الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حارتنا، وهو صاحب أوقافها، وكل قائم فوق أرضها، والأحكار المحيطة بها في الخلاء" (1).
*
الاعتزال:
هذا رمز ثان وصف به الكاتب "الجبلاوي" رمز الألوهية "الله"، فقال: إنه اعتزل منذ عهد بعيد، والذي فهمناه من هذا الرمز أن المؤلف يقصد به انقطاع الوحي وتوقف الرسالات السماوية، بعد أن جاء الإسلام حاملاً الكلمة الأخيرة لله في توجيه الإنسانية جمعاء إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة.
أما قوله بعد ذلك:
"فلم يره أحد منذ اعتزاله" فقد رمز به لعدم سماع كلام جديد له بعد توقف الرسالات مشبها السماع بالرؤية في سياق نفي كل منهما.
الدليل الثاني: مالك الملك:
قال المؤلف يصف "الجبلاوي" رمز الألوهية: "الله":
"وهو صاحب أوقافها، وكل قائم فوق أرضها، والأحكار المحيطة بها في الخلاء"(2).
سبق أن استدللنا على أن المراد من الحارة فى "أولاد حارتنا" هي الدنيا أو الوجود بأسره، فإذا قال المؤلف بعد ذلك:
"وهو صاحب أوقافها، وكل قائم فوق أرضها .. " كان معناه: "مالك الملك"، ولن يكون صاحب هذا الوصف إلا الله.
(1) المصدر السابق (ص 5)، بتصرف بالحذف اليسير.
(2)
"أولاد حارتنا"(ص 5).
الدليل الثالث - كان الله ولم يكن معه غيره:
الله هو الأول بلا بداية، الأول الذي لم يسبق وجوده عدم، هذا المعنى أو هذه المعاني التي يؤمن بها المؤمنون الصحيحو الإيمان السليمو الاعتقاد في الله، أشار إليها مؤلف "أولاد حارتنا"، فقال:"عاش فيها -أي في الحارة- وحده، وهي خلاء"(1).
عبارته هذه تعني أن "الحارة" هي الكون، ولما كان رمز"الجبلاوي" يعني عند المؤلف "الله" كان معنى عبارته أن الله كان والكون خلاء، ليس فيه سواه.
وهكذا تتضح حقيقة "الجبلاوي" في الرواية، طورًا بعد طور ويزيد المسألة وضوحًا هنا، قوله واصفا "الجبلاوي".
"وكان بالضعفاء رحيمًا"(2).
الدليل الرابع - ضلال بعض الطوائف في الاعتقاد:
قال المؤلف: "ثم جاء زمان فتناولته قلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا"(3).
الذي فهمناه من هذه العبارة في وصف "الجبلاوي" ومز الألوهية "الله" عند المؤلف احتمالين:
أحدهما: الإشارة إلى العقائد الوضعية البدائية حول نشأة العقيدة في الله، مثل أديان الهند، والفُرس، واليونان القدماء، وعقائد مصر في عهد
(1)"أولاد حارتنا"(ص 5، 6).
(2)
المصدر السابق (ص 6).
(3)
المصدر السابق (ص 6).
الفراعنة قبل عصر الرسالات؛ لأن هذه العقائد كلها لم تصل إلى العقيدة المثلى في الإيمان بالله، وقد تكلم فيه أصحاب هذه النِّحل الوضعية بكلام لا يليق بقدره ومكانته، كما قال المؤلف. وهذا الاحتمال هو الراجح عندنا؛ لأن المؤلف يتحدث هنا عن عصر ما قبل الرسالات.
الثاني: أن يكون مراده الإشارة إلى الطوائف التي حرَّفَتْ حقيقة الرسالات التي جاءتهم بها رُسُلهم، فهم -كأولئك- نسبوا إلى الله ما لا يليق به، كنسبة الصاحبة والولد، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وأيًّا كان مراده فإن هذه العبارة -على قصرها- دليل رابع على أن المراد بالجبلاوي هو الله.
الدليل الخامس - وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إِلا هو:
هكذا وصف الله نفسه:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26].
وهذه هي عقيدة المؤمنين: لا يَعْلمُ الغيبَ إلا الله.
قارن هذا الوصف بما جاء في قول المؤلف يصف "الجبلاوي":
"أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق، وأن نعيش نحن في التراب"(1).
