الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضع القوانين، ومشيئة العوام لا اعتبار لها إلا إذا مثلت إجماعًا عامًا كافيًا" (1).
ويقول أيضًا: "الشريعة كما ذكرنا من قبل تختلف اختلافًا أساسيًا عن القانون الرومي، سواء في طبيعتها أو في غرضها، فالقانون الرومي حتى في خالص ناحيته المجردة والعلمية ليس إلا قانون العلماء القانونيين، أو كما يقال في المثل اللاتيني: "كل قانون وضع فإنه وضع بسبب إنسان"، أما القانون الإسلامي فهو أولاً وقبل كل شيء نظام أهل دين يطبقون الأحكام (الموجودة) على الوقائع، وغرضهم وصل كل نفس إنسانية بالله تعالى .. "(2).
إن الفقه الإسلامي وهو قانون المسلمين جزء من الدين الإسلامي لا ينفك عنه، أما القانون الوضعي فهو علم مادي من أمور الدنيا، يقول المستشرق الإيطالي نالينو Nallino "جعل المسلمون الفقه جزءًا من علم الدين لا ينفك عنه، ولم يجعلوه علما ماديًّا من أمور الدنيا"(3).
*
مناقشات بعض رجال القانون لواضع القانون المدني:
سأذكر محاورتين جرتا في مجلس الشيوخ المصري لدى مناقشة مشروع القانون المدني المقر في (1948 م) أحببت أن أثبتهما للدلالة على أن القانون المدني الجديد بعيد عن الشريعة الإسلامية، وليعلم المسلمون أن رجال مصر لم يكونوا موافقين على هذا القانون، وإنما أقر ظلمًا عدوانًا.
المناقشة الأولى: للمستشار حسن الهضيبي:
وقد كان فارسها حسن الهضيبي بك المستشار بمحكمة النقض آنذاك رحمه الله.
(1) انظر كتاب "هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي"(ص 165).
(2)
المرجع السابق (ص 166).
(3)
المرجع السابق (ص 21).
"حسن الهضيبي بك: أود أن أقول: إن لي رأيًّا معينًا في المسألة برمتها، وليس في القانون المدني فقط، وهذا الرأي بمثابة اعتقاد لدي لا يتغير وأرجو أن ألقى الله عليه، إنني لم أتعرض للقانون المدني باعتراض أو بنشر وأنا لم أقل شيئًا يتعلق بمضمونه؛ لأن من رأيي ألا أناقشه.
وقد جئت اليوم بناء على دعوتي؛ لأن، زميلي صادق فهمي بك صحح المسألة بالنسبة إلي، فقد ألحق بالحاضرة التي كان مزمعًا أن يلقيها، كلمة تبين مركزي في هذا المقام.
الذي قلته أنا في تصحيح الرأي الذي نشره صادق بك هو اعتقادي أن التشريع في بلادنا كلها وفي حياتنا جميعا يجب أن يكون قائمًا على أحكام القرآن، وإذا قلت القرآن فإني أعني كذلك بطبيعة الحال سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعته من طاعة الله.
حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: يقصد سعادة حسن الهضيبي بك القرآن والحديث؟
حسن الهضيبي بك: نعم، يجب أن يكون هذان المصدران هما المصدران لكل تشريع فإذا ما أردنا أن نأخذ شيئَّا من التشريعات أو النظم الأجنبية فيجب أن نردها أولا إلاً هذين المصدرين.
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
فإذا كان هذا التقنين صادرًا عن أحكام القرآن والسنة كان بها وإلا فيجب أن نرفضه رفضًا باتًا، ونرد أنفسنا إلى الحدود التي أمر الله بها.
حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: وإن سكت عنه؟
حسن الهضيبي بك: الأمور في الشريعة، أمر ونهي وعفو.
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
أما العفو فهو من الأمور المباحة التي يمكن لولي الأمر أن يصرفها كما يشاء على ما تقتضي به المصلحة.
من أجل هذا لم أشترك في مناقشة مشروع القانون المدني موضوعًا، ومن رأيي أن يصدر كيفما يكون؛ لأني شخصيًّا أعتقد أنه ما دام غير مبني على الأساس الذي ذكرته والذي أدين به فخطئوه وصوابه عندي سيان.
لقد تفضل زميلي صادق بك فهمي وصحح الموقف بالنسبة إلي في مذكرة ألحقها بمحاضرته وكانت بإملائي. ولقد جئت اليوم لأبين لحضراتكم وجهة نظري وإني أعلم تمام العلم أنكم غير مستعدين لقبول هذا الرأي (1).
