الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أجل التوسع فقط .. ؟ ولماذا لزم الوزيران الصمت حيال هذه الحملات التي ترهق ميزانية الدولة التي عينا لمراقبتها، واستخلاص الديون منها .. ؟
وإذا كان النفوذ الأوربي قد تغلغل في عهد (إسماعيل) تغلغلاً عظيمًا، وأصبحت حكومته وقصوره وسراياه تعج بالأوربيين والأمريكيين، فكيف تسمح أوربا الصليبية ومن ورائها الوزراء والقناصل والجنرالات الموجودون في حكومة الخديوي بأن يقوم هذا الحاكم بغزو الحبشة النصرانية وفتحها.
في الواقع أن هذا أمر لا يمكن حدوثه مطلقًا إلا إذا كانت هناك أهداف غير ظاهرة يراد تحقيقها وأكبر دليل على هذا أن جده محمد علي باشا لما عزم على غزو الحبشة سنة 1840 م حذره السفير الإنجليزي (سالت) وقال له: "تقع الحبشة (أثيوبا) تحت حمايتنا وهي البلد الوحيد في أفريقيا الذي اعتنق الدين المسيحي، وصمدت صمودًا طويلاً مظفرًا خلال أجيال أمام هجمات المسلمين، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع من أوربا عامة ومن إنكلترا خاصة أن تقف موقف اللامبالاة إذا ما تعرض هذا البلد للهجوم .. وهناك كثيرون من جمعية الكتاب المقدس في بريطانيا يهتمون بمستقبل هذا البلد"(1).
*
دفاع الدكتور محمد عمارة عن محمد علي باشا والرد عليه:
قال الدكتور عنه: "ارتادت مصر للشرق والوطن العربي عصر التنوير واليقظة والنهضة في ظل الدولة المدنية الحديثة التي أسسها محمد علي باشا الكبير"" التراث "(189)، ويخصص الدكتور مبحثًا كاملاً في كتابه "العلمانية" للدفاع عن اتهامات " لويس عوض" التي ردد فيها علمانية محمد علي باشا وأثبت الدكتور إنه لم يكن علمانيًّا أبدا فهو لم يحدث أي تغيير في القضاء أو يلغي المدارس الدينية وأما بعثاته فهي لعلوم الدنيا دون غيرها من
(1)" فن الحرب الإسلامي في العهد العثماني " لبسام العسلي (ص 287) دار الفكر.
العلوم الإنسانية".
قال سليمان بن صالح الخرابيشي في كتابه "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة"(664 - 671):
"قلت: عندما يحكم المسلم على إنسان ما فإنه يستعرض أعماله ويتأملها بمنظور إسلامي شرعي فيذكر حسناته إن كان له حسنات ويذكر سيئاته .. والدكتور إنما ذكر الأمور التي يعتقد إنها حسنات لمحمد علي باشا فهو عنده رائد الدولة المصرية الحديثة الذي انتشلها من (ظلمات) المماليك إلى (نور) التقدم والمدنية بفضل جهوده في التربية وإرسال البعثات وتنظيم الجيش وفتح المدارس المدنية .. إلخ. ولكنه لم يذكر حرفًا واحدًا عن دوافع محمد علي باشا لذلك وعن غدره بالمسلمين (أعني المماليك) وعن حقده على العلماء الذين وثقوا فيه، وكانوا السبب في تمليكه مصر (أعني عمر مكرم ومن معه) وعن الأمر الكبير الذي يميز حياة الكبير! وهو عداوته للتوحيد وأهله ومحاربته للموحدين ممن أهل الجزيرة تنفيذًا لأوامر أسياده من شيوخ (الخرافة) في تركيا والدول الغربية الكافرة وكل ذلك في سبيل كسب دنيوي وطموح شخصي بالغ فيه هذا الجندي (التركي)! كان الأولى بالمفكر الاسلامي أن ينبه القارئ إلى هذا الذنب العظيم الذي ارتكبه الباشا وأبناؤه في حق دعاه التوحيد .. وإما التمجيد والثناء على (مدنيته) و (تقدميته) فهذه تجعل المرء يرتاب كثيرًا في مدى صدق الدكتور في ادعائه السلفية التي تخلى عن أهلها في أدنى موقف. وإما حكم رجال الإسلام في محمد علي وحقيقة علمانيته التي نفاها الدكتور. فقد قال الشيخ محمد قطب:
"كان محمد علي شخصًا سيِّئ السمعة .. معروفًا بالقسوة وغلظ الكبد .. ترسله الدولة العثمانية لتأديب القرى التي تتأخر في دفع ما يفرض عليها من المال، فيعسكر هو وأفراد حملته التأديبية حول القرية ينهبون
ويسلبون ويفزعون الآمنين، حتى يرى أهل القرية أن الأفضل لهم أن يدفعوا الأموال المطلوبة -وإن أبهظتهم- خير من الذل والفزع الذي يعانونه من محمد علي وأفراد حملته! وكان محبًا للعظمة إلى حد الجنون .. صفات كلها صالحة .. ! وليس بين يدي الآن ما يقطع بأن فرنسا هي التي تدخلت لدى السلطان لإرساله واليًا على مصر .. وإن كانت الظروف تشير إلى ذلك.