إذا أحسنت المقارنة والفهم تبيَّن لك في الحال أنها عبارة تشير إلى استئثار الله بعلم الغيب، يدلك على هذا وصف البيت الكبير -بيت الجبلاوي- بأنه مغلق، وموظفًا هذا الرمز "مغلق" في الدلالة على الحيلولة بين الخلق وبين ما
(1) المصدر السابق (ص 6).
هو كائن في علم الله، كما قال عيسى بن مريم عليه السلام:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
أليس هذا دليلاً من أقوى الأدلة على أن "الجبلاوي" في "أولاد حارتنا" المراد به عند المؤلف هو "الله" سبحانه.
الدليل السادس - الرسل أعلم الناس بالله:
أي نزاع ينشأ حول أُصول الدين أو فروعه، فالفزع فيه إلى رُسُلِ الله، وما أنزل إليهم من ربهم، مصداق ذلك قوله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
احتفظ بهذه الحقيقة في ذهنك، ثم اقرأ ما قاله المؤلف في هذه الفقرة:"وإذا تساءلت عما صار به -يعني الجبلاوي- وبنا إلى هذه الحال، سمعت من فورك القصصي -أي الديني النبوي- وترددت على أُذنيك أسماء: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم. ولن تظفر بما يبل الصدر -لعله الصدى- أو يريح العقل؟! "(1).
يقرر الكاتب -هنا- ما أشرنا إليه من فزع الناس إلى ما جاء به الرُّسُل إذا شب بينهم نزاع حول مسألة من أُصول الدين أو فروعه، تضمن هذا قوله الذي نقلناه من سماع القصص أو ذكر ما جاء به الرُّسُل الذين رمز إليهم بـ "أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم: أي آدم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الرموز الأربعة تعني الرُّسُل الأربعة، المذكورين.
(1)"أولاد حارتنا"(ص 6) وقوله: الصدر خطأ مطبعي. وصوابه ما وضعناه بين الشرطتين وهذا الكلام يدل على ريب المؤلف وشكه في قيمة الوحي وغناؤه ويدل على رقة دينه.
الدليل السابع - اللجوء إِلى الله في الشدائد:
من الأمور المركوزة في الطبع، المتأصلة في الفِطرة الإنسانية الفزع إلى الله واللياذ به، واللجوء إليه في الشدائد والمحن حتى غير المؤمنين بالله إذا أفزعهم خطر، نسوا كفرهم وجاروا إلى الله ليكشف كربهم، ويزيح غمتهم هاتفين بلسان حالهم ومقالهم: يا رب.
مصداق هذا قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
ومؤلف "أولاد حارتنا" يدرك أن مفزع الناس في الكوارث والمحن إنما هو الله، ترى ذلك واضحًا في قوله:
"وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات -يعني القصص الديني النبوي- كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم، أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير .. وقال في حسرة:
"هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه!! (1)، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نُضام؟ "(2).
وقال: "ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير، ونقول في حزن وحسرة: "هنا يقيم الجبلاوي، صاحب الأوقاف، هو الجد، ونحن الأحفاد" (3).
أفليس في كلام المؤلف -هنا- في الموضعين أوصاف لا يوصف بها إلا الله قيوم السموات والأرض، وليس الجبلاوي الذي لا وجود له إلا في
(1) لعله رمز إلى "من خلقه" لا صلبه حقيقة.
(2)
"أولاد حارتنا"(ص 5).
(3)
"أولاد حارتنا"(ص 7).
خيال المؤلف؟
أما قوله: "هو الجد، ونحن الأحفاد"، فهذا لا يليق بـ:"الجبلاوي" باعتباره رمز الألوهية "الله".
ولهذا القول -عندنا- محملان:
أولهما: أنه من الفر بعد الكر، أو الإحجام بعد الإقدام، ذكره المؤلف للتمويه والتشويش على القُراء.
وثانيهما: أن يكون رمزًا مبنيًا على التشبيه، بأن جعل خالق الأب الأول -آدم- كأبي الأب، ولا غرابة في ذلك؛ لأن التعبير الرمزي في الرواية، لا يكاد يخلو منه سطر من سطورها فضلاً عن صفحاتها.
الدليل الثامن - خالق الكون:
عرفنا -قبلاً- أن الأستاذ نجيب محفوظ رمز بالحارة إلى الوجود الكوني كله، يؤكد هذا ما حكاه في الرواية من البداية إلى النهاية، فضلاً عن الأدلة التى ذكرناها من قبل.
