الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
جرجي زيدان وكتابه "تاريخ التمدن الإِسلامي" ورد العلاّمة شبلي النعماني عليه:
- يقول العلامة شبلي النعماني، المصلح الشهير مؤسس جمعية ندوة العلماء في لكهنو بالهند في مقاله ونشر هذا النقد مجلة المنار والتي كان يصدرها الشيخ رشيد رضا رحمه الله على حلقات المجلد 15 (1330 هـ-1912 م):
إن الدهر دار العجائب ومن إحدى عجائبه أن رجلاً من رجال العصر جرجي زيدان صاحب الهلال يؤلف فى "تاريخ تمدن الإسلام" كتابًا يرتكب فيه تحريف الكلم، وتمويه الباطل وقلب الحكاية والخيانة في النقل وتعمد الكذب، ما يفوق الحد ويتجاوز النهاية.
وينشر هذا الكتاب في مصر وهي غرة البلاد وقبة الإسلام ومغرس العلوم ثم يزداد انتشارًا في بلاد العرب والعجم، مع هذا كله فلا يتفطن أحد لدسائسه، ولم يكن ليجترئ على مثل هذه الفظيعة في مبتدأ الأمر، ولكنه تدرج إلى ذلك شيئًا فشيئًا؛ فإنه أصدر الجزء الأول من هذا الكتاب، وذكر في مثالب العرب دسيسة يتطلع بها على إحساس الأمة وعواطفها، ولما لم يتنبه لذلك أحد، ولم ينبض لأحد عرق، ووجد الجو صافيًا أرخى العنان وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية على العرب عمومًا، وخلفاء بني أمية خصوصًا.
- إن الغاية التي توخاها المؤلف ليست إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها، ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة، غير مجرى القول ولبس الباطل بالحق"، بيان ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية، ودور بني العباس، فمدح الدور الأول، وكذلك الثالث ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين
وبمدحه لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم وبهم فخارنا في ثبت التمدن وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع عنهم تفرع لها وحمل عليهم حملة شنعاء، فما توك سيئة إلا وعزاها إليهم وما خلى حسنة إلا وابتزها منهم.
ثم لو كان هذا لأجل أنهم من آل مروان أو لكونهم من سلالة أمية لكنا في غنى عن الذب عنهم والحماية لهم ولكن ذنبهم أنهم من (العرب) على صرافتهم ما شابتهم العجمة مطلقًا، وقد حصر الباحث أخطاءه في عدد من الأصول العامة:
أولاً: عصبية العرب على العجم:
أطال المؤلف وأطنب في إثبات هذه الدعوى، وقال: إن العرب يعاملونهم معاملة العبيد في عديد من المواضع (العنوان العام في الجزء الرابع ص 58)، واعلم أن المؤلف في إتقان باطله فعل أطوارًا شتى منها:
تعمد الكذب، ومنها تعميمه لواقعة جزئية، ومنها الخيانة في النقل وتحريف الكلم عن مواضعه، ومنها الاستشهاد بمصادر غير موثوقة، مثل كتب المحاضرات والفكاهات، وغير خافٍ على من له إلمام بتاريخ الفرس والعرب، أن الفرس كانت قبل الإسلام تحتقرًا لعرب وتزدريهم، ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى العجم، اشمأز وقال: عبدي يكتب لي؟ وكتب يزدجرد إلى سعد بن أبي وقاص فاتح القادسية أن العرب على شرب ألبان الإبل وأكل الضب بلغ بهم الحال إلى أن تمنوا دولة العجم فأف لك أيها الدهر الدائر.
ثم لما شرف الله العرب بالإسلام، أنتصفت العرب من العجم، واستنكفوا من سيادتهم عليهم وجاءت الشريعة الإسلامية ماحية لكل فخر ونخوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته الأخيرة في حجة الوداع: "أن لا
فضل للعربي على العجمي ولا للعجمي على العربي، كلكم أبناء آدم"، حينئذ ارتفع التمايز وتساوى الناس، ولكن مع ذلك بقيت في بعض الناس من كلا الطرفين حزازات كامنة في صدورهم، كانت سببًا لحدوث حزبين متكاملين يسمى أحدهما: الشعوبية: وهي التي تحتقر العرب وترميهم بكل معيبة، والثاني "المتعصبون" للعرب وقد عقد ابن عبد ربه في كتابه "العقد الفريد" بابًا في حجج كل من الطرفين وصدر هذه الأقوال بقوله: (قال أصحاب العصبية من العرب) وأنت تعلم أن هذه العصبية ليست كل العرب ولا أكثرها ولا عشر معشارها، فهؤلاء شرذمة مغمورون في الناس، ولكن المؤلف ما اقتنع بذلك، بل ربما نسب قول رجل معين معلوم الاسم إلى العرب عامة.