ولكنه جاء على أي حال .. واليًا من قبل الدولة العثمانية على مصر .. عام 1805 من الميلاد، أي بعد مغادرة الحملة الفرنسية بثلاثة أعوام، كانت مصر في أثنائها قد عادت إلى حكم المماليك مع الولاء للسلطان واحتضنته فرنسا احتضانًا كاملاً لينفذ لها كل مخططاتها! أنشأت له جيشًا مدربًا على أحدث الأساليب ومجهزًا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ بإشراف سليمان باشا الفرنساوي! وأنشات له أسطولاً بحريًا على أحدث طراز يومذاك وأنشأت له ترسانة بحرية في دمياط. وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر.
هل كان هذا كله حبًا في شخص محمد علي؟ أو حبًا في مصر؟! إنما كان لتنفيذ المخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل.
لقد قام محمد علي بدور خطير في نقل مصر من المرتكز الإسلامي إلى شيء آخر يؤدي بها في النهاية إلى الخروج من الحيز الإسلامي .. سواء كان واعيًا تمامًا. لهذا الدور، أو مستغلاً من قبل الصليبية لتنفيذه. والذي يغلب على حسِّنا -على ضوء التجربتين الأخيرتين، تجربة كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر- أنه كان واعيًا للدور وضالعًا فيه. ولكن يستوي أن يكون ضالعًا بوعي أو مستغلاً مستغفلاً .. فهو في الحالين يؤدي ذات الدور، ويؤدي الدور إلى ذات النتائج بصرف النظر عن النوايا الداخلية للمنفذين.
ولكن يبقى شيء مؤكد في جميع الأحوال .. أن " المسلم " الحق لا يمكن بحال أن يقوم بمثل هذا الدور لا واعيًا ولا مسغفلاً؛ لأن إسلامه يمنعه أن يتلقى "التوجيه" من أعداء الإسلام. لكي نفهم حقيقة الدور الذي قام محمد علي في خدمة أعداء الإسلام، ينبغي أن نفهم ماذا كان يريد الأعداء.
لقد كانوا يريدون القضاء على الإسلام بصفة عامة، ولكنهم وضعوا في مخططهم أهدافًا مرحلية معينة تمكنهم -في تصورهم- من القضاء الأخير على الإسلام .. من هذه الأهداف: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام "بتغريب" العالم الإسلامي مع العناية الخاصة بتغريب مصر -بلد الأزهر- وتصدير التغريب منها إلى بقية العالم الإسلامي.
فأما القضاء على الدولة العثمانية فالأمر فيه واضح. وأما عملية التغريب -عن طريق الغزو الفكري- فمهمتها الأولى قتل روح الجهاد الإسلامية ضد الصليبيين للقضاء على المقاومة المستمرة التي يلقاها الغزو الصليبي المسلح، وذلك بإزالة الحاجز العقيدي الذي يذكر المسلم دائمًا بأنه مسلم وأعداؤه كفار يجب أن يجاهدهم ولا يسمح لهم باحتلال أرضه الإسلامية فإذا "تغرب" لم يعد هذا الحاجز قائمًا في نفسه، ولم يعد يثير عنده ما يثيره الإسلام في نفس المسلم. كما أن التغريب هو الذي يضمن تبعية العالم الإسلامي للغرب -بعد أن يخضع عسكريًّا له- لأنه حين يتغرب، يحس أن انتماءه لم يعد للإسلام وإنما للغرب، فلا يشعر برغبة في الانفصال عنه، وحتى إن رغب في يوم من الأيام أن "يستقل" ففي حدود التبعية العامة التي لا تخرجه من حوزة سادته، ومن النطاق الذي يضربه السادة حوله.
