الشارع وهو أشد محذورًا من غيره، وبالجملة الكلام في ترجيح وجوه الإيماءات باسرها بعضها على بعض يطول، لأنها أقسام عديدة تندرج تحت كل واحد منها أقسام كثيرة، وقد سبق الكلام في بعض أقسامها في فصل الإيماء وهنا فلا يخفى الكلام في الباقي منها بعد الإحاطة بما سبق.
وسابعها: ما دل على عليته المناسبة فهو أولى من الذى دل على عليته الدوران.
وقال قوم: ما دل على عليته الدوران فهو أولى، وعبروا عنه: بان العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك.
لنا وجهان:
أحدهما: أن المناسبة علة لعلية العلة، فتأثير العلة في الحكم لمناسبتها وليس الدوران كذلك.
أما أولاً: فلان الدوران أمارة العلية لا نفس ما به العلية.
وأما ثانيًا: فلان الدوران ليس من لوارم العلية، لأن العلة إذا كانت أخص
من المعلول كانت العلة منفكة عن الدوران العدمي وإن كانت غير منفكة عن الدوران الوجودي، وإذا كانت موجودة مع المانع كانت منفكة عن الدورانين أعنى الدوران الوجودي والعدمي وكذلك الدوران ينفك عن العلة وذلك في فصل الدوران، وإذا كان كذلك الاستدلال بالمناسبة على العلية أولى.
وثانيهما: أن الظن الحاصل بعلية الوصف من المناسبة كثر من الدوران. للاستقراء فوجب أن يجب العمل بالمناسب لما سبق غير مرة ولا نعنى برجحانه سوى هذا.
واحتج الخصم بوجوه:
أحدها: [أن العلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فتكون أولى.
وجوابه]: أنا لا نسلم أن العكس واجب في العلل العقلية، وهذا لأن الاختلاف بين المختلفات، والتضاد بين المتضادات معللة بماهية كل واحد
من المختلفين والمتضادين وهو أمر وجودي وحينئذ يكون العكس غير واجب.
سلمناه لكن لا نسلم أن الأشبه بالعلل العقلية أولى، وهذا لأن العقلية موجبة، والشرعية معرفة أو داعية، وعلى التقديرين بينهما فرق في المعنى فلم يمكن اعتبار الشرعية بالعقلية.
سلمنا أن المطردة والمنعكسة أولى لكن متى إذا كانت مع ذلك مناسبة أم مطلقا سواء كانت مناسبة أو لا تكون مناسبة؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ وهذا لأن الطرد غير معتبر، والعكس غير واجب في العلل الشرعية، مقتضى هذا أن لا يكون الدوران حجة ترك العمل به في الدوران الخالي عن المعارض المتناسب فيبقى معمولاً به عنده.
وثانيها: أن علل الشرع مُعَرِّفات، والطرد والعكس أدخل في التعريف من المناسبة، ضرورة أنه يعوف من جهتي الوجود والعدم فكان أولى.
وجوابه: منعه، وهذا لأن المناسبة والحكمة وحدها وإن كانت غير منضبطة
في نفسها لكن إذا تضمنها الوصف صارت منضبطة به فيكون معرفا مضبوطا، وهو أيضا يعوف من الجهتين، لأنه لما دل الدليل على أنه لا يجوز التعليل بالطردي دل انتفاء المناسبة على العدم فحينئذ يمتنع أن يكون الدوران أدخل في التعريف منها.
سلمناه لكنه معارض بما في المناسبة من الفوائد نحو سرعة قبول الطباع، فإن الأحكام المعللة بالمناسبة والحكمة أقرب إلى الطبع من الأحكام التعبدية وإذعان المكلفين لها، وكون فعلهما غير ثقيل على فاعليه.
وثالثها: أنهم أجمعوا على صحة المطرد والمنعكس، ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة فكان المتفق عليه أولى.
وجوابه: أن المناسب أيضا متفق عليه بين القائسين، وما ذكرتم يقتضى رجحان المناسب المطرد والمنعكس على المناسب المطرد غير المنعكس، أو رجحان المطرد المنعكس غير المناسب على المطرد الذى لا يكون مناسبا ولا منعكسا، ولا يقتضى رجحان المطرد المنعكس الغير مناسب على المناسب المطرد الغير المنعكس.
