الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
محمد علي وتحطيمه لعقيدة الولاء والبراء فى قلوب المسلمين
.
لقد تعمّد هذا الوالي الظالم تحطيم عقيدة الولاء والبراء وإزالتها من قلوب المسلمين ونفوسهم ولو بالقوة والنار، ليرضي أسياده الصليبيين وليخضع أمته وشعبه المسلم للمخططات الصليبية واليهودية.
"ويكفي ذلك ما أورده الجبرتي (1) المعاصر لهذه الشخصية، وما سجله عليها من سيئات، وما رصدها به من تحركات مشبوهة، وانتهاكات مكشوفة، مع أن الجبرتي يقف بتاريخه عند نهاية سنة 1236هـ أي بعد حوالي ستة عشر عامًا من ارتقاء محمد علي لعرش مصر. وهي في نظرنا فترة كافية استطاع خلالها أن يسبر غور شخصية محمد علي ويعرف مداخلها وتوجهاتها، ويلم بتطلعاتها وأهدافها"(2).
ومع ذلك فقد استمر محمد علي في سدة الحكم بعد ذلك حوالي تسعة وعشرين عامًا، لم يدركها الجبرتي (3)، وعمل في تلك المدة من الزمن ما لم
(1) المؤرخ العظيم الذي دافع عن الدعوة السلفية وشيخها الإمام محمد بن عبد الوهاب وانتصر للفكر السلفي وحارب البدع والظلم.
(2)
انتقد كثير من المؤرخين ذوي المنهج الاستشراقي الجبرتي في إسرافه كما يقولون في نقد محمد علي، وقالوا: إن الجبرتي لم يعش ليرى ثمرة ما قام به محمد علي من أعمال عظيمة. وهذا واضح مع تأثير الميكافيلية؛ إذ يبررون الوسيلة بالغاية، هذا على فرض أن غايته كانت نبيلة مع أن هذا خلاف الواقع.
انظر: "الجبرتي ومحمد علي" -بحث ضمن ندوة الجبرتي- القاهرة سنة 1976 م.
(3)
لأنه قد توفي عام 1237هـ على المشهور من الروايات، بعد أن قُتل ولده فبكاه كثيرًا حتى ذهب بصره، ولم يطل عماه فقد عاجلته وفاته، مخنوقاً بشارع شبراً. ونظراً للآراء الجريئة التي أطلقها في تاريخه ضد محمد علي باشا، وعدم تملقه إياه، وممالأته له ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن محمد علي كان وراء تلك الجريمة البشعة، خصوصًا أنه كان خارجًا لتوه من قصره بشبرا، وكان الجبرتي يشغل منصب إفتاء الحنفية في عهد محمد علي. وقيل: أن محمد بك الدفتردار وهو صهر محمد علي كان يحقد عليه فدس له من =
يكن يخطر على بال الجبرتي من الأعمال وأضعاف أضعاف ما انتقده عليه، وسجله في تاريخه.
ونحن بعد ذلك نومئ إيماءات سريعة لضيق المقام. فمن ذلك بيعه للغلال والحبوب إلى الإنجليز وغيرهم من الإفرنج حتى شحت الغلال وغلت الأسعار وخلت منها الأسواق، بل أمر بمداهمة البيوت والدور لكبس الأقوات المدخرة، بدون ثمن (1) لسوقها إلى الكفار الإنجليز الذين كانت تجوب أساطيلهم البحار لضرب المسلمين والتربص ببلادهم، والاستعداد للاستيلاء عليها. وأحدث مكوسًا جديدة، وفرض ضرائب باهظة، حتى لقد ارتفعت الأسعار بشكل عظيم، وزاد ثمن كثير من البضائع إلى أكثر من عشرة أضعاف ثمنها (2).
وحل الكرب والضيق بالمسلمين، وأوذوا في معاشاتهم وأرزاقهم إيذاء عظيمًا (3).
وإن كان من ذكرنا من بكوات مصر قد ركنوا إلى بعض النصارى، واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، فإن محمد علي كان قد اعتاد أن يكون
= قتله، وتلك حجة أخرى تدين محمد علي لمكانة الدفتردار منه، ولا يبتعد أن يكونا متواطئين. انظر ترجمته في "الأعلام"(3/ 304).
(1)
"عجائب الآثار" للجبرتي (3/ 342، 363).
(2)
يذكر الجبرتي أن الثوب الذي قيمته مائتي نصف فضة أصبح بألفي فضة، وأن النعل الذي كان يباع بستين نصفًا صار يباع بأربعمائة نصف، والذراع الواحد من الجوخ كان يباع بمائة نصف فضة فبلغ ثمنه ألف نصف فضة. هذا سعر الدولة غير ربح البائع وطمع التاجر كما يقول الجبرتي. المصدر السابق (3/ 371).
(3)
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". أخرجه مسلم (3/ 1458) في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية برقم (1828)، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 62، 93، 257، 258، 260).
أغلب المحيطين به من النصارى واليهود (1)، الذين قد تغلغلوا في حكومته وبلاطه، خصوصًا نصارى الأرمن من أعداء الملة الذين هم خاصته وجلساؤه وأهل مشورته، وشركاؤه في اختلاس أموال الدولة ونهب خيراتها، والذين ليس لهم شغل إلا فيما يزيد مكانتهم وحظوتهم عند مخدومهم وموافقة أغراضه، وتحسين مخترعاته، وربما ذكّروه ونبهوه على أشياء تركها أو غفل عنها من المبتدعات، وما يتحصل منها من المال والمكاسب (2).
وقد أظهر الجبرتي رحمه الله ألمه وتأسفه لما وصل إليه حال الكفار، والمكانة التي تبوءوها في عهد محمد علي وأنهم صاروا أعيان الناس، ويتقلدون المناصب الرفيعة ويلبسون ثياب الأكابر، ويركبون البغال والخيول المسومة والراهوانات وأمامهم وخلفهم العبيد والخدم، وبأيديهم العصي يطردون الناس ويفرجون لهم الطرق (3)، ويتسرون بالجواري بيضًا وحبوشًا، ويسكنون المساكن العالية الجليله يشترونها بأغلى الأثمان.
ومنهم من له دار بالمدينة ودار مطلة على البحر للنزهة، ومنهم من عمر له دارًا، وصرف عليها ألوفًا من الأكياس، وكذلك أكابر الدولة لاستيلاء كل
(1) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين. التحالف الصليبي الماسوني الاستعماري وضرب الاتجاه الإسلامي (ص159). د. زكريا سليمان بيومي. عالم المعرفة. جدة. الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م.
(2)
"عجائب الآثار"(3/ 548).
(3)
هذا بدلاً من تضييقها عليهم كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه" أخرجه الترمذي برقم (2700) كتاب الاستئذان.
باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود برقم (5205) كتاب الأدب. باب في السلام على أهل الذمة. وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. انظر "صحيح أبي داود" برقم (4337).
من في خطه على جميع دورها، وأخذها من أربابها بأي وجه، وتوصلوا بتقليدهم مناصب البدع (1) إلى إذلال المسلمين؛ لأنهم يحتاجون إلى كتبة وخدم وأعوان والتحكم في أهل الحرفة بالضرب والشتم والحبس من غير إنكار، ويقف الشريف والعامي بين يدي الكافر ذليلاً (2).
ومن البديهي بعد أن قد أحاط محمد علي نفسه ببطانة من اليهود والنصارى، أن يعتمد عليهم كثيرًا، وأن يسند إليهم عددًا كبيرًا من المناصب الهامة في الدولة، ومع ذلك فلولا خوفه وخشيته من إثارة المسلمين وتألبهم عليه لاعتمد عليهم بالكلية ولأسند إليهم جميع المسئوليات والناصب دون مواراة.
وهذا ما عبر عنه محمد علي بنفسه حين هلك كاتب الخزينة في عهده وكان رجلاً نصرانيًّا يدعى عبود النصراني، وكان محمد علي يحبه ويثق فيه ويقول عنه: لولا الملامة لقلدته الدفتردارية (3).
والملامة التي كان يخشاها محمد علي هي جزء من بقايا هذه العقيدة الطيبة في نفوس المسلمين من بغض للكفار ومعاداتهم تجعل الباشا المفتون بهؤلاء الكفار يتوقف بعض الشيء في ولائه السافر لهم، وفي نقل خطوات مسيرته التغريبية بالأمة (4).
ومع ذلك فإن هؤلاء الكفار كانوا يشكلون مراكز الثقل في دولة محمد علي، وخصوصًا في المجالات المهمة كالشئون المالية والتعليمية والعسكرية،
(1) يعني الضرائب والمكوس الحدثة.
(2)
المصدر السابق (3/ 623).
(3)
الصدر السابق (3/ 602). والدفتردار وظيفته إدارة الشئون المالية وضبط الخراج والدخل وبيده سجلات ملكية الأرض. وكانت وظيفتة تشبه وظيفة وزير المالية. "تاريخ الحركة القومية"(1/ 21).
(4)
أما في زماننا هذا فقد خفت صوت هذه العقيدة إلا عند قلة من الناس.
ولئن كان الدفتردار ليس واحدًا منهم (1). فإن جميع الوظائف المالية الأخرى تقريبًا قد احتكرها النصارى وغيرهم. فقد مر معنا أن كاتب الخزينة كان نصرانيًّا، وكذلك فإن جميع الكتبة والصيارفة كانوا من النصارى أيضًا.
أما وزارة الخارجية فطبيعي جدًا أن تكون من نصيب النصارى حيث العلاقات كانت قائمة على أشدها مع الدول الأوربية وقد أسند هذا المنصب الهام إلى وزير أرمني يدعى باغوص بك الأرمني (2).
أما إدارة الجمارك وهي من الوظائف المهمة فقد كان يرأسها رجل نصراني له أعوان وجند كما يقول الجبرتي يحجزون أمتعة الناس، ويقبضون على المسلمين، ويسجنونهم، ويضربونهم حتى يدفعوا ما عليهم، ومن العجب على حد قوله أن بضائع المسلمين يؤخذ عشرها وبضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم يؤخذ عليها من المائة اثنان ونصف (3).
وما دام أن رئيس الجمارك نصراني حقود فلا نعجب بعد ذلك من التفاوت المذهل في أخذ الرسوم على الواردات من البضائع بين المسلمين وغيرهم. حيث يؤخذ على المسلمين من الرسوم أربعة أضعاف ما يؤخذ على غيرهم من كفار العالم.
5.
2% إلى 10% تفاوت ظالم، وربما كان ذلك تأليفًا للوافدين من التجار كما فعل الباي!! وعلى أي حال فلا يعدو ذلك المثال عن كونه واحدًا من الأمثلة الصارخة على استهانة محمد علي بعقيدة الولاء والبراء وعدم
(1) وكان اسمه محمد بك وهو صهر محمد علي وزوج ابنته وشريكه في الظلم والعذاب والجور.
(2)
"رحلة كنغليك إلى الشرق"(ص 122). ترجمة محمود العابدي. التعاونية. عمان 1971 م.
(3)
"عجائب الآثار"(3/ 371).
تقديره لها.
وقد أصبحت مصر في عهد محمد علي وبالذات القاهرة محط نزول الكافرين من كل جنس، وذلك باستدعائه لكثير منهم، وفتحه المجال أمام استثماراتهم وتجاراتهم، مما جعل البلد تضيق بالسكان، وتغص بالقادمين من الكفار الذين ضايقوا المسلمين في معايشهم حتى إن الإنسان ليقاسي الشدة والهول إذا مر بالشارع من الازدحام الشديد، وبالإضافة إلى طوائف اليهود والنصارى فقد استدعى أعدادًا غفيرة من الدروز والمتاولة والنصيرية وغيرهم من الفرق الخارجة عن الإسلام (1)
وحق لمدينة مثل القاهرة التي لم يكن يتجاوز طولها في ذلك الوقت الخمسة كيلو مترات أن تكتظ بهؤلاء الكافرين الذين تسابقوا إليها من كل حدب وصوب.
وفي تلك الفترة التي نقوم بدراستها كانت تكثر الاضطرابات، وتشيع الفتن والمصادمات، خصوصًا بسبب ثورات العسكر المتلاحقة لقطع المرتبات وغير ذلك، وكان الشعب هو الضحية لتلك الثورات المحمومة.
وفي إحدى تلك الثورات العسكرية التي نهبت فيها الأسواق، وحطمت خلالها الحوانيت. أراد المسلمون في أثنائها أن يحصنوا بعض الحارات النافذة ويقوموا بإغلاقها حتى يقطعوا الطريق على جموع العساكر الهائجة ولكن كتخدا الباشا (2) منعهم من ذلك، في نفس الوقت الذي كان محمد علي يمد فيه النصارى بالبارود وآلات الحرب، بعد أن أتموا تحصين جهاتهم على أكمل وجه (3)، وهذه الواقعة تغني عن أي تعليق، وتدل على مدى العلاقة المريبة
(1)"عجائب الآثار"(3/ 568). ِ
(2)
الكتخدا بمعنى: نائب الوالي. انظر "الحركة القومية"(1/ 21).
(3)
"عجائب الآثار"(3/ 487). ومما ينبه عليه أن هذه الثورة العسكرية العارمة كانت بسبب=
في الخفاء بين محمد علي ونائبه من جانب وبين النصارى من جانب آخر.
وحين قام محمد علي بإجراء واسع النطاق لهدم الدور والمساكن التي بها شيء من الخلل، كانوا يأمرون صاحب البيت الذي تم الكشف عليه بهدمه ثم تعميره، وإن كان يعجز عن ذلك فإنه يؤمر بإخلائه، ويعاد بناؤه على طرف الميري (1) وتصير من حقوق الدولة فهدمت مئات الدور التي كان يملكها أو يسكنها المسلمون.
أما النصارى فلنستمع إلى كلمة الجبرتي في ذلك حيث قال: وأما نصارى الأرمن وما أدراك ما نصارى الأرمن الذين هم أخصاء الدولة الآن فإنهم أنشؤوا دورًا وقصورًا وبساتين بمصر القديمة .. فهم يهدمون أيضًا وينقلون لأبنيتهم ما شاءوا ولا حرج عليهم، وإنما الحرج والمنع والحجر والهدم على المسلمين من أهل البلدة فقط (2).
وعندما تولى الحسبة رجل يدعى مصطفى كاشف أراد أن يعيد الكفار إلى حالتهم التي كانوا عليها قبل مجيء محمد علي إلى سدة الحكم، فأمر مناديه بمصر القديمة أن ينادي على نصارى الأرمن والأروام والشوام بإخلاء البيوت التي عمروها وزخرفوها وسكنوا بها والمطلة على النيل، وأن يعودوا إلى زيهم الأول من لبس العمائم الزرق، وعدم ركوبهم الخيول والبغال
= محاولة محمد علي إدخال ما يسمى بالنظام الجديد في الجيش الذي لا يعني سوى نقل النظام الأوربي الأفرنجي برمته إلى مصر. ومن الغريب في الأمر آن محمد علي قد قام بتعويض المنهوبين مع شدة ظلمه وذلك خشية اجتماع الأهالي مع العسكر ضده -كما يقول الجبرتي- في وقت هو في أشد الحاجة لكسب الناس لتنفيذ خطواته التغريبية، والأغرب من ذلك مواكبة هذا العمل التغريبي في مصر لعمل تغريبي آخر في تركيا كان يتولاه السلطان محمود الثاني مما يدل على أن المخطط واحد وإن اختلف المنفذون.
(1)
الميري: الدولة وهي عامية محرفة عن كلمة الأميري.
(2)
المصدر السابق (3/ 521).
والراهوانات الفارهة واستخدامهم المسلمين.
ولكن محمد علي قطع الطريق على هذا الإصلاح، وأمر بكف هذا المحتسب بعد أن تم زجره وتأنيبه، وذلك بعد أن تقدم أعاظمهم إليه بالشكوى وهو يراعي جانبهم لأنهم صاروا أخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة كما يقول الجبرتي (1).
ويمتد حبل الموالاة والمودة للكافرين في عهد محمد علي إلى شيء آخر له خطورته البالغة، وهو فتحه البلاد على مصراعيها لأفواج النصارى الصليبيين للبحث والتنقيب، واكتشاف الآثار، ودراسة الأماكن دراسة دقيقة بل ومساعدته لهم وتذليله الصعاب في طريقهم (2).
وإذا تجاوزنا هدفهم الرئيسي لتلك العمليات والتنقيب، وهو وضع أيديهم على مراكز الثروة، ودراستهم للمواقع دراسة تخطيطية، مما أفادهم ولا شك في احتلال مصر فيما بعد عام 1882 م خصوصًا إذا علمنا أن كثيرًا من هؤلاء المنقبين كانوا من الإنجليز.
فإن هناك أهدافًا أخرى قد تفوق ما ذكرناه خطورة لم يفطن لها كثير من الباحثين وندع الكلام لأحد المستشرقين ليكشف لنا هذه الأهداف البعيدة.
يقول ذلك المستشرق في كتابه "الشرق الأدنى؛ مجتمعه وثقافته": "إننا في كل بلد إسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات .. "(3).
وعلى ضوء ما سبق من أهداف نستطيع أن نفسر اهتمامات هؤلاء
(1) المصدر السابق (3/ 566).
(2)
المصدر السابق (3/ 571، 617).
(3)
انظر "واقعنا المعاصر"(ص 202).
النصارى بشق البلاد طولاً وعرضًا، وإنفاقهم الأموال الطائلة في كشف الآثار وتعريتها بدءًا بالفرنسيين ثم بالإنجليز الذين ساروا على خط واحد في تنفيذ هذه الأهداف الخبيثة (1).
يقول الشيخ محمد قطب: " ولكن المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون معهم وهم يجوسون خلال الديار كان هو نبش الأرض الإسلامية لاستخراج حضارات ما قبل التاريخ لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات، تمهيدًا لاقتلاعهم نهائيًا من الولاء للإسلام "(2).
وبذلك يكون محمد علي باشا قد ساعد هؤلاء الصليبيين فى تنفيذ مخططاتهم والوصول إلى أهدافهم بفتح البلاد لهم شرقًا وغربًا يجوبونها بحرية تامة.
ويذكر الشيخ محمد قطب أن فرنسا قد احتضنت محمد علي احتضانًا كاملاً لينفذ لها كل مخططاتها حيث أنشات له جيشًا مدربًا على أحدث الأساليب ومجهزاً بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ وكان ذلك بإشراف سليمان الفرنساوي، وأنشات له أسطولاً بحريًا حديثاً وترسانة بحرية في دمياط،
(1) والداهية أن يقوم كثير من الباحثين والأدباء بترجمة لرحلات الكثيرين من هؤلاء الأوربيين الصليبين الذين لم يتركوا بلدًا إِسلاميًا إلا وطئوه بغية ما ذكرناه من الأهداف السابقة، وينعتوها بأنها رحلات موضوعية ونزيهة هدفها خدمة الإنسانية ونشر العلم والمعرفة فحسب دون النظر إلى دين أو جنس، ولكن سرعان ما يدهشك ما تجده في طيات هذه الرحلات من حقد صليبي دفين على الاسلام وأهله وعبارات مليئة بالسم الزعاف.
وبعضهم كان يظهر صليبيته صراحة كما فعل الرحالة اليوت واربرتون في كتابه "الهلال والصليب" وكثير منهم يحاول عدم إظهار شيء من ذلك، ولكن تأبى عليهم صليبيتهم الحاقدة التي رضعوها مع لبن أمهاتهم محاولة إخفائه، وتفضح ما ادعوه من موضوعية وتجرد.
(2)
المصدر السابق (ص 202) .. وانظر إلى ضعف الولاء البراء في قول حافظ إبراهيم:
أنا مصري بناني من بنى
…
هرم الدهر الذي أعيا الفنا
وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر، وكل ذلك كما يقول الشيخ ليس حبًا في شخص محمد علي أو حبًا في مصر، وإنما كان ذلك لتنفيذ المخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بعد أن اضطرت للرحيل، وكان ذلك المخطط الخبيث يرمي إلى عدة أمور منها: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام بتغريب العالم الإسلامي عن طريق تغريب مصر - بلد الأزهر (1).
وقد قام محمد علي بالدور خير قيام! فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا فى محاولة الاستقلال عن الدولة العثمانية فحسب، بل في محاربة الدولة نفسها! وقد كاد أن يقضي عليها لولا تدخل بريطانيا خوفا من استئثار فرنسا بصداقة السلطان وبالنفوذ في مصر، وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى؛ فقد أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في الظاهر، ومنعته من مهاجمة الدولة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الدولة، والاستئثار بحكم مصر حكمًا وراثيًا ينتقل في ذريته، مع التبعية الإسمية للسلطان!! هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد علي في معركة "نافارين" لأنه نسي نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هي اليونان، فقد كبّرته الصليبية وسلّحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون، وأما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبيين بسوء، فهنا يجب تأديبه، بل تحطيمه تحطيمًا كاملاً إذا لزم الأمر (3).
على أن الجرم العظيم الذي تولى كبره محمد علي باشا هو قيامه بضرب الاتجاه الإسلامي السلفي في الجزيرة العربية تظاهرًا بطاعة السلطان
(1) المصدر السابق (ص 205).
(2)
المصدر السابق (ص 207).
العثماني الذي فقد السيطرة على بلاد الحرمين الشريفين، واتخذ من ذلك ستارًا لتنفيذ مخططات بريطانيا وفرنسا اللتين رأتا الوجود السعودي يشكل خطراً على مصالحهما، خصوصًا في الخليج العربي والبحر الأحمر (1).
وقد كان على رأس تلك الجيوش التي وجهها محمد علي ضباط فرنسيون وبعض النصارى (2).
وقد سرَّت فرنسا بذلك العمل الحربي المدمر، وكذلك بريطانيا وأبلغت فرنسا محمد علي عن طريق قنصلها في القاهرة أنها ممنونة مما رأته من اقتداره عن نشر أعلام التمدن في البلاد الشرقية (3)، ومن ذلك بالطبع ضرب الاتجاه السلفي في الجزيرة العربية.
أما تغريب العالم الإسلامي فقد عمل محمد علي على تحقيقه بفرض سياستين تغريبيتين، كانت الأولى تقضي بابتعاث الطلاب الشبان وإرسالهم إلى أوربا ليتعلموا هناك.