الرئيس: لا شك أن كل تشريع يمكن أن يوجه إليه كثير من النقد غير المحدد ونحن هنا هيئة تشريعية قدم إلينا مشروع قانون فاجتهدنا في بحثه، ونريد الآن أن نسمع الانتقادات التي وجهت إلى تقرير اللجنة كي تجتمع اللجنة بعد ذلك لاقرار ما تراه، ولقد بدأت الآن بعرض الأمر بالطريقة المنطقية فقد قدمت انتقادات موضوعية، وتريد اللجنة أن تناقش أصحابها.
حسن الهضيبي بك: لقد ذكرت منذ لحظة أن خطأ هذا المشروع وصوابه عندي سيان (2).
رحم الله الهضيبي لقد قال كلمة الحق التي ينبغي أن يقولها المسلم، فهذا القانون لا يستحق أن يناقش؛ لأنه غير مأخوذ من الكتاب والسنة، وصوابه وخطؤه عنده سيان ما دام كذلك، ولم يطل الكلام، فهو يعلم أن القائفين على إعداد القانون غير مستعدين لقبول رأيه؛ لأن الأمر مفروض
(1) كانوا غير مستعدين لقبول رأيه؛ لأن الحكومة المصرية تعهدت في معاهدة "مونترو" للدول الكبرى عندما ألغيت الامتيازات والمحاكم المختلطة أن تضع من الشرائع ما من شأنه أن يكون مطابقًا للشرائع الحديثة، انظر "القانون المدني - الأعمال التحضيرية"(1/ 99).
(2)
"القانون المدني - الأعمال التحضيرية"(1/ 48 - 49).
على الأمة فرضًا، ولم يستطع السنهوري أن يناقش الهضيبي رحمه الله؛ لأن الهضيبي كان حازمًا وصريحًا.
المناقشة الثانية: للشيخ عبد الوهاب طلعت:
كان فارسها المرحوم الشيخ عبد الوهاب طلعت باشا:
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟
المقرر: لقد ذكرت ذلك فيما سبق وأقرر أن المشروع اتبع الوضع الذي اختارته البلاد منذ إدخال التقنينات الحالية بل وزاد عليه كما أبنت الآن.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية): أؤكد لك أننا ما تركنا حكمًا صالحًا في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا التقنين إلا وضعناه (1) والدليل على ذلك أن أحد حضرات المستشارين أراد أن يضع نموذجًا مأخوذًا من الشريعة الإسلامية فأتى بنفس نصوص القانون ونسبها للشريعة الإسلامية.
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: وهل استعنتم بالفقهاء الشرعيين لعله يمكنهم أن يساعدوا في هذا السبيل.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية):
لقد قمنا بكل ما يمكن عمله في هذا السبيل، وأخذنا كل ما يمكن أخذه عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث ولم نقصر في ذلك (2).
(1) لاحظ كيف أقام السنهوري نفسه حكمًا يأخذ ويترك من الشريعة الإسلامية ما يشاء.
(2)
لم يجب السنهوري على سؤال الشيخ وحاد عن الإجابة، وكان ينبغي أن يقول أنه وضعه بالاشتراك مع ثلاثة من الصليبين ولم يشارك فيه عالم من علماء المسلمين.
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: إني كرجل يؤمن بالكتاب المنزل وكرجل درس الشريعة الإسلامية كما درس المعاملات فيها أرى أن فيها ما يتسع لكل شيء.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية):
أرجو أن تجد سعة من وقتك لزيارتي وأنا على أتم استعداد لأن أبحث معك الموضوع وأنا واثق أنك ستقتنع (1، 2).
الناقشة الثالثة: لسيد عبد الله علي حسين:
سيد عبد الله من علماء الأزهر الذين درسوا الحقوق وحصل على درجة الليسانس في الحقوق من فرنسا، وقد كتب كتاب المقارنات التشريعية في مجلدين ردًا على الدكتور السنهوري وعلماء القانون الذين يزعمون أن رجال القانون الأوربيين لم يعتمدوا في قوانينهم على الفقه الإسلامي، وقد أثبت في كتابه أن كثيرًا من قانون نابليون مأخوذ من الفقه المالكي، ومع ذلك فقد أغفل واضعوه هذا المصدر، وقد ناقش المؤلف في مقدمة كتابه الدكتور عبد الرزاق السنهوري في دعواه أن الفقه الإسلامي لا يصلح لأن يجعل قانونًا في الوقت الذي وضع فيه السنهوري القانون المدني مستمدًا من القوانين الأوربية الصالحة لذلك بزعمه.
وقد أورد سيد عبد الله نصوص أقواله ورد عليها، وسأكتفي بإيراد جزء من مناقشته للدكتور السنهوري (3).
(1) واضح أن السنهوري لا يحب أن يسّتثير العلماء المسلمين فتأتي إجابته ناعمة لينة، في نفس الوقت الذي يحيد فيه عن الجواب.
