الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسار الأمر على هذا المنوال في التابعين الذين نهجوا طريق الصحابة، وتتبعوا خطاهم، وتتلمذوا على أيديهم، واستمر اجتهاد التابعين يغطي حاجات المجتمع الكثيرة المتجددة، وتبلورت فيه بعض المبادئ الأصولية الجديدة، فكان سعيد بن المسيب مثلًا يراعي المصلحة في الاستنباط عند فقد النص، بينما كان إبراهيم النخعي يعتمد على القياس، فيستخرج العلة في المسألة التي ورد فيها نص، ويطبقها على الفروع، وينقل حكم النص إلى حكم الفروع (1)، وكان مجاهد رحمه الله تعالى يعتمد على الرأي، ويطلق عنان العقل في البحث والاجتهاد، وفي تفسير القرآن.
التشريع في زمن الفتوحات:
بدأت الفتوحات خارج الجزيرة العربية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستمرت في اتساعها في عهد عثمان وعلي، ثم في
= القصرى بعد الأربعة أشهر وعشر، (انظر سنن أبي داود: 2 ص 536، مغني المحتاج: 3 ص 388، الرسالة: ص 573، فتح القدير: 3 ص 275، المغني، ابن قدامة: 8 ص 117، شرح قانون الأحوال الشخصية، لأستاذنا المرحوم الدكتور مصطفى السباعي: 1 ص 275، أصول الفقه، أَبو زهرة: ص 11، أصول الفقه، البرديسي: ص 7، سنن ابن ماجه: 1 ص 654).
قال ابن عباس لعثمان: أين تجد الاثنين جماعة في لسان قومك، فالأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة (وذلك في حجب الأم من الثلث إلى السدس لوجود أخوين فقط) فقال عثمان رضي الله عنه:"لا أستطيع أن أنقض ما كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث به الناس" وهو التزام الإجماع السابق، انظر المحلى لابن حزم: 9/ 258، الفرائض والمواريث والوصايا، لنا ص 112.
(1)
مباحث الحكم: ص 43، مصادر التشريع الإسلامي: ص 26، أصول الفقه، خلاف: ص 16، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 15، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 85 وما بعدها، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، الدهلوي: ص 10 وما بعدها.
عهد معاوية وبني أمية وبني العباس، وسارت شرقًا حتى الصين، وغربًا حتى جنوب فرنسا، وذلك خلال القرنين الأول والثاني من الهجرة.
ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولبى نداءَ الله شعوبُ الأرض في هذه البلاد، وانخرط في سلك الدعوة غير العرب من جميع الأجناس واللغات من كل حدب وصوب، فاختلط العرب بغيرهم، وضعفت اللغة العربية في ربوع الدولة الإسلامية، وتسربت العجمة إلى مجالس العلم والعلماء، ولم ينحصر العلم باللغة العربية، بل لم تبق الفصحى لغة التخاطب والكتابة، وبرز من غير العرب أئمة وعلماء، لا يدخلون تحت الحصر، ولم يعد الاجتهاد ميسورًا وسهلًا كما كان في زمن الصحابة والتابعين، واستجدت قضايا ومشاكل ونظريات وحركة عمرانية، وتفتح العقل على أمور لم يرد عليها نص في القرآن الكريم ولا في السنة، ولم يترك الصحابة والتابعون فيها رأيًا، فاتسع الاجتهاد، وفتح الباب على مصراعيه، وأدلى كل عالم بدلوه، وقام بواجبه في استنباط الأحكام الشرعية لكل جديد، وشرع الناس أيضًا بتدوين الأحكام مع تدوين السنة، وظهرت في هذا العصر أيضًا الفرق المختلفة، كالروافض (1) والخوارج والشيعة والمعتزلة، فأدى ذلك إلى الاختلاف الواسع في الاجتهاد، وتأثر كل فريق من العلماء بما وصل إليه من تراث السلف رواية ودراية، وبرز إلى الوجود أئمة أعلام، يتميزون بالكفاءات العلمية والملكات الفريدة.
وكان من نتيجة ذلك أن تميزت مناهج العلماء والأئمة، واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية بذكر الأدلة والحجج والعلل والأصول العامة،
(1) الروافض هم الذين كانوا مع زيد بن علي بن الحسين بن علي رحمهم الله تعالى، ثم تركوه لما رفض أن يتبرأ من الشيخين، وقال لهم:"كانا وزيري جدي" ثم أصبح هذ اللقب لكل من غلا من الشيعة (الوصول إلى الأصول 1/ 52 هامش).