وكان هذا -كما يقول الشيخ محمد قطب- أخطر ما فعله في الحقيقة .. لأنه من هناك بدأ "الخط العلماني" يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية (4)، وقد كان من هؤلاء المبتعثين الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إمام إحدى البعثات وشيخها، والذي عاد حاصلاً معه بذور التغريب والعلمنة كالدعوة إلى تحرير المرأة، وأخذ يسهم في زعزعة عقيدة الولاء والبراء بإغراقه في مديح أوربا الكافرة والثناء عليها في كتب كثيرة لعل من أبرزها كتابه في مدح باريس (5) والذي قيل إنه أهداه إلى محمد
(1) قراءة جديدة في "تاريخ العثمانيين"(ص 189).
(2)
المصدر السابق (ص 187).
(3)
"الخطط التوفيقية"(10/ 177) لعلي باشا مبارك. دار الكتب. الطبعة الثانية 1969 م.
(4)
"واقعنا المعاصر"(ص 207).
(5)
المصدر السابق (ص 209).
علي فقبله باحترام. وقد بلغ عدد من أرسل من المصريين إلى سنة 1842 م مائة تلميذ (1).
وقد كاد أن يتم إرسال أطفال بين الثامنة والتاسعة إلى أووبا، واشترط نوبار باشا وهو سكرتير إبراهيم باشا ولي عهد محمد علي ونجله الأكبر أن يفصل بعضهم عن بعض في المعيشة أو يوضع كل اثنين في غرفة صغيرة (2).
ولكن هذا المخطط الخبيث أوقف تنفيذه بسبب هلاك إبراهيم باشا- حتى جاء الخديوي توفيق ونفذ ذلك المخطط وبدأ بإرسال نجليه الأميرين عباس حلمي ومحمد علي إلى سويسرا وكان عمر الأول اثنتي عشرة سنة والثاني عشر سنوات (3).
أما السياسة التغريبية الثانية التي سار عليها محمد علي فهي إنشاء نظام تعليمي جديد على نسق الأنظمة التعليمية في الغرب.
يقول الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: " ومهما يكن من شيء، فقد ظهر لمحمد علي أن التعليم في الأزهر لا يمكن أن يحقق أغراضه .. كما ظهر له أن التعليم الغربي أو التعليم الذي عرفته أوربا في عصره كان وحده الوسيلة لتحقيق أغراضه، وكان هذا كافيًا ليحمل محمد علي أن يحول وجهه عن الأزهر و"الكتاتيب" وينشئ بجانبها "نظامًا تعليميًا" قائمًا بنفسه، مقتبسًا من الغرب، وليس بينه وبين النظام التعليمي القديم إلا ما يكون بين نظامين
(1)"البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية" لمحمد فريد بك - المطبعة الأميرية ببولاق 1308 هـ.
(2)
"تاريخ التعليم في عصر محمد علي"(ص 432). أحمد عزت عبد الكريم. مكتبة النهضة الصرية، ط 1938م. وذلك حتى يسهل صهرهم تمامًا في المجتمعات الأوربية، وما عسانا كنا ننتظر من هذا السكرتير الصليبي.
(3)
"تاريخ التعليم في عصر محمد علي"(ص 433). وقد تولى الأول حكم مصر بعد ذلك.
يقومان جنبًا إلى جنب ويتجاذبان تعليم نابتة البلاد (1).
وإلا فلو كان محمد علي مسلمًا حقًّا ولم يكن منفذًا لأهداف الغرب ومخططاته لاتجه إلى إصلاح الأزهر والتعليم في عصره بردهما إلى الوضع الصحيح، ووضع كل إمكانياته التي استغلها في التغريب في سبيل ذلك الهدف الكبير.
ولكن محمد علي قد أصر على السير بالأمة في المضمار التغريبي المؤدي إلى الخياة الغربية وأساليبها وثقافتها، فقرر إنشاء نظام تعليمي كامل من المرحلة الابتدائية إلى المراحل العليا، وفتح المدارس على نمط المدارس الغربية.
وقد لجأ محمد علي إلى طريق الترجمة، حيث ترجمت كثير من الكتب في مختلف العلوم والقوانين العسكرية والبحرية، وقام بابتعاث الطلاب إلى هناك، واستقدام الأساتذة الأجانب إلى المدارس الجديدة التى أنشأها (2).
على أن هناك هدفًا خطيرًا كان يرمي إليه محمد علي باشا من وراء إنشاء هذا النظام التعليمي الجديد ألا وهو إلغاء دور الأزهر في المجتمع ومن ثَمَّ القضاء عليه بصورة غير مباشرة، وذلك حين يقوم بفتح العديد من المدارس ذات المميزات العالية التي تؤهل الدارسين فيها لتبوؤ المناصب الهامة، والأعمال الرفيعة في دولة الباشا.
يقول الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: "ولكن ابتعاد الأزهر عن مجال التوظيف أو عدم اتخاذه الأهبة لإعداد تلامذته بما يؤهلهم للحياة
(1) المصدر السابق (ص 588).
(2)
المصدر السابق (ص 30).
وللمجتمع الذي يعيشون فيه لم يلبث أن باعد بينه وبين كثير من خاصة الناس وصرفهم عنه إلى حد كبير. فقد كانت المناصب التي يصيبها خريجو المدارس، والثراء والاحترام اللذان يحظون بهما في أنحاء البلاد من سواد الناس ومن إليهم .. كل أولئك كان يخلب ألبابهم ويستهويهم إلى المدارس التي تقدم لهم هذا كله" (1).
وهل يكون إلغاء دور الأزهر وتحجيم أنشطته إلا بصرفه عن مجالات التوظيف، أو على الأصح بصرف مجالات التوظيف عنه .. ؟ وقطع صلته بالحياة العامة .. ؟
وحين أنشأ محمد علي مدارسه الحديثة كان محتاجًا إلى معلمين للغة
العربية ولم يكن هناك بالطبع غير الأزهر.
