الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التواتر يفيد العلم (1).
ويهمنا من هذه الأقسام الحكم الشرعي العملي، كما ينحصر بحثنا في إطلاق الحكم عند الأصوليين، وهذا ينقلنا لتعريف الحكم في الاصطلاح الأصولي.
تعريف الحكم اصطلاحًا:
عرف جمهور علماء الأصول الحكم بأنه: خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا (2).
شرح التعريف:
1 -
خطاب: الخطاب كالمخاطبة مصدر خاطب، وهو توجيه الكلام المفيد إلى السامع، وهذا المصدر لا يتعلق به أمر ولا نهي، فنقل المعنى إلى المجاز وهو الكلام الموجه نفسه، فأطلقوا المصدر "خطاب" وأرادوا فيه اسم المفعول وهو الكلام المخاطَب به، قال الآمدي: الخطاب هو اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ للفهم (3)، والمراد من خطاب اللَّه تعالى هو الكلام الأزلي النفسي للخالق، ويخرج الكلام اللفظي المتصف بالحركات والصوت فهو حادث (4).
2 -
اللَّه: الخطاب جنس يشمل جميع أنواع الكلام الموجه، وإضافته إلى لفظ الجلالة قيد أول، فيخرج من التعريف خطاب الملائكة وخطاب الناس وخطاب الجن وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال
(1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 71.
(2)
إرشاد الفحول: ص 6، تسهيل الوصول: ص 246، منهاج الوصول: ص 4، مختصر ابن الحاجب: ص 33، الحدود في الأصول، الباجي: ص 72.
(3)
الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 90.
(4)
فواتح الرحموت: 1 ص 57، تيسير التحرير: 2 ص 130، نهاية السول: 1 ص 39.
الجبلية التي لا تدخل في السنة وسبق الكلام عنها.
والتعريف يشمل خطاب اللَّه تعالى الصريح في القرآن الكريم، ويشمل كل ما أشارت إليه الآيات الكريمة من المصادر الأخرى، كالسنة والإجماع وغيرها.
وفهم بعض الأصوليين أن خطاب اللَّه محصور في القرآن الكريم، فقال: إن التعريف غير جامع، لعدم دخول السنة والإجماع والقياس فيه، فعرف الحكم بقوله:"هو خطاب الشارع"(1).
ورُدَّ الجمهور عليهم بأن القرآن الكريم أشار إلى هذه الأدلة فتكون داخلة في التعريف بلفظ "خطاب اللَّه" وأن هذه المصادر ليست مشرعة بذاتها، وإنما هي أمارات معرِّفة لحكم اللَّه، ووسائل كاشفة عنه وموصلة إلى خطاب اللَّه تعالى (2).
وخطاب اللَّه تعالى يشمل كلامه الموجه في أمور العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات
…
، ويشمل كلامه تعالى المتعلق بذاته وصفاته .. ، وكلام اللَّه تعالى المتعلق بالخلق والإيجاد، والمتعلق بذات المكلفين.
3 -
المتعلق: اسم فاعل من التعلق، وهو الارتباط، فالحكم هو كلام اللَّه تعالى المرتبط بأفعال المكلفين في بيان المراد منها بإيجاب أو ندب أو تحريم، وهو تعلق معنوي قديم، لأن كلام اللَّه تعالى نفسي قديم، ولكن ظهوره للمكلف بالألفاظ والحركات حادث ومتوقف على البعثة ووجود المكلف، فالحادث هو أن يصير المكلف مشغول الذمة
(1) الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 91.
(2)
أصول الفقه لغير الحنفية: ص 73، فواتح الرحموت: 1 ص 56، تيسير التحرير: 2 ص 133، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 48.
بوجوب الفعل أو تحريمه مثلًا (1).
4 -
أفعال: جمع فعل، ومعناه العرفي ما يقابل القول والاعتقاد والنية، أما معناه هنا في التعريف فهو كل ما يصدر عن المكلف وتتعلق به قدرته من قول أو فعل أو اعتقاد أو تقرير، مثل الضرب باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان، والنية والاعتقاد بالقلب.
ولفظ "أفعال" قيد ثان يخرج الخطاب الذي يتعلق بغير الأفعال، كالخطاب المتعلق بذات اللَّه تعالى وصفاته، مثل قوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وما يتعلق بذات المكلفين، كقوله تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 55]، وما يتعلق بأعيان الجمادات، كقوله تعالى:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47]، فهذه الأمور الثلاثة ليست أحكامًا مع أنها خطاب اللَّه تعالى وكلامه في القرآن الكريم.