والآن وقد أدركنا تخطيط الأعداء فلننظر دور محمد علي بعد " احتوائه " من قبل فرنسا.
كانت الخطة الصليبية -التي اضطلعت فرنسا بتنفيذها في مصر- هي
تكبير محمد علي وإغرائه بالاستقلال عن السلطان، فتنفصل بذلك قطعة من أرض المسلمين عن الدولة الإسلامية (وذلك يضعفها ولا شك) ثم يكون محمد علي نموذجًا مغريًا لغيره من الولاة، فيستقلون تباعًا عن الدولة رغبة في السلطان الذاتي، فتتفكك عرى الدولة وتنهار .. وفي ذات الوقت كانت الخطة في تغريب مصر -بعد استقلالها- لضمان تبعيتها الدائمة للغرب وانفصالها النهائي عن الإسلام.
وقام محمد علي بالدور المطلوب خير قيام! فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا في محاولة الاستقلال عن الخلافة فحسب، بل في محاربة الخليفة نفسه! وقد كاد يتغلب على جيش الخليفة بالفعل لولا تدخل بريطانيا .. تظاهرًا بالوقوف في صف الخليفة، وغيره في الحقيقة من أن تستأثر فرنسا "بصداقة" السلطان، وبالنفوذ في مصر! وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى .. فقد أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في ظاهر الأمر، ومنعته من مهاجمة الخليفة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الخليفة، والاستئثار بحكم مصر حكمًا وراثيًا ينتقل في ذريته، مع التبعية الاسمية للسلطان!! (هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد علي في معركة نافارين؛ لأنه نسي نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هي اليونان! فقد كبرته الصليبية وسلحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون. أما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبيين بسوء، فهنا يجب تأديبه بل تحطيمه تحطيمًا كاملاً إذا لزم الأمر!! ).
أما الجانب الآخر من المهمة وهو عملية التغريب، فقد نفذها محمد علي بسياسة الابتعاث التي اتبعها، بإرسال الطلاب الشبان إلى أوربا ليتعلموا هناك .. وكان هذا أخطر ما فعله في الحقيقة؛ لأنه من هناك بدأ الخط
"العلماني" يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية.
وقد يقول قائل: إنه لم يكن أمامه من سبيل للنهوض بمصر إلا هذا السبيل! وهو قول مردود فلو كان في مكان محمد علي قائد مسلم واع، يريد أن ينهض بمصر الإسلامية -أي على أسس إسلامية وقاعدة إسلامية- فقد كان أمامه سبيل آخر، هو النهوض بالأزهر -معقل العلم لا لمصر وحدها بل للعالم الإسلامي كله- برده إلى الصورة الزاهية التي كانت عليها المعاهد الإسلامية في عصور النهضة، حيث كانت تعلم العلم الشرعي والعلوم الدنيوية، وكان يتخرج فيها الأطباء والمهندسون والرياضيون والفلكيون والفيزيائيون والكيميائيون المسلمون الذي علموا العلم لأوربا يومًا من الأيام!
فإذا كانت بلاده -أو بلاد العالم الإسلامي جمعاء- تفتقر إلى المتخصصين في هذه العلوم، الذين يحتاج إليهم الأزهر لينهض بمهمته، ففي وسعه يومئذ أن يرسل أفرادًا بأعيانهم، يختارون اختيارًا دقيقًا، على أساس دينهم وتقواهم، وحصافتهم ورزانتهم، بعد أن يكونوا قد تجاوزوا سن الفتنة، وأحصنوا بالزواج فلا ينزلقون في مزالق الفساد الخلقي .. فيتخصصون في مختلف العلوم ويعودون ليدرسوا للطلاب في بيئتهم الإسلامية، فيظل الشباب محافظًا على إسلامه، ويتزود من العلوم بما ينفض عنه تخلفه العلمي، ويعيد إليه الحاسة العلمية التي فقدها المسلمون خلال عصر التخلف الطويل .. وعندئذ " تنهض " مصر، بل ينهض العالم الإسلامي كله من طريق الأزهر الذي يؤمه الدارسون من جميع بلاد العالم الإسلامي .. ويكون هذا القائد المسلم قد أدى أجل خدمة للإسلام والمسلمين. فهل فكر محمد علي على هذا النحو، أو هل كان قمينا أن يتجه هذه الوجهة؟! لو كان هذا لما أختاروه! ولما جاءوا به ليؤدي دوره "العظيم" إنما كانت صياغته النفسية كلها
و"التوجيه" الذي يتلقاه، كله إلى الجانب الأخر .. جانب التغريب. لذلك أرسل الشبان الصغار بأعداد متزايدة إلى أوربا، وهم في سن الفتنة، غير محصنين بشيء .. "لينهلوا" من العلم إن شاءوا، ومن الفساد إن شاءوا، أو من العلم والفساد معًا في غالب الأحيان .. ثم يعودوا، ليكونوا رأس الحربة المتجه إلى الغرب، الذي يجر بلاده كلها إلى هناك! ولا عبرة بأنه كان يرسل مع كل بعثة إمامًا يؤمهم في الصلاة ويعلمهم أمور دينهم! فقد كان للصلاة حتى ذلك الوقت قداستها في حس المسلمين، ولا يتصور وجود " مسلم " لا يؤديها! أو هي في أقل الاعتبارات "تقليد" له قداسته، لا يمكن أن يخرج عليه مسلم! لذلك لم يتكن يتصور أن تكون هناك مجموعة من المسلمين بغير إمام يؤمهم في الصلاة، ولا يمكن أن يقدم محمد علي على كسر ذلك التقليد المقدس في ذلك الحين" (1).