لذا فقد اتجه محمد علي إليه وأخذ منه ما يكفي مدارسه ومكاتبه من المعلمين، فكانوا فريقًا هامًا من موظفي المدارس (2).
ولكن يا ترى كيف كانت معاملته لهؤلاء الأزهريين الذين أعوزته الحاجة إليهم وقاموا بدور كبير في تدريس اللغة العربية وفروعها. داخل المدارس التي أنشاها كما بشهد بذلك كل من كتب في التعليم في ذلك العصر .. ؟
يجيبنا على ذلك الدكتور أحمد عزت عبد الكريم فيقول: "وكانت الحكومة تعلم أنهم لم يكونوا يمنحون في الأزهر مرتبات كبيرة، ولهذا نراها تبخل عليهم بتلك المرتبات وترى أنهم إنما يقومون "بمقاصد خيرية" ثوابها عند ربهم!! فقد كان هناك مدرسون بل رؤساء مدرسين قضوا بمدارسهم اثنا عشر
(1) المصدر السابق (ص 573).
(2)
المصدر السابق (ص 575).
عامًا لا يصيبون من الحكومة إلا مائتي قرش في الشهر، وهو قدر ضئيل يناله خريج مدرسة خصوصية حديث العهد بالوظائف، ثم هي تبخل عليهم بعد هذا ببضعة قروش تضيفها إلى مرتباتهم.
أما مكاتب المبتديان (1) فقد كان نظارها من علماء الأزهر .. وكان المشايخ من الأزهر وما إليه هم القائمون بالتدريس في مكاتب المبتديان .. وكان مرتب الواحد منهم أربعين قرشًا في الشهر أي بزيادة عشرة قروش على مرتب (الحلاق) أو الخياط .. وكان كاتب المكتب يصيب من المرتب أكثر مما يصيبه المعلم بعشرين قرشًا وكان يحمل الحكومة على هذا ما ذكرنا من أنها كانت تعلم أن أهل الأزهر لم يكونوا يصيبون فيه إلا أجرًا ضئيلاً أن كانوا قومًا زاهدين، لا يغرنهم متاع الحياة الدنيا" (2).
وما ذكر من تبرير ساقط لا يمكن أن يخفي أبدًا مقدار البغض والاحتقار الذي كان يكنه محمد علي للأزهر ورجاله.
وإن كان الإنجليز فيما بعد قد نهجوا نفس السياسة في احتقار الأزهريين وبخسهم مرتباتهم وحقوقهم، وفي إقصائهم عن مجالات التوظيف (3).
فليس ذلك بمستغرب منهم، ولكنا نستغرب أشد الاستغراب أن يقوم
(1) يعني: الابتدائية. والمبتديان لفظة تركية معناها "المبتدئون" بزيادة الألف والنون على الطريقة التركية مثل مجلس المبعوثان أي المبعوثين.
(2)
المصدر السابق (ص 575). لا شك أن الأجواء الموبوءة بالتصوف هي التي أوحت إلى محمد علي ورجال دولته إلى التعلل بمثل هذا الهراء الساقط للنيل من الأزهر ورجاله الذين كانت تعصف بهم رياح التصوف وأمواجه حين كان الفقر والحرمان: الإعراض عن الدنيا تمامًا منزلة يتسابق الناس إليها. ووجد هؤلاء التغريبيون المجال رحبًا للسخرية بهؤلاء الأزهريين الذين يعملون عندهم طلبًا للأجر في الأخرة، وراضين بما تلقيه الحكومة لهم من فتات.
(3)
"واقعنا المعاصر"(ص 217).
بمثل ذلك من يحسب على الإسلام والمسلمين، ويدعي الإسلام مثل محمد علي.
ولكن سرعان ما يزول هذا الاستغراب إذا عرفنا أن القائمين على التعليم في عهد محمد علي كان معظمهم من الغربيين النصارى، فمجلس شورى المدارس وهو الهيئة العليا للتخطيط والتنفيذ كان جميع أعضائه من الأجانب ما عدا ثلاثة.
على أن هناك أمرًا تجدر الإشارة إليه حول ما ذكر من ضآلة الأجور والمرتبات في الأزهر والتي كان من أهم أسبابها قيام محمد علي بالاستيلاء على الأوقاف التابعة للأزهر وضمها للدولة، وبالتالي إحكام السيطرة على المشايخ والقائمين على التعليم من رجال الأزهر (1).
وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية للناشئة من أبناء المسلمين، لم تنج من غائلة محمد علي؛ فقد ذكر الجبرتي رحمه الله أن كثيرًا من المكاتب أغلقت بسبب تعطل أوقافها واستيلاء محمد علي عليها (2).
وذكر الشيخ محمد عبده أن ما أبقاه محمد علي من أوقاف الأزهر والأوقاف الأخرى لا يساوي جزءًا من الألف من إيرادها. وأنه أخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي إلى اليوم (في عهد الشيخ محمد عبده) لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي أربعة آلاف جنيه في السنة (3).
(1)"قراءة جديدة في تاريخ العثمانين"(ص 179). للدكتور سليمان بيومي -عالم المعرفة-
جدة.
(2)
"عجائب الآثار"(3/ 478)، و"تاريخ نظام التعليم في جمهورية مصر العربية"(ص 80) منير عطا الله سليمان وآخرون الطبعة الثالثة 1972 م مطبعة الأنجلو المصرية.
(3)
"مذكرات الإمام محمد عبده"(ص 44) لطاهر الطناحي، دار الهلال.
هذه السياسة التغريبية التي نهجها محمد علي والمفروضة قهرًا على المسلمين كانت تنفيذًا للمخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل كما سبق وذكرنا.
وهو أمر أكده المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي في قوله: "كان محمد علي ديكتاتورًا أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في مصر"(2).