وثامنها: المناسبة أقوى من التأثير؟ لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف تأثير هذا الوصف في نوع الحكم أو في جنسه، وكون الشيء مؤثرًا في شيء لا يوجب كونه مؤثرًا فيما يشاركه في جنسه أو في فرعه بخلاف كون الوصف مناسبًا فإنه يؤثر بمناسبته لا لشيء آخر فكان أولى.
ولأن المناسبة لا تفتقر إلى كونه مؤثرًا؛ لأنه يجوز أن يكون الوصف مناسبًا أو علة من غير أن يكون مؤثرًا وكونه مؤثرًا يفتقر إلى المناسبة فكانت كنية عنه فكانت أولى.
وتاسعها: إذا كان طريق علية أحد الوصفين المناسبة وطريق علية الوصف الآخر السبر والتقسيم، فما كان طريق عليته المناسبة أولى خلافا لقوم، وليس هذا الخلاف في السبر المقطوع به فإن العمل به متعين، وليس هو من قبيل الترجيح لما عرفت أن تقديم المقطوع به على المظنون ليس من قبيل الترجيح المظنون، بل في السبر المظنون الذى كل مقدماته ظني، فأما الذى يكون بعض مقدماته ظنيا والبعض قطعيا فذلك يختلف باختلاف القطع والظن، فإن كان الظن الحاصل من السبر الذى بعض مقدماته قطعيا كثر من الظن الحاصل من لمناسبة فهو أولى [وإلا فهما متساويان أو المناسبة أولى].
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: السبر والتقسيم يفتقر إلى ثلاث مقدمات، لأنه لا يتم إلا إذا دل دليل على أن الحكم في الأصل معلل، وأن العلة إما هذا الوصف أو ذاك، وإنه ليس ذاك فيتعين/ (285/ 1) هذا فهذه ثلاث مقدمات لابد للسبر منها، فالذي يدل على هذه الثلاثة ليس نصا قاطعا صريح الدلالة وإلا لكانت المقدمات قطعية وليس كلامنا في السبر الذى مقدماته قطعية بل إما نص ظني، أو إيماء، أو طرق عقلية من المناسبة أو الدوران أو غيرهما [فإن كانت طرقا عقلية فإما أن تكون تلك الطرق المناسبة أو غيرها فإن كانت هي المناسبة أو غيرها] فإن كانت هي المناسبة فهي أولى من السبر.
أما أولاً: فلافتقار السبر إليها حينئذ واستغنائها عنه.
وأما ثانيا. فلأن المناسبة وحدها كافية في إثبات الحكم في صورة إثبات الحكم بالمناسبة وهى غير كافية وحدها في صورة إثبات الحكم بالسبر فكانت المناسبة أولى.
وأما إن كانت تلك الطرق غيرها فالمناسبة أيضا أولى. لأنها أولى من سائر الطرق العقلية مع أنها [وحدها]، كافية في إثبات الحكم.
وإن كان دليل تلك المقدمات الإيماء فإن شرط في الوصف المومي إليه المناسبة فالمناسبة أولى لما تقدم، وإن لم يشترط فكذلك لقلة المقدمات في المناسبة وكثرتها في السبر، فإن مع تلك المقدمات الثلاث يحتاج إلى مقدمات الإيماء الذى يدل على تلك المقدمات الثلاث ومجموعها يزيد على مقدمات المناسبة فكانت المناسبة الأولى.
ومن هذا يعرف أيضا رجحان المناسبة على السبر إذا كان دليل مقدماته نصا ظنيا، لأن دلالته عليها تتوقف على مقدمات آخر نحو بيان صحة متنه، وكيفية دلالته، وعدم سائر الاحتمالات التي تقدح في الدلالة اللفظية تحو عدم التخصيص، والمجاز، والنسخ، فتكثر مقدمات السبر؛ ولهذا رجحنا دلالة القياس على دلالة عموم اللفظ حتى جوزنا تخصيصه به وإن كان متنه قاطعا، وإذا كان كذلك كانت المناسبة أولى.
وثانيها: القياس على تقديم دلالة القياس على دلالة عموم النص وإن كان متنه قاطعا بل بالطريق الأولى فإنه إذا قدم القياس على عموم دلالة النص وإن كان متنه قاطعا مع أن مقدمات النص أقل من مقدمات القياس فلأن تقدم المناسبة التي مقدماتها أقل على السبر الذى مقدماته أثر بالطريق الأولى.