وانقسم العلماء إلى مدرستين:
الأولى: مدرسة الحديث، ومقرها الحجاز في مكة والمدينة، وتعتمد على الرواية والأثر، وشاع بين أهلها بعض الركود والكسل والعجز عن الجدل والنظر، ووقع بهم الارتباك عند نزول الوقائع الجديدة بهم، وظهر عليهم الضعف في الرد على الخصوم، أو الانتصار لطريقتهم.
والمدرسة الثانية: مدرسة الرأي، ومركزها العراق في الكوفة والبصرة، وتعتمد على الاجتهاد والعقل والفكر والاستنباط، وكانت تفتقر إلى الحديث، وتشدد في التثبت من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لشيوع الزندقة في العراق، وانتشار الوضع في الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتمدوا على النصوص لاستخراج الأحكام، ثم نشطوا في النظر والبحث، ومهروا في القياس، وقدموه في بعض الأحيان على الحديث، وردوا الخبر إذا كان في واقعة تعم بها البلوى.
وبدأ النقاش العلمي بين المدرستين، وعقدت المناظرات، واشتد الجدل على قدم وساق، وطعن كل منهما بالآخر، وعاب طريقته، وتشكك أن فيما وصل إليه من أحكام، وكان كل إمام أو مجتهد أو مناظر يحاول أن يدعم رأيه بالأدلة والبراهين العلمية والعقلية (1).
وشعر العلماء حينئذ بالحاجة الماسة لوجود ضوابط في الاستنباط يعتمدون عليها، ومنهاج للتفكير يبنون عليه، وشروط للاجتهاد والاستدلال، وقواعد لأساليب البيان العربي الذي وردت النصوص به، فجادت قرائح الأئمة والعلماء بمجموعة من ضوابط الاستنباط وشروط
(1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 29، المختارات الفتحية في تاريخ التشريع وأصول الفقه، أحمد أَبو الفتوح: ص 93، مصادر التشريع الإسلامي: ص 30، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 93، وما بعدها، أصول التشريع الإسلامي: ص 5، الملل والنحل: 1/ 206.
الاجتهاد وقواعد البيان والفهم والاستدلال، ومنهاج للتفكير، وهي في مجموعها براعم أصول الفقه.
وصار كل مجتهد يشير إلى دليل الحكم، ووجه الاستدلال به، ويحتج على مخالفه بوجوه من الحجج، فكان الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، يصرح باعتماده على الكتاب فالسنة ففتاوى الصحابة إذا أجمعوا، فإن اختلفوا تخير من آرائهم، ولا يخرج عنهم، ولا يأخذ برأي التابعين لأنهم رجال مثله، ويحدد منهجه في القياس والاستحسان، فكان أصحابه ينازعونه بالقياس، فإن قال: أستحسن، لم يلحق به أحد (1)، ثم يقول: علمُنا هذا رأي، فمن جاء بأفضل منه تركناه، وقال الشافعي في عدم وقوع الطلاق في عدة طلاق الخلع، وقال:"حجتي فيه من القرآن والأثر والإجماع"(2).
وكان الإمام مالك يتبع منهجًا أصوليًّا واضحًا باعتماده على الكتاب والسنة، واحتجاجه بعمل أهل المدينة، وتقديمه على خبر الآحاد، وغير ذلك من القواعد والمبادئ التي نظمها علم الأصول ونص عليها (3).
قال الشيخ أبو زهرة: نشأ علم أصول الفقه مع علم الفقه، وإن كان الفقه قد دُوِّن قبله، لأنه حيث يكون الفقه يكون حتمًا منهاج للاستنباط، وحيث كان المنهاج يكون حتمًا لا محالة أصول الفقه (4).
ولكن هذه المبادئ وتلك القواعد كانت متناثرة هنا وهناك، وتختلف من عالم إلى آخر، ومن مدرسة إلى أخرى، ولا ينتظمها
(1) مباحث الحكم: ص 45، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 12، علم أصول الفقه، خلاف: ص 107.
(2)
الأم 5/ 123 طبع دار الفكر بدمشق.
(3)
أصول الفقه، أبو زهرة: ص 12، حجة الله البالغة: 1 ص 307.
(4)
أصول الفقه، أبو زهرة: ص 10.