وهل يشك باحث عاقل بعد كل هذه الحقائق التي أوردناها أن محمد علي كان صنيعة من صنائع الغرب وعميلاً من عملائهم.
وسواء أكان وصوله إلى سدة الحكم نتيجة تخطيط صليبي أو على الأخص تخطيط فرنسي أو كان نتيجة لدهاء محمد علي ومكره ونفاقه أو كان للأمرين معًا (3)، فإن هذا كله لا يغير شيئًا، ولا ينفي أن محمد علي قد احتوته الدول الغربية، وأخذت تقوده في ركابها، خصوصًا وأن فيه من الصفات والخلال التي ينشدها المستعمرون دائمًا كجنون العظمة وغلظة القلب
(1) ونسجل هنا ملاحظة ذكرها المؤرخون حول أهداف التعليم وغاياته في عصر محمد علي وأنها لا تعدو تخريج جيل يدين بالولاء التام لشخص محمد علي -أو الجناب العالي كما كانوا يسمونه- ويتقرب بخدمته - تاريخ التعليم في عصر محمد علي (ص 621) أما أن يكون الهدف هو إعداد جيل من الشباب المسلم يخدم دينه وأمته فذاك أمر لا يتفق مع سياسة محمد علي في ولائه للغرب وتبعيته له.
(2)
"قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين"(ص 182).
(3)
ويرجح عندي الأمران معًا، لان كان من يقرأ تاريخ الجبرتي يستبعد الأمر الأول ويجزم بالأمر الثاني، إلا أن الظروف تشير إلى وقوع الأمر الأول كما يقول الشيخ محمد قطب. ويؤيد هذا. د. زكريا سليمان بيومي الذى أشار مع غيره من الباحثين إلى دور الماسونية الفرنسية في تولية محمد علي. انظر "قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين"(ص 160 - 170)، و"واقعنا المعاصر"(ص 205) وما بعدها. وليس عجيبًا بعد هذا أن يتابع محمد علي أخبار حروب نابليون وفرنسا، وأن يوافيه القنصل الفرنسي في القاهرة بهذه الأخبار أولاً بأول وتنشر في ملصقات على الجدران في حارات الأجانب وغيرها.
وفظاظة الطبع ورقة الديانة أو عدمها (1).
وقد عمل محمد علي طوال سنوات حكمه على القضاء على عقيدة الولاء والبراء، واستخدام سياسة العسف والإرهاب والتنكيل في أنحاء مملكته لينتزع هذه العقيدة من قلوب المسلمين، ويقضي عليها قضاءً مبرمًا (2).
قال الرحّالة الإنجليزي (كنغليك) الذي زار الشرق الإسلامي في الثلث الأخير من حكم محمد علي 1252 - 1253هـ (1833 - 1834م) غامزًا الباشا المفتون، وذاكرًا تبعيته للغرب وعدم استقلاله الكامل بإصدار القرار إلا بعد موافقة أسياده عليه.
يقول: "وبرغم وجود الجيوش المصرية الكثيرة فقد فهم كل فلاح (3) أن أربعة أو خمسة من الوجوه الشاحبة في فيينا أو بطرسبورج أو لندن (4) يمكن أن ينزلوا الباشا المصري من عليائه بمجرد ورقة يكتبون عليها حكمهم عليه. وكان علم الأهالي أن قوة محمد علي مستمدة من القائد الفرنسي وفنونه الحربية ومن المحركات والآلات الإنجليزية .. "(5).
وقد قام ابنه إبراهيم باشا (6) بإلغاء كافة القيود المفروضة على النصارى
(1) يقول الشيخ محمد قطب: ليس من باب المصادفة أن الذين اختيروا للأدوار الكبرى في حرب الاسلام كانوا متصفين بجنون العظمة وقسوة القلب من أمثال محمد علي وكمال أتاتورك وجمال عبد الناصر .. ذلك أنهما صفتان لازمتان لمثل هذا الدور العظيم. "واقعنا المعاصر" هامش (ص 205).
(2)
"الإنحرافات العَقَدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين" لعلي بن بخيت الزهراني (ص 163 - 181) - دار طيبة.
(3)
يعني المسلم من أهل الشام لاشتغالهم بالزراعة.
(4)
في هامش الصفحة يعني رجال السياسة.
(5)
" رحلة كنغليك إلى المشرق "(ص 111).
(6)
الابن الأكبر لمحمد علي وحاكم الشام من قل أبيه. وكان أكثر انفتاحًا على الغرب من أبيه كما يروي ذلك الغربيون أنفسهم .. انظر ترجمته في "الأعلام" للزركلي (1/ 70).
اليهود في كل بلد سيطر عليه تحت دعوى المساواة والحرية، وذلك في أثناء حكمه للشام من قبل أبيه، وقام بإعطاء النصارى امتيازات؛ ومن ذلك فتح محلات علنية لبيع الخمور في دمشق والسماح بحمل الصلبان وشرب الخمر في الشارع (1).
وعندما ذهب إليه نفر من علماء الشام يشكون إليه انقلاب الأوضاع ويبسطون أمامه ألمهم من استعلاء الذميين وركوبهم الخيل كالمسلمين لم يكن من إبراهيم إلا أن سخر منهم سخرية مرة وردهم كاسفي البال؛ إذ نصحهم أن يركبوا الجمال من اليوم حتى يصيروا أعلى من النصارى كافة؟ (2).
وقد شمخ النصارى بأنوفهم، وأشرأبت أعناقهم خصوصًا رجال الدين منهم في عهد محمد علي وابنه إبراهيم باشا؛ ومن ذلك أن بطريرك الروم مكسيموس في حلب وقت احتلال إبراهم باشا لها كان يدور أحيانًا في شوارع حلب وهو راكب بأبهة زائدة وموكب حافل يتلقى المسلمون منه ذلك كارغام لهم وتعالي عليهم وقاصدًا إهانتهم (3).
أما اليهود فقد شملهم عطف الباشا، ونعموا بالحرية التي أطلقها لهم والامتيازات التي منحهم إياها.
وحادثة يهود صفد أوضح مثال على ذلك؛ يوم أن ثار المسلمون عليهم ونهبوا بعض أموالهم وممتلكاتهم، ولسنا الآن بصدد الحديث عن هذه الثورة وأسبابها، إنما الذي يعنينا هو ما حدث بعد هذه الثورة من إصرار القناصل
(1)"قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين"(ص 192)، وما ذكر من أمور فيه إشارة إلى تأثير المحفل الماسوني عليه ودور هذا المحفل التابع لفرنسا في دعم أطماعه وأطماع أبيه.
(2)
الشرق الإسلامي في العصر الحديث (ص 275). لحسين مؤنس. مطبعة حجازي. القاهرة. الطبعة الثانية 1938 م.
(3)
"نهر الذهب في تاريخ حلب"(3/ 375) لكامل بن حسين البالي الحلبي الغزي. المطبعة المارونية.
الأوربيين على دفع التعويض من خزينة الدولة العلوية، وقد بالغ كل من القناصل واليهود في تقدير حجم الخسائر والمنهوبات، أما قنصل بريطانيا في الإسكندرية فقد قدر من مكانه هناك أن خسائر اليهود قد بلغت سبعين ألف جنيه، وهو رقم يفوق ما وقع أضعافًا مضاعفة.
ولم يسع محمد علي تحت ضغط القناصل إلا أن يصدر أمرًا بتعويض اليهود ولكن ليس من خزينة الدولة التي يملكها، بل من أموال وممتلكات المسلمين الذين تحمل فقراؤهم والمعسرون منهم ثقل هذا التعويض.
ومع علم محمد علي بكذب ادعاءات اليهود والقناصل ومبالغتهم في تقدير الخسائر إلا أنه كما قال: "ما دام أصدقاؤنا القناصل أصروا وصمموا على ذلك فتخلصنا من هذه القائلة. فقد صدرت الأوامر خطية إلى سليمان باشا (الفرنساوي) ببيع أملاك وعقارات هؤلاء الفقراء لتقسم أثمانها على المدعين كذبًا - وتلك الأوامر مرسلة عن طيه لتسليمها إلى القناصل ليوصلوها بمعرفتهم إلى الباشا المومى إليه"(1).
ومع عظم الهالة التي أحيط بها محمد علي من قبل المستشرقين ومن اقتفى أثرهم من المؤرخين القوميين والعلمانيين حول ما قام به من إصلاحات في كثير من المجالات التعليمية والاقتصادية والعسكرية إلا أنه من الثابت من سيرة محمد علي أنه يكره المصريين ويحتقرهم ويزدريهم أيما ازدراء، كما قال أحدهم: إن محمد علي كان يحب مصر ولم يكن يحب المصريين.
وليس أدل من ذلك إلا قوله يخاطب الفرنسيين ويفاوضهم على مسألة
(1) من مرسوم أصدره محمد علي باشا بتاريخ 29 رجب 1253هـ. رحلة كنغليك هامش (ص 122) ووقوف القناصل الأوربيين بجانب اليهود أمر ليس بالغريب (بعضهم أولياء بعض). وإحراج الأسياد وإذلالهم لعملائهم أمر ظاهر للعقلاء، وإن فهمه السذج والمغفلون على غير ذلك الوجه.
احتلال الجزائر وهو: "ثقوا أن قراري .. لا ينبع من عاطفة دينية فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرر من هذه الاعتبارات التي يتقيد بها قومي .. وقد تقولون أن مواطني حمير وثيران وهذه حقيقة أعلمها"(1).
وقد كان محمد علي باشا متواطئًا مع الفرنسيين عند احتلالهم للجزائر، حتى لقد هم -بعد أن جاءته الأوامر بالطبع! - أن يقوم بنفسه باحتلال الجزائر خدمة للفرنسيين وعملاً لحسابهم الخاص إلا أن أسياده رفضوا تلك الفكرة التي تهيج المسلمين وتثيرهم بعد أن ينكشف أمر عميلهم؛ لذا بادروا إلى إلغائها، واكتفى محمد علي بتزويد الفرنسيين في الجزائر بالغلال (2).
ويذهب الدكتور سليمان الغنام إلى أن بريطانيا لما علمت بعزم محمد علي ثارت ثائرتها وهددته بنسف أسطوله إن هو فكر في ذلك (3).
ْوبعد فهذه وقفة متأنية مع واحد ممن حكموا المسلمين فترة طويلة وعملوا على القضاء على مظاهر هذه العقيدة بشكل مباشر تمثل في سياسة العسف والإرهاب. وبشكل غير مباشر اتخذ التغريب له مسارًا، وإن كان الشكل الثاني كانت له آثار بعيدة المدى، على عكس الأول الذي ما زاد هذه العقيدة في نفوس المسلمين إلا رسوخًا. واستحق بذلك جد الأسرة العلوية أن يكون رائد التغريب الأول في العالم الإسلامي، وعلى رأس من لجوا في موالاة الكافرين، وأمعنوا في اتباعهم، وسعوا في تقويض هذه العقيدة العظيمة بكل ما أوتوه من وسائل القوة التي كانوا يملكونها.
(1)"قراءة جديدة في سياسة محمد علي باشا التوسعية"(ص 84) للدكتور سليمان الغنام دار تهامة، سنة 1980 م، ط الأولى، وذلك الإسفاف في التعبير يفوق أي تعليق.
(2)
"الشرق الإسلامي"(ص 311).
(3)
"قراءة جديدة في سياسة محمد علي باشا"(ص 84).