وثالثها: أن الاستدلال بالمناسبة على العلة استدلال بالوصف اللازم على الملزوم، لأن العلة لابد وأن تكون مناسبة، أو شبيهة، والاستدلال بالسبر ليس كذلك فكان الأول أولى.
واحتج الخصم: بأن المناسبة إنما تفيد ظن العلية وليس فيها دلالة على المعارض بخلاف السبر والتقسيم فإنه يفيد ظن علية الوصف ونفى معارضه، ولا شك أن ثبوت الحكم بالمناسبة في الفرع كما يتوقف على وجود معنى مقتضى له في الأصل يتوقف على نفى ما يعارضه فيه فكان السبر أولى لتكلفه ببيان الأمرين جميعا.
وجوابه: أنا نمنع أنه ليس في صورة التعليل بالمناسبة دلالة على نفى المعارض؛ وهذا لان المناسبة لما دلت على علية الوصف المناسب المعن وثبت أن التعليل بعلتين مستنبطتين غير جائز لزم منه عدم جواز التعليل بغير ذلك
الوصف فمجموع هذين الأمرين يدل على ذلك.
سلمنا أنه ليس فيها دلالة على نفى المعارض من هذا الوجه لكن ظن نفى المعارض حاصل باستصحاب العدم الأصلي في صورة التعليل [بالمناسبة في الفرع]، ففي صورة التعليل بالمناسبة يحصل ظن علية الوصف، ويحصل ظن عدم المعارض مع فوائد التعليل بالمناسبة التي تقدم ذكرها غاية ما في الباب أنه لا يحصل ظن عدم المعارض من نفس المناسبة بل بدليل آخر ملازم لها، ربئ صورة السبر التقسيم لا تحصل تلك الفوائد لكن يحصل ظنه نفى المعارض من نفس الدليل، ومن المعلوم أنه ليس في ذلك ما يعارض تلك الفوائد فكان الإثبات بالمناسبة أولى.
سلمنا أنه ليس في صورة التعليل بالمناسبة دلالة على نفس المعارض لا من نفس المناسبة ولا من غيرها لكن هذه الفائدة معارضة بفوائد التعليل بالمناسبة فلم قلتم أن تلك الفائدة راجحة على هذه الفوائد وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون ثم إنه معناة لأن تلك الفوائد متعددة وهذه فائدة واحدة والواحدة لا تعارض المتعددة إلا إذا كانت تلك تزيد/ (286/ أ) على مجموعها وهو خلاف الظاهر فمن ادعى ذلك فعليه بيانه على أنا نقول: المحذور في ترك المناسبة أشد من المحذور في ترك السبر؛ لأن في الأول ترك المناسبة التي هي شرط العلية بعد ظهورها بطريق تفصيلي وفى الثاني تركها بعد ظن وجودها بدليل غير تفصيلي، ومعلوم أن ذلك أشد محذروًا من هذا فكان إعمال المناسبة أولى، واذا ظهر رجحان المناسبة بالنسبة إلى الدوران والمؤثر والسبر والتقسيم كان رجحانه بالنسبة إلى الطرق الباقية نحو الشبه والطرد أظهر، ثم المناسبات مع اشتراكها في الرجحان على غيرها تختلف مراتبها ويترجح بعضها على
بعض فلنتكلم في أقسامها فنقول:
المناسبة التي في محل الضرورة راجحة على التي في محل الحاجة والزينة والتتمة، والتي من كمالات المصالح الضرورية راجحة على التي من أصول الحاجات هي وإن كانت تابعة والتي من أصول الحاجات أصلية مستقلة كنها ملحقة بأصلها التي في محل الضرورة ولهذا أعطيت حكمها، إلا ترى أنه يجب من الحد بشرب جرعة من الخمر ما يجب بشرب ما يسكر منها، وكذا ما يكون من كمالات الحاجة راجحة على التي في محل التتمة والزينة.
ثم التي في محل الضرورة كحفظ الدين راجحة على غيرها من المصالح الضرورية كحفظ النفس والعقل؛ لأن مقصوده وثمرته نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين، ومعلوم أن شيئا من بقية الضروريات لا يجدى هذا النفع، ولأن سائر المقاصد والمطالب كحفظ النفس والعقل والنسب مقصودة من أجله على ما قال الله تعالى:{وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} .