وقال الشيخ محمود شاكر: "رغم اندحار الحملة الفرنسية على الشرق فإن رسالة نابليون إلى كليبر بقيت هي الأساس في عملية الاستشراق والمستشرقين. يقول نابليون في رسالته: "اجتهد في جمع 500 أو600 شخص من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عددًا كافيًا من المماليك فاستعض عنه برهائن من العرب ومشايخ البلدان فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يحتجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية
(1)"واقعنا المعاصر"(205 - 209). قلت: والشيخ محمد حفظه الله لم يذكر حرب محمد علي لأهل التوحيد وهي أعظم سيئاته -عندنا- كما أنه يؤمل خيرًا في الأزهر .. وقد سبق أن هذا الجامع العتيد من مخلفات الرافضة وانتقل منها إلى تخريج الأشاعرة الذين يجدون في نشر بدعتهم ويشغلون أهل السنة بالرد عليهم .. وأما إن كان الشيخ محمد لا يأبه بهذه (الجزئيات)! فنقول له: إن هذا إرث ينبغي التخلص منه.
ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليهم غيرهم كنت قد طلبت مرارًا جوقة تمثيلية وسأهتم اهتمامًا، خاصًا بإرسالها لك لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد". ومضت السنون والاستشراق في عمل دائب وتدبير متماد. وتولى أمر مصر رجل كانت تركيا بعثته مع 300 من الجند في أواخر الحملة الفرنسية هو محمد علي عام 1805 م - 1220 هـ وكان في الخامسة والثلاثين من عمره جاهلاً لم يتعلم قط شيئًا من العلوم وكان لا يقرأ ولا يكتب ولكنه استطاع خداع المشايخ والقادة الذين آثروا ولايته على ولاية المماليك الذين لم يستطيعوا التصدي والوقوف أمام حملة نابليون. لم يكن الاستشراق وبخاصة الفرنسي غافلاً عن هذا المغامر الجديد الذي صعد إلى حكم مصر فنرى أنه عندما قامت ولايته على الديار المصرية أحاطت به قناصل المسيحية الشمالية إحاطة كامله -والقناصل هم الاستشراق نفسه في صورته السياسية- فبدأوا يوغرون صدره على المشايخ والقادة الذين نصبوه واليًا على مصر ويخوفونه عاقبة سلطانهم على جماهير الأمة فاستجاب لطنينهم وغدر بالمشايخ والقادة الذين وقفوا بجانبه وكانت مذبحة القلعة وغيرها وبهذا ظفر الاستشراق بالمشايخ الكبار ومهد لعزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمة بل استطاع أن يؤلب الدولة التركية على ما يحدث من يقظة إسلامية في قلب الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب فاستجابت دار الخلافة بغفلتها إلى هذا التأليب وأرسلت جيوش محمد علي لقتال المسلمين في الجزيرة العربية ووجدها محمد علي فرصة لتحقيق آماله في التوسع وبسط نفوذه على بلاد أخرى وبهذا أدرك الاستشراق وأدركت المسيحية الشمالية مأربًا من أكبر مآربها في وأد اليقظة التي كانت تهددهم بها دار الإسلام في جزيرة العرب التي كانت تخشى المسيحية الشمالية أن تنضم هذه اليقظة إلى اليقظة الكائنة في دار الإسلام في مصر فيومئذ لا يعلم غير الله ما تكون العواقب، وتم كل ذلك
على يد مسلمين جهلة يوجههم الاستشراق والمسيحية الشمالية من حيث لا يبصرون ولا يعلمون ماذا يراد بهم ولا إلى أي هوة من الهلكة يساقون.