- وقد مضى جرجي زيدان في دعواه متابعًا كتابات المستشرقين في اتهام العرب بانتقاص الموالي، فقال: إنهم منعوهم من المناصب الدينية المهمة (الجزء الرابع ص 6).
- فقال الشيخ النعماني: إن البلاد التي كانت عواصم الأقاليم وقواعدها في عصر بني أمية كان كل أئمتها من الموالي ففي مكة عطاء، وفي اليمن طاووس، وفي الشام مكحول، وفي مصر يزيد بن أبي حبيب، وفي خراسان ضحاك بن مزاحم، وفي البصرة الحسن البصري، ومع كونهم أعجامًا وكونهم أولاد الإماء، كانوا سادة الناس وقادتهم تذعن لهم العرب ويحترمهم خلفاء بني أمية وولاة الأمور، وقد عالج هذه النقطة بما عرض مطولاً بما يؤكد أن الموالي كانوا في أيام بني أمية بأعلى محل الشرف والمكانة وأن كل ما أورده جرجي زيدان وسابقوه من المستشرقين افتئات ظاهر وتجن وظلم.
استند جرجي زيدان على نص حاول فيه الادعاء بأن عمال بني أمية كانوا يفرضون نوعًا من الجور والشدة، يقول: وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقطع الجابي منها طائفة، ويقول: هذا رواجها وصرفها
واستند في هذا على كتاب "الخراج" لأبي يوسف.
- ويقول الشيخ النعماني: أيها المؤلف الفاضل: أليس لك وازع من نفسك؟ أليس لك رادع من ديانتك؟ أتجرؤ على مثل هذا الكذب الظاهر، والمين الفاحش جهرة؛ فإن أبا يوسف ما تكلم في شأن عمال بني أمية ببنت شفة، وإنما ذكر عمال هارون الرشيد واساءتهم العمل في جباية الخراج.
وكتاب "الخراج" لأبي يوسف بين أيدينا، وأن ما استند إليه من عمال هارون الرشيد، فكيف يأخذ المؤلف أقواله وينقلها من حيث إنها هي الطرق التي كان عمال بني أمية يجمعون الأموال بها.
ثانيا: مساوئ بني أمية:
- ويقول الشيخ النعماني: إن موضوع الكتاب ليس إلا بيان تمدن الإسلام؟ فأي متعلق في ذلك لإبداء مساوئ بني أمية.
ولعلك تقول: لا بد في تاريخ تمدن الإسلام من بيان منهج السياسة، هل كانت مؤسسة على الاستبداد والجور أو العدل والنصفة، فجر ذلك إلى كشف عوار بني أمية عرضًا، أناشدك الله أما كان لأحد منهم مأثرة تذكر ومنقبة تنقل، وسياسة تنفع البلاد، وعدل يعم الناس، نعم إن خلفاء بني أمية لا يوزنون بالخلفاء الراشدين، وليس هذا عار عليهم، ولا فيه حط لمنزلتهم؛ فإن إدراك شأن الراشدين واللحوق بهم أمر خارج على طوق البشر، وليس فيه مطمع لأحد، ولا موضع رجاء لمجتهد.
ولكن التوازن والتطابق بين الأموية والعباسية، وإنما هم ملوك فيهم المحسن والمسيء والعادل والجائر بل الذي أعدلهم سيرة وأوفاهم ذممًا لا يخلو من عثرات لا تقال وهنات لا تذكر.
فلو لزم المؤلف جادة الصواب، ووفى لكل أحد قسطه وأعطى كل ذي
حق حقه، لاستراح واسترحنا، ولكنه مال إلى واحد فأطرى في مدحه العباسي ونال من الآخر فأسرف في تهجينه وذمه الأموي، ثم إنه لم يفارق في مدحه وذمه عمود الكتاب أي: ذم العرب، والحط من شأنهم فإنه ذم بني أمية لأنهم العرب، ومدح العباسيين لا لأنهم العرب، ولا لأنهم من سلالة بني هاشم أو من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم بل لأمر واحد: لأن دولتهم دولة أعجمية.
ثالثًا: حريق خزانة الإِسكندرية:
عقد المؤلف بابًا لإثبات أن حريق خزانة الإسكندرية كان بأمر عمر بن الخطاب وأطال وأطنب في ذلك واستدل عليه بستة دلائل (الجزء الثالث) أهمها رغبة العرب في صدر الإسلام في محو كل كتاب غير القرآن.
وقد كشف الشيخ النعماني أن هذا غير صحيح، وأن المسلمين نظروا في كل الكتب، ونقلوا في تفاسيرهم روايات مختلفة فيها الغث والسمين مما نقل إليها من الأديان الأخرى، فلو كان أهل القرون الأولى يبغضون ما سوى القرآن ويمحون ما كان قبله من العلم -كما يدعي المؤلف- فمن روى الإسرائيليات وأقاصيص التلمود والتوراة وحشاها في التفسير؟
ثانيًا: أورد ما جاء في تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج ثم نقل رواية الإحراق برمتها وأطال في إثبات أن أبا الفرج ليس بأول من روى هذه الرواية، بل ذكرها عبد اللطيف البغدادي عرضا في ذكره عمود السواري وذكرها القفطي في تاريخ الحكماء.
ولا ننازع المؤلف في أن أبا الفرج مسبوق في ذكر هذه الرواية بالقفطي والبغدادي، ولكن ماذا ينفعه ذلك؛ فإن البغدادي وهو أقدمهما من أهل القرن السادس للهجرة، قد ذكر الرواية من غير إسناد ومن غير إحالة على كتاب.
- ويقول: لقد تعود المؤلف من صباه قبول مختلقات أهل الكتاب وأوهامهم وسبب ذلك أنه يزن التاريخ الإسلامي بميزان غير ميزاننا، ولذلك يصغي إلى كل صوت ويستمع لكل قائل، ولكل فن أصول وقواعد وما لم تكن الرواية مطابقة لهذه الأصول اليقينية لا يلتفت إليها أصلاً.
ومنها أن الناقل للرواية لا بد أن يكون شهد الواقعة؛ فإن لم يشهد فليبين الرواية ومصدرها، حتى تتصل الرواية إلى من شهدها بنفسه.
ومنها أن يكون رجال السند معروفين بصدقهم وديانتهم، وأنت تعلم أن البغدادي والقفطي من رجال القرن السادس والسابع، فأي عبرة برواية تتعلق بالقرن الأول يذكر أنها من غير سند ولا رواية ولا إحاله إلى كتاب.
أما كتب القدماء الموثوق بها، فليس لهذه الرواية فيها أثر ولا عين، وهذا تاريخ الطبري واليعقوبي و"المعارف" لابن قتيبة، و"الأخبار الطوال" للدينوري، و"فتوح البلدان" للبلاذري، و"التاريخ الصغير" للبخاري، وثقات ابن حبان و"الطبقات" لابن سعد، قد تصفحناها وكررنا النظر فيها، مع أن فتح الإسكندرية مذكور فيها بقضها وقضيضها فليس لحريق الخزانة ذكر.
والحاصل أن محققي أهل أوربة قضوا بأن الواقعة غير ثابته أصلاً، منهم (جيبون) المؤرخ الشهير الإنجليزي، و (درببر) الأمريكاني، و (سيديو) الفرنسي، و (كارليل) الألماني، والمعلم (رينان) الفرنسي وعمدتهم في أفكار ذلك أمران:
الأول: أن الواقعة ليس لها عين ولا أثر في كتب التاريخ الموثوق بها كالطبري وابن الأثير، والبلاذري وغيرها مما ذكرنا.
والثاني: أن الخزانة كانت قد ضاعت قبل الإسلام، اثبتوا ذلك بدلائل لا يمكن إنكارها.