5 -
المكلفين: جمع مكلف، وهو الإنسان البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة، وإن طرأ عليه عارض بنفي كالإكراه والنسيان، ولفظ المكلفين جمع والمراد منه المفرد، وهو من إطلاق العام وإرادة الخاص أي المكلف الواحد، ويكثر استعماله في اللغة، مثل قولهم: فلان يركب الخيل ويلبس البرود ويخدمه العبيد، أي جنس الخيل والبرود والعبيد، مع أنه يركب فرسًا واحدًا ويلبس بردًا واحدًا وقد يخدمه عبد واحد، ويؤكد ذلك القاعدة الأصولية القائلة "مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادًا"، مثل قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].
ويدخل في التعريف الأحكام الخاصة بمكلف واحد، مثل
(1) حاشية البناني، المرجع السابق، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 74، أصول الفقه، البرديسي: ص 44.
خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم وخصوصية أحد الصحابة كخزيمة وأبي بردة (1).
واختار بعض الأصوليين في التعريف "فعل المكلف" بالمفرد، ليتناول الخصوصيات، لأن الجمع لا يشمل الأحكام الخاصة (2)، ويُردَّ عليهم بما سبق، وأنه لا فرق بين الجمع المحلى بلام الاستغراق والمفرد المحلى بها في العموم (3).
ويخرج من التعريف الإنسان غير المكلف كالصبي والمجنون، مع أن الشريعة الغراء ذكرت أحكامًا كثيرة تتعلق بالصغار والمجانين، مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطلب الإذن في الدخول، وهذا ما دفع بعض علماء الأصول لاستبدال لفظ المكلفين بلفظ العباد، ليشمل الصغار والمجانين، فقال:"هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال العباد"(4).
ولكن جماهير العلماء ردوا هذا البدل، لأن الأحكام المتعلقة بالصغار والمجانين لا ينطبق عليها خواص الحكم الشرعي، وإنما شرعت لهم من أجل التعويد والتربية، وأن المخاطب بالحكم هو الولي والوصي والقيم، فاللَّه سبحانه وتعالى خاطب الأب ليعود ولده على الصلاة، وأن يربيه على الاستئذان في الدخول، وأن يطهر ماله بالزكاة، وأن ثبوت الثواب من اللَّه تعالى على صلاة الصبي هو فضل من
(1) اختصاص أبي بردة بإجزاء العناق في الأضحية، وهي أنثى المعز من وقت ولادتها إلى أن تستكمل ستة أشهر، أو التي لم تبلغ سنة، وسبق بيان اختصاص خزيمة بالشهادة، والإشارة إلى خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2)
جمع الجوامع مع حاشية العطار: 1 ص 67، وحاشية البناني: 1 ص 48، فواتح الرحموت: 1 ص 54.
(3)
تيسير التحرير: 2 ص 133.
(4)
تيسير التحرير: 2 ص 132، تسهيل الوصول: ص 247، فواتح الرحموت: 1 ص 56.
اللَّه تعالى ومنَّه وكرم، لأن الثواب ليس من لوازم التكليف بل من فضله تعالى (1).
6 -
اقتضاء: الاقتضاء هو الطلب، والطلب إما أن يكون طلب فعل أو طلب ترك، وكل منهما إما أن يكون طلبه جازمًا أو غير جازم، فأنواع الطلب أربعة، وهي:
الأول: طلب الفعل بشكل جازم وهو الإيجاب.
الثاني: طلب الفعل بشكل غير جازم وهو الندب.
الثالث: طلب الترك بشكل جازم وهو التحريم.
الرابع: طلب الترك بشكل غير جازم وهو الكراهة.
فالاقتضاء يشمل خطاب اللَّه تعالى المبين للإيجاب والندب والتحريم والكراهة (2).
7 -
أو تخييرًا: وهو تخيير المكلف بالخطاب بين الفعل والترك، دون ترجيح لأحد الجانبين على الآخر، ويسمى إباحة، وحرف "أو" ليس للتشكيك بل للتنويع (3).
ويخرج من التعريف خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين للعبرة والعظة والاعتبار والإعلام، مثل قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، فتعلق الخطاب بفعل المكلف ليس للاقتضاء أو التخيير أو الوضع، بل للعبرة (4).
8 -
أو وضعًا: الوضع هو الجَعْل، وهو خطاب اللَّه تعالى المتعلق
(1) جمع الجوامع مع حاشية العطار: 1 ص 72، تيسير التحرير: 2 ص 133.
(2)
فواتح الرحموت: 1 ص 57، والمراجع السابقة.
(3)
فواتح الرحموت: 1 ص 54.
(4)
أصول الفقه، البرديسي: ص 42.