لا يقال: المناسبة التي في محل الضرورة كحفظ النفس أولى، لأن ذلك حق الآدمي، وحفظ الدين حق الله تعالى، وحق الآدمي مقدم على حق الله تعالى، لأنه مبنى على الشح والمضايقة، وحق الله تعالى مبنى على المسامحة والمساهلة، ولأن التحامل على جانب الغنى الكريم المستغنى عن كل شيء أولى من التحامل على جانب الفقير اللئيم المحتاج إلى كل شيء؛ ولهذا كان حق الآدمي مقدما على حق الله تعالى لما ازدحم الحقان في محل واحد وتعذر استيفاؤهما منه كما في الزكاة على الأظهر وكما إذا ارتد وقتل عمداً عدوانًا
فإنه يقتل قصاصا لا على ارتداد، بل لو أمكن الاستيفاء لكن مع مشقة فإنه أيضا يقدم جانبه كما في حق المسافر فإنه أسقط عنه ركعتان [وتحتم الصوم]، وتحتم الوضوء وغيرها من رخص السفر مراعاة لحقه ومحافظة لتخصيص مصلحته من غير مشقة، وكذا في حق المريض فإنه لان أمكنه الصلاة قائما والصوم لكن مع نوع من المشقة الشديدة المذهلة عن سنن الصوم والصلاة، فإنه يجوز له الإفطار والصلاة قاعدًا، وبالجملة فمراعاة جانب العبد عند الازدحام وعند المشقة معلومة من استقراء الشرائع.
لأنا نقول: ما ذكرتم كله يدل على أن فروع الدين كلها مبنية على المساهلة والمسامحة ولا نهل فيه، ولا يدل ذلك على أن أصله كذلك بل كل ذلك إنما شرع كذلك لبقاء أصل الدين وحفظه فإنه لو بنيت على الشح والمضايقة ربما أفضى ذلك إلى عدم قبول أصل الدين، أو إلى الخروج عنه لعظم المشقة وعدم الطاقة بتكاليفه.
ثم كيف يقاس أصل الدين بفروعه مع اشتداد الشارع في أصله دون فروعه فإنه أباح الدماء والأموال، وجوز أسر الأولاد والأهل، وسوغ كل عقوبة ونكال في مفارقة أصله وعدم قبوله، ولم يرتب شيئا من ذلك على فروعه إلا القتل على ترك الصلاة على مذهب الشافعي - رضى الله عنه- على خلاف الأصل، ولهذا اضطربت الأقوال في أنه متى يقتل أبترك صلاة واحدة، أو بصلاتين، أو أكثر من ذلك؟ وعلى الأقوال كلها يشترط أن يستمر على امتناع قضائها، ثم أنا لا نسلم أن تقديم ما يوجب حفظ الدين إنما هو لكونه حقا لته تعالى فقط بل هو مراعاة لجانب العبد فإنه بفواته تفوته السعادة الأبدية والعصمة/ (287/ أ) الدنياوية، والله سبحانه وتعالى لا يضره
كفر ولا كفران ولا يسره شكر ولا إيمان، بل هما بالنسبة إليه سيان، وإنما هو لمصلحة العبد، وليس فروع الإسلام كذلك، فإنه وإن فاته بفواتها الثواب العظيم والأجر الجسيم، لكن لا يحصل له العقاب الدائم والخزي الأبدي فلا تساوى بل لا تقارب مفسدة فواتها بمفسدة فوات أصل الدين فكان حفظه عليه أولى وأنفع من حفظ نفسه عليه.
ثم التي في محل الضرورة لحفظ النفس أولى من الثلاثة الباقية وهو ظاهر غنى عن البيان، ثم التي في محل الضرورة لحفظ الأنساب، ثم التي في محل الضرورة لحفظ العقل، ثم التي في محل الضرورة لحفظ المال، ولا يخفى عليك تعليل هذه الأحكام بعد الإحاطة بما سلف في باب المناسبة في تعليل هذه الضرورات، ثم الوصف المناسب للحكم قد يكون نوعه مناسبا لنوع الحكم، وقد يكون مناسبا لجنسه، وقد يكون جنسه مناسبا لنوع الحكم، وقد يكون مناسبا لجنسه، ولا يخفى أن القسم الأول مقدم على الثلاثة الباقية، وأن القسم الرابع مؤخر عن الثلاثة الأول، وإنما الكلام في القسمين المتوسطين.