ثم كانت بعثات محمد علي التي لم تكن نابعة من عقل هذا الجندي الجاهل بل كانت نابعة من عقول تخطط وتدبر لأهداف بعيدة المدى محققة بذلك ما جاء في رسالة نابليون لكليبر سالفة الذكر .. " (1).
وقال الشيخ سفر الحوالي: " .. حدثت نفرة شديدة بين علم الأزهر الذي كان يعتقد أنه يمثل الثقافة الإسلامية أصدق تمثيل وبين علم الغرب الذي بدا لأعين الأزهريين علمًا غريبًا خاصًا بالكفار. من هذا الخطأ التاريخي تقريبًا نشأت الازدواجية الخطرة في العالم الإسلامي: تعليم ديني ضيق محدود وتعليم لا ديني يشمل نشاطات الفكر كلها. وقد حاول محمد علي في أول الأمر أن يدخل العلوم الحديثة ضمن مناهج الأزهر إلا أنه خشي معارضة الأزهريين فقام على الفور بانشاء نظامه التعليمي الحديث هكذا أنقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني حديث"(2).
قلت: أي نظام علماني.
وقال الدكتور أحمد فرج: "كان محمد علي الذي اعتلى حكم مصر بعد خروج الفرنسيين كنابليون فكلاهما كانت تحركه أهداف علمانية"(3).
ويقول: "كان محمد علي امتدادًا لنابليون في مصر ومبادئ العلمانية التي أرساها نابليون وجيوشه الفرنسية مكن لها محمد علي بعد ذلك بعد أن قوض سلطة الأزهر وأضعف نفوذ علماء الدين وأتى بكل ما لا يتفق وفكرة الحاكم في التصور الإسلامي الذي يجسد صورة العدل بمعناها الشرعي.
(1)"المجلة العربية" ذو الحجة 1412 هـ.
(2)
"العلمانية" لسفر الحوالي (ص 590).
(3)
"جذور العلمانية" للدكتور أحمد فرج (ص 27).
لقد مهدت أوربا -خاصة فرنسا- كيف تحكم مصر بعد خروج الفرنسيين منها. وكانت خطة محمد علي في التحديث استمرارًا لخطة نابليون وأقام محمد علي دولته العلمانية التي لا تفرق بين مواطن وآخر إلا بمقدار ما يقدمه لها من خدمات دونما اعتبار لدين أو عرف أو لون، تمامًا كما فعلت فرنسا بعد نجاح ثورتها الكبرى وبنفس الأسلوب والمبادئ التي حملها نابليون وجيشه إلى كل بقعة وطئتها أقدامهم من العالم وكان محمد علي كنابليون يمضي كالسهم لا يوقف تقدمه شيء لضعف العلماء وقلة الأفاضل منهم وقلة حيلتهم" (1). قلت: ومن العجيب أن الدكتور أحمد فرج نقل مقالاً لمحمد عبده نشر في المنار يقول فيه: "إنه -أي محمد علي- أطلع نجم العلم في البلاد ولكنه لم يفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين والأدب أو وضع حكومة منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل وحتى الكتب التي ترجمت إلى فنون شتى ترجمت برغبة من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد وحرم المصريين من بلوغ الرتب في الجيش لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت وظهر الأثر عندما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي .. ثم استقروا ولم توجد من البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها. ولقد لا يستحي بعض الأحداث من أن يقول: إن محمد علي جعل من جدران سلطانه بنية من الدين .. فليقل لنا أحد من الناس أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي إلا مسألة (الوهابية) وأهل الدين يعلمون أن الإغاره فيها كانت على الدين لا للدين"(2). قلت: فليت الدكتور كعادته قد تابع شيخه في هذه المسالة! (3).
(1)"جذور العلمانية"(ص 31).
(2)
المصدر السابق (ص 32).
(3)
"محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" لسليمان بن صالح الخرابيشي (ص 664 - 671) - دار الجواب.