الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها من معارضة قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
فهذه الأنواع تسمى رخصة تجاوزًا أو تسامحًا، ولا تدخل في معنى الرخصة الذي اصطلح عليه علماء الأصول، وتضاف إلى النوعين اللذين نص عليهما علماء الحنفية، وقالوا: إنهما رخصة مجازًا، كما سنرى في الفقرة التالية، فجميع هذه الحالات لا تكون رخصة حقيقية (1).
أنواع الرخصة:
الرخصة مبنية على أعذار العباد، ولما كانت أعذارهم مختلفة فلذلك اختلفت الرخص وتنوعت إلى أربعة أنواع، الأول والثاني متفق عليهما، والثالث والرابع نص عليهما الحنفية واعتبروهما رخصة مجازًا (2)، وهذه الأنواع هي:
1 -
الرخصة في فعل المحظورات، وهي التي تجعل الفعل في حكم المباح، فتسقط المؤاخذة عنه، مع بقاء حكم الحرام فيه، مثل الترخص بكلمة الكفر عند الإكراه على النفس بالقتل أو على قطع عضو من الجسد، والامتناع عن النطق بكلمة الكفر عزيمة، فإن صبر حتى قتل كان مأجورًا، وإن نطق بها فلا يؤاخذ لوجود الإكراه مع ثبوت الإيمان والتصديق بالقلب، ومثله الترخيص للإفطار في رمضان للإكراه، والترخيص بإتلاف مال غيره، ومن اضطره الجوع الشديد والظمأ الشديد
(1) المراجع السابقة، الإحكام، الآمدي: 1 ص 123.
(2)
تسهيل الوصول: ص 252، كشف الأسرار: 2 ص 635، أصول السرخسي: 1 ص 118، جمع الجوامع والبناني: 1 ص 122، التلويح: 3 ص 82، تيسير التحرير: 2 ص 228، 232، وقارن رأي الخضري في كتاب أصول الفقه: ص 74، فإنه يرى أن هذا التقسيم خطأ.
إلى أكل الميتة أو شرب الخمر فيباح له أكلها وشربها.
وحكم هذا النوع -ما عدا الكفر مع الإكراه- ترجيح الأخذ بالرخصة على العزيمة لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، ولأن في الرخصة حفظًا للنفس ولاستيفاء حق اللَّه فيها، ولو أصر على العزيمة وامتنع عن شرب الخمر وأكل الميتة عند الاضطرار والإكراه حتى مات بسببهما أثم بإلقاء نفسه إلى التهلكة (1).
أما الإكراه على الكفر فالأخذ بالعزيمة أولى وأفضل لبقاء المحرم والحرمة، ولو تحمل المكره الإكراه، وامتنع عن الرخصة، وقتل، كان شهيدًا، لأنه بذل نفسه لإقامة حق اللَّه تعالى.
والدليل على ذلك أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من الصحابة، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول اللَّه، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضًا، فخلاه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول اللَّه، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: إنما أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"أما الأول: فقد أخذ برخصة اللَّه، وأما الثاني: فقد صدع بالحق، فهنيئًا له"، وحصل مثل ذلك مع عمار وخبيب بن عدي وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في خبيب:"هو أفضل الشهداء، وهو رفيقي في الجنة (2) ".
2 -
الرخصة في ترك الواجباب: وهي الرخصة التي تجعل الفعل في حكم المباح مع قيام السبب الموجب لحكمه، ولكن الحكم متراخٍ عن
(1) تيسير التحرير: 2 ص 232، وقال الإمام أحمد في قول: إن العزيمة أفضل في الميتة، ويخير بين القتل وشرب الخمر، انظر المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71، 72.
(2)
انظر تسهيل الوصول: ص 252، فواتح الرحموت: 1 ص 116، كشف الأسرار: 2 ص 635، الإصابة: 2 ص 102، سيرة ابن هشام: 2 ص 172.
السبب حتى يزول العذر، فهذا العذر اتصل بالسبب، ومنعه من العمل (1)، مثل إفطار المسافر والمريض في رمضان، فهذا رخصة مع قيام السبب وهو شهود الشهر الثابت، وتراخي الحكم، وهو وجوب الصوم وحرمة الإفطار في أيام أخر، وبما أن السبب قائم فيجوز لهما الصوم، وبما أنه يجب الصوم عليهما على التراخي إلى أيام أخر، فلا يجب عليهما الفدية إذا ماتا قبل وجوب الأيام الأخر.
وحكم هذا النوع جواز الإفطار في رمضان، لقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ولكن الأخذ بالعزيمة أولى إذا لم يضعفه الصوم، فالصوم في السفر والمرض أفضل من الإفطار، لقوله تعالى في نفس الآية:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] إلا إذا أضره الصوم وأضعفه، أو منعه عن أمر أهم كالجهاد، فيكون الإفطار أفضل، وإن خاف الهلاك يجب الإفطار (2).
3 -
نسخ الأحكام في الشرائع السابقة: وهي الأحكام التي سقطت عنا، ولم تشