الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
السيد عمر مكرم ومواجهته لمحمد علي وغدر محمد علي به:
بلغ محمد علي من العتو والظلم والصلف مبلغًا كبير الدرجة أنه أمر الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر بلزوم داره وعدم الخروج منها ولا حتى إلى صلاة الجمعة (1).
وقد تبوأ (محمد علي) عرش مصر وتمكن من حكمها بمساعدة العلماء الذين أوصلوه إلى سدة الحكم بشرط إقامة الشريعة والعدل، ولكن ما إن ثبت أقدامه في السلطة حتى غدر بهم وقلب لهم ظهر المجن، فكان أول عمل قام به أن نفى نقيب الأشراف الشريف (عمر مكرم) الرجل الأول في إيصاله إلى الحكم وأول من بايعه من الناس.
وسبب ذلك كثرة المظالم والمغارم التي أحدثها (محمد علي باشا)، حيث اجتمع الناس في الأزهر وأبطلت الدروس، واجتمع المشايخ والسيد عمر وكتبوا عرضحال إلى الباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم، وحبس شخص من أهل العلم بلا ذنب، وقد تعاهدوا وتعاقدوا على الاتحاد وترك المنافرة.
فأرسل إليهم الباشا رسولاً يسألهم عن طلبهم فعرفوه بما سطروه إجمالاً وبينوه له تفصيلاً، فقال: ينبغي ذهابكم إليه وتخاطبونه مشافهة بما تريدون، وهو لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم. فقالوا بلسان واحد: لا نذهب إليه أبدًا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه، كما "كنا في السابق فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور.
فحاول الرسول إقناعهم بالمجيء فأبوا أشد الإباء، وقالوا: لا نجتمع
(1)"عجائب الآثار"(3/ 134).
عليه أبدًا ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا ونقتصر على حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا، فأخذ منهم العرضحال ووعدهم برد الجواب، وبعد عودته أطلق ذلك الشخص الذى كان محبوسًا، وتأخر الجواب.
ولكن العلماء لم يكونوا على قلب رجل واحد فإن فيهم الانتهازيين وطلاب المناصب، وهل أتي الناس قديمًا وحديثًا إلا من قبل هؤلاء الذين أضاعوا علمهم ورغبوا في الفاني عن الباقي؟! وهل تمكن الطغاة والمتجبرون إلا على أكتاف هؤلاء الطغمة المنسوبة إلى العلم ممن جعلوه وسيلة إلى قضاء مآربهم، وحظوظ نفوسهم؟!.
ثم اجتمع شيخان من مشايخ الأزهر هما: الشيخ المهدي والشيخ الدواخلي، مع محمد أفندي طبل ناظر المهمات في حكومة محمد علي، وقد كان الثلاثة على غير وفاق مع السيد عمر، وتناجوا مع بعضهم.
ثم ذهب الشيخان المذكوران إلى السيد عمر وأخبراه عن أن محمد أفندي ذكر لهم أن الباشا لم يحدث شيئًا من تلك المظالم، وقد كذب من نقل ذلك، وقال: إنه يقول: إني لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم معه يحصل كل المراد.
ولكن السيد عمر قد سئم من ألاعيب محمد علي وخبرها جيدًا، فبين لهذين الشيخين أن ما قاله محمد أفندي كذب لا أصل له، وأراهم بعض الأوراق التي تشتمل على المطالبة بهذه المظالم الجديدة، وقال لهم: أما الذهاب إليه فلا أذهب إليه أبدًا وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا فالرأي لكم، ثم انفض المجلس.
"وأخذ الباشا يدبر في تفريق جمعهم وخذلان السيد عمر، لما في نفسه منه من عدم إنفاذ أغراضه ومعارضته له في غالب الأمور، ويخشى صولته ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره إن شاء جمعهم وإن شاء فرقهم،
وهو الذي قام بنصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الأقليم".