إذا تقرر هذا فتأمل قوله في وصف "الجبلاوي" رمز الألوهية في الرواية: "هو أصل حارتنا"(1).
وما عليك إلا أن تفك الرمز "أصل"، وتقف على المعنى المتواري خلفه، وهو "خالق حارتنا" أي خالق دنيانا، ثم تضم هذا الدليل إلى الأدلة التي ذكرناها قبله، فيصبح لديك ثمانية أدلة في المقدمة وحدها على أن المراد من الجبلاوي في "أولاد حارتنا" هو الله.
الدليل التاسع - عجز الفكر عن الإدراك:
قلنا من قبل: إن الله تعالى يُعْرَف بآثاره وآلائه وآياته فى الكون ومن
(1)"أولاد حارتنا"(ص 5).
فيه وما فيه.
فتعال: اسمع ماذا قال عن "الجبلاوي" رمز الأُلوهية (الله): "كنت -وما زلت- أجد الحديث عنه شائقًا لا يُمَل، وكم دفعني ذلك إلى. الطواف ببيته الكبير لعلي أفوز بنظرة، ولكن دون جدوى"(1).
لقد رمز المؤلف بالطواف عن "التفكر" في ذات الله المجيد وفي صفاته المقدَّسة، راجيًا أن يقف على حقيقتها أو بعض حقيقتها، ولكن عاد بخفي حنين لا بحنين نفسه، حيث تجاوز المتاح اليسير، وهو معرفة الله بآياته في الكون والنفوس - إلى غير المتاح العسير، وهو الإحاطة بحقيقة الذات العلية!!
الدليل العاشر - غيب ما وراء الطبيعة:
ما وراء الطبيعة اصطلاح فلسفي يراد به العالم المعنوي، مما لا يدرك بأي حاسة من الحواس الخمس، ويقابله العالم الحسي المادي، وهو ما له وجود يدرك بالحواس الخمس، ويشغل حيزًا من الفراغ، سواء كان حيوانًا، أو نباتًا، أو جمادًا.
ومن لطف الله بعباده أن جعل ما وراء الطبيعة من اختصاص الوحي الأمين، وما صح من كلام الرُّسُل المكرمين.
والأستاذ نجيب محفوظ في الفترة التي نقلناها عنه من قبل اعترف أن تجاربه الفكرية حول معرفة ما وراء الحس قد فشلت وعجزت عن الوصول إلى أي شيء!!
- ثم عاد فكرر الإشارة إلى هذا العجز حين قال:
"وكم وقفت أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنَّط المركب أعلاه!!
(1)"أولاد حارتنا"(ص 5).
وكم جلست في صحراء المقطم غير بعيد من سوره الكبير، فلا أرى إلا رءوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تنم عن أثر الحياة!! " (1).
- قال الدكتور المطعني في كتابه القيم (ص 23):
وأقسم برب السموات والأرض، وعالم الغيب والشهادة لو أن مسلمًا أقسم بالله أن الكاتب لم يقصد من "الجبلاوي" إلا الله ما حنث في يمينه، ولكان صادقًا كل الصدق.
أو أن آخر أقسم بالطلاق على هذا الفهم لما حرمت عليه قرينته.
أما أولئك الزاعمون بأن "الجبلاوي" في "أولاد حارتنا" ليس المقصود منه الله، فلا يخلو حالهم من الاحتمالات الآتية:
- إما أنهم لم يقرأوا الرواية فراحوا يشهدون بما لا علم لهم به!!
- وإما أنهم قرأوا ولم يفهموا.
- وإما أنهم قرأوا وفهموا، ثم عاندوا وكابروا، وراحوا يشهدون شهادة زور، ويصرون على الحنث العظيم، ويحسبونه هينًا، وهو عند الله عظيم.
وها نحن أولاء أمام هذه المكابرة، وذلك العناد نستخرج من كلام المؤلف عشرات الأدلة التي تكشف زيفهم، وتعري مواقفهم وتسحق زورهم وبهتانهم، وترد كيدهم في نحورهم، وتظهرهم غلى حقيقتهم أمام القُراء
(1)"أولاد حارتنا"(ص 6).
ونلفت نظر القارئ إلى أن قوله: "وكم جلست في صحراء المقطم .. إلخ عبارات تمويه من باب الفر بعد الكر الذي يلجأ إليه المؤلف كثيرًا ليشوش على القراء ويصرفهم عن مراده.