(2)
"لجنة القانون المدني - الأعمال التحضيرية"(1/ 159، 160).
(3)
"المقارنات التشريعية"(1/ 21).
السنهوري: قد دار الزمن دورته والفقه الإسلامي واقف، العالم يمشي وهو جامد، والحضارة تتطور وهو ساكن، فبعد عن الحاجات المتجددة.
سيد عبد الله: أنت أدرى يا سيدي الأستاذ لم وقف؟ لأن من تنطق بحجتهم ومن اعتنقت مذهبهم طاردوه في كل مكان، ولكن أصوله باقية وخالدة على الدهر لا تطفأ.
السنهوري: فأصبح من العسير على الأمم العربية في العصر الحاضر أن تستقي منه قوانينها الحاضرة.
سيد عبد الله: قواكم الله في الإتيان بالبديل، فأنتم وأمثالكم داعون للقوانين الوضعية، وهذا هدم للتشريع الإسلامي، إن بقي فيه شيء لم يهدم من أعدائه ومن احتلوا بلاد المسلمين.
السنهوري: فأخذت تهجره واحدة بعد الأخرى ولجأت إلى القوانين الغربية الحية لتماشي مدنية العصر ومن هنا نشأت أزمة الفقه الإسلامي.
سيد عبد الله: لا يا أستاذ لم تهجر الأمم العربية التشريع الإسلامي كراهية فيه، أو لعدم صلاحيته للزمن، ولكنها أُكرهت من عدوها الذي احتلها على تركه واستبداله بقوانينه، وأظن الأستاذ يشاهد البلاد العربية التي لم يحتلها أجنبي تحكم بالتشريع الإسلامي (اليمن والحجاز).
السنهوري: نحتاج إلى جهود جبارة ووقت طويل حتى يعود الفقه إلى مجده الأول، وينفض عنه غبار الجمود الذي تراكم عليه، فيسترد قوته ورونقه، ويعود جديدًا وفقهًا خصبًا قويًّا.
سيد عبد الله: أدركنا يا رب العالمين من عبادك والطف بنا وبهم في هذا الدنيا، إنك أنت اللطيف الخبير، هذا الذي يمهد السبيل لإصلاح الفقه لو أنه تبنى بحثًا منه ودافع عنه لظن الناس خيرًا، وقبلوا هذه الدعوى، ولكن رجلاً تبنى نظرية لامبير، ونقل لنا أسمالاً بالية من عدة تشاريع وضعية وخاطها لنا
قانونًا مدنيًّا، وقال في مادته الثانية ما يأتي:"فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون .. " لا يصح أن يكون حكمًا، ولا يؤخذ قوله حجة.
والواجب أن يقول الأستاذ بلغة العرب الفصيحة: إنني أدعو العرب لهجر التشريع الإسلامي في بلاد الإسلام حتى تعود إليه الحياة، ويعود فقهًا خصبًا قويًّا؛ لأن رجلاً يلزم القاضي بقانونه أن يحكم العادة قبل أن يحكم التشريع الإسلامي لا يصح أن يتكلم في التشريع الإسلامي؛ لأنه يجهله أو يعاديه، إن أعداء الإسلام أخذوا منه ما لذ وطاب، ولم يقل أحد منهم هذه الأقوال؛ لأنهم درسوه وعرفوا قيمته، أصوله وقواعده، ولكنهم سكتوا عن ذكره سكوت أهل القبور، وعملوا على محوه وتعطيله في كل قطر دخلوا فيه، وتركوا من أبناء هذه الأقطار داعية لتشريعهم الوضعي فيها، وهي حقيقة مرة يعرفها من ألقى السمع وهو شهيد.
أيها الأستاذ: إن التشريع الإسلامي حي حياة إلهية، ولو لم يرق في نظرك، فلست أكثر حولاً ولا طولاً ممن محوه من بلاد الإسلام، وأدخلوا قوانينهم، وحكموا بها، وألزموها المسلمين قهرًا، وبلا ذنب إلا احتلالهم، إن علماء التشريع الإسلامي قد أصبحوا والحمد لله يضارعون في تفكيرهم وفهمهم أكبر عالم من علماء القوانين الوضعية، ولو سألتموهم عن أي قاعدة لبهركم وأخذ عليكم مجامع تفكيركم الوضعي ما يجيبون به، ولكن ما تدعون من علم ومعرفة قد جعلكم في نظركم على الأقل أعلم مخلوق وأعظم مشروع، والله يقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ونصيحتي إليكم أن ترجعوا إلى التشريع الإسلامي، وفيه ما فوق الكفاية، فتعلموه، وابحثوا، وبشروا به في كل مكان يعظم شأنكم، ويرضى