ثم ذهب الشيخان المذكوران وديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان، وحضر الجميع عند السيد عمر، وطال بينهما الكلام، والسيد عمر مصمم على الامتناع.
"ثم قام المهدي والدواخلي وخرجا صحبة ديوان أفندي والترجمان وطلعوا إلى القلعة وتقابلوا مع الباشا، ودار بينهم الكلام، وقال في كلامه: أنا لا أرد شفاعتكم، ولا أقطع رجاءكم، والواجب عليكم إذا رأيتم مني انحرافًا أن تنصحوني وترشدوني.
ثم أخذ يلوم على السيد عمر في تخلفه وتعنته، ويثني على البواقي، ويقول عنلا: وفي كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوفني بقيام الجمهور.
فقال الشيخ المهدي: هو ليس إلا بنا وإذا خلا عنا فلا يسوي بشيء، إن هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف؛ يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين (1)، فعند ذلك تبين قصد الباشا لهم ووافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر.
ثم عادوا إلى السيد عمر وأخبروه بأن الباشا يقبل الشفاعة، ولم يقع منه خلاف، وأخبروه بقول الباشا: "وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر، فهذا لا يناسب منكم وكأنكم تخوفوني بهذا الاجتماع وتهيج الشرور وقيام الرعية، كما كنتم تفعلون في زمان المماليك فأنا لا أفزع من
(1) مما يؤسف له أن السيد (عمر مكرم) لم يكن من جملة العلماء المتصدرين في الأزهر، كما يفهم ذلك من كلام الشيخ المهدي، ولكنه كان مخلصًا في خدمة الناس، وجادًا في رفع المظالم عنهم؛ لذا لا نعجب من التفافهم حوله، وخوف محمد علي باشا من تلك المكانة، ومسارعته إلى إسقاطها.
ذلك وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم إلا السيف والانتقام (1).
ثم إن المشايخ وديوان أفندي وعبد الله بكتاش اجتمعوا في بيت السيد عمر مكرم وتكلموا في شان الطلوع إلى الباشا ومقابلته، فحلف السيد عمر إنه لا يطلع إليه ولا يجتمع به ولا يرى له وجهًا إلا إذا أبطل المظالم التي أحدثها، وبين موقفه قائلاً:
إن جميع الناس يتهموني معه، ويزعمون أنه لا يتجارأ على شيء يفعله إلا باتفاقي معه، وامتنع عن الطلوع، فاتفقوا على طلوع الشيخ عبد الله الشرقاوي والمهدي والدواخلي والفيومي وذلك على خلاف غرض السيد عمر، فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية.
وحاول الباشا أن يراوغهم ويظهر أنه أبطل المظالم، ثم عادوا إلى السيد عمر وأخبروه بما وقع، فأخبرهم بكذب ذلك للمرة الثانية، وعاتب المشايخ لمسايرتهم له وعدم إنكارهم عليه، "ووجه عليهم اللوم في نقضهم العهد والأيمان، وانفض المجلس وتفرقت الآراء، وراج سوق النفاق وتحركت حفاظ الحقد والحسد وكثر سعيهم وتناجيهم بالليل والنهار، والباشا يراسل السيد عمر ويطلبه للحضور إليه والاجتماع به ويعده بإنجاز ما يشير عليه به.
وأرسل إليه كتخدا (النائب) ليترفق به، وذكر له أن الباشا يرتب له كيسًا في كل يوم، ويعطيه في هذا الحين ثلثمائة كيس خلال ذلك فلم يقبل، ولم يزل الباشا متعلق الخاطر بسببه، ويتجسس ويتفحص عن أحواله وعلى من يتردد عليه من كبار العسكر، وربما أغوى به بعض الكبار فراسلوه سرًّا وأظهروا له كراهتهم للباشا وأنه إن انتبذ لمفاقمته ساعدوه وقاموا بنصرته عليه
(1) وهذا يكشف ويزيح القناع عن وجهه الحقيقي وعدم احترامه للعلماء حين يلوّح بسيف البطش والتهديد ليخرس الألسنة ويقضي على النفوس الحرة الأبية.