فقال الإمام: هما كالمتعارضين.
والأظهر: أن ما يكون نوع الوصف مناسبا لجنس ألحكم فهو أولى من العكس لحصول الخصوصية، وقلة الإبهام في أشرف الجهتين وهى العلية دون عكسه، ثم الأجناس والأنواع تختلف مراتبها فكل ما كان أقرب إلى الخصوصية وقلة الإبهام فهو أولى من الذى ليس كذلك، ثم كل واحد من
هذه الأقسام ما تكون مناسبته جلية، ومنه ما تكون خفية، ولا شك أن الجلية أولى من الخفية، وقد عرفت فيما سبق ما معنى الجلية وما معنى الخفية.
وأما المناسبات التي تقع في محل الحاجة، فكل ما كان مسيس الحاجة إليه أكثر فهو أولى من الذى ليس كذلك، وكذا ما يقع في محل الزينة والتتمة فكل ما كان مقصود الباب فيه أكثر وأتم فهو أولى، هذا كله في ترجيح المناسبات بعضها على بعض بحسب ذواتها وماهياتها.
وقد ترجح بأمور خارجية عنها: نحو أن المناسبة المتأيدة بغيرها من الطرق نحو الإيماء والدوران والسبر والمؤثر راجحة على ما لا تكون كذلك وهو راجع إلى الترجيح بمثرة الأدلة، وكالمناسبة الخالية عن المعارض راجحة على التي ليست كذلك إن قلنا المناسبة لا تبطل بالمعارضة، وكالمناسبة التي تناسب الحكم من جهتين راجحة على التي ليست كذلك بل تناسبه من جهة واحدة فعلى هذا كلما كانت الجهات أكثر كانت أرجح، وكالمناسبة الغير المتخصصة راجحة على المتخصصة وكل ما كان التخصيص أقل كان أولى.
وعاشرها. إذا كأن طريق إحدى العلتين السبر، والأخرى الدوران، فما كان طريقه السبر أولى، لإفادته تعين العلة ونفى المعارض وهو راجح على بقية الطرق، والظاهر أن الدوران راجح على المؤثر والشبه، ولا شك في رجحانه على الطرد وفى المؤثر والشبه نظر وهما راجحان على الطرد قطعًا.
وحادي عشرها: أن يكون نفى الفارق بين الأصل والفرع مقطوعا به في إحدى القياسين، وفى الآخر مظنونا، فما قطع فيه بنفي الفارق فهو أولى لكونه قياسًا إحدى مقدماته قطعية.
وثاني عشرها: إذا كان طريق علة أحد القياسين إجماعا، والآخر، النص، أو الإيماء، أو غيرهما فما طريق علته الإجماع فهو أولى، لكون الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ والنص محتمل لذلك.
وثالث عشرها: إذا كان طريق علة أحد القياسين الدوران الحاصل في صورة واحدة، وطريق علة الآخر الدرزان الحاصل في صورتن فالأول أولى، لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورتين، ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان الظن أقوى.
أما الأول: فلأنا نقطع فيه بعدم علته ما عدا ذلك الوصف الذى وجد الحكم عند وجوده، والعدم عند عدمه وإلا لزم وجود/ (288/ أ) العلة بدون الحكم وليس كذلك في الصورتين، إذ لا يمكن القطع بذلك، ألا ترى أن الحنفي إذا قال في مسالة الحلى [كونه]، ذهبا موجب للزكاة، لأن التبر لما كان ذهبا وجبت الزكاة فيه، وثياب البذلة والمهنة وعبيد الخدمة لما لم يكن ذهبا لم تجب فيها الزكاة لم يمكن القطع بان ما عدا كونه ذهبا [ليس علة لوجوب الزكاة لاحتمال أن يكون للتركيب من كونه ذهبا]، وكونه مُعَدًا للنماء بإعداد الله تعالى غير مصروف عنه إلى جهة الاستعمال علة لوجوب الزكاة ولا شك أنه غير كونه ذهبا، وأما الثاني فظاهر.
ورابع عشرها: الدوران المعتضد بالمناسبة أو المؤثرية أو الشبه راجح على ما ليس كذلك وهو ظاهر.