فلم يخف على السيد عمر مكرم (1) ولم يزل مصممًا وممتنعًا عن الاجتماع به والامتثال إليه ويسخط عليه".
وفي ذلك الوقت أمر الباشا بكتابة عرضحال بسبب المطلوب لوزير الدولة وهي أربعة آلاف كيس، ويذكر أنها صرفت في مشاريع وأعمال؛ كسد ترعة الفرعونية ومحاربة الأمراء المصرية (المماليك) - حتى دخلوا في طاعة الدولة، وعمارة القلعة والقناة التي تنقل المياه إليها وحفر الخلجان والترع.
ثم أرسله إلى السيد عمر ليضع خطه وختمه عليه فامتنع وقال: "أما صرفه على سد الترعة فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافًا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذ من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعه الدفاتر".
فلما أخبر الباشا بذلك حنق واغتاظ في نفسه وطلبه للاجتماع به فامتنع، فلما أكثر عليه قال: إن كان ولا بد فأجتمع معه في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون، فلما أخبر بذلك ازداد حنقه وقال:"إنه بلغ به أن يزدريني ويرذلني ويأمرني بالنزول من محل حكمي إلى بيوت الناس".
ثم اجتمع الباشا مع المشايخ في اليوم الثاني في بيت ولده إبراهيم، وأرسل رسولاً من طرفه ورسولاً من طرف القاضي يطلبه للحضور ليتحاقق ويتشارع معه، فرجعا وأخبرا بأنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور في هذا اليوم، فعند ذلك أحضر الباشا خلعة، وألبسها الشيخ السادات على نقابة الأشراف وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر ونفيه من مصر يوم تاريخه، فتشفع المشايخ في إمهاله ثلاثة أيام حتى يقضي أشغاله، فأجاب إلى ذلك؛ فتقبل السيد عمر أمر النفي بصدر رحب.
(1) رحم الله السيد عمر مكرم فقد كان بصيراً بكل ذلك ولم تؤثر فيه نوازع الرغبة والرهبة.
وفي يوم الأحد أول رجب عام 1224 هـ اجتمع المودعون للسيد عمر، ثم حضر محمد كتخدا، فعند وصوله قام السيد عمر وركب في الحال، وخرج صحبته وشيعه الكثير من المتعممين وغيرهم وهم يتباكون حوله حزنًا على فراقه، وكذلك اغتم الناس على سفره وخروجه من مصر لأنه كان ركنًا وملجأ ومقصدًا للناس ولتعصبه لنصرة الحق (1).
وفي صبح ذلك اليوم، حضر الشيخ المهدي عند الباشا وطلب وظائف السيد عمر فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعي، ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وحاسب على المنكسر له من الغلال مدة أربع سنوات فأمر بدفعها له من خزينته نقدًا، وقدرها خمسة وعشرون كيسًا، وذلك في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذكر (2).
وفي مستهل شعبان نمق مشايخ الوقت عرضحال في حق السيد عمر، بأمر الباشا، ليرسله إلى الدولة وذكروا فيه سبب عزله ونفيه عن مصر، وعدوا له مثالب ومعايب وجنحًا وذنوبًا:
منها أنه أدخل في دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلم من القبط واليهود.
ومنها أنه أخذ من الألفي (أحد زعماء المماليك الكبار) مبلغًا من المال ليملكه مصر في فتنة أحمد باشا خورشيد، وأنه كاتب الأمراء المصريين أيضًا في وقت الفتنة ليأخذوا مصر على حين غفلة من أهلها في يوم قطع الخليج (الاحتفال بوفاء النيل).
وأنه أراد إيقاع الفتن في العساكر لينقضن دولة الباشا ويولي خلافه
(1) انظر تفاصيل هذه الواقعة الأليمة في "عجائب الآثار"(3/ 265 - 272).
(2)
المصدر السابق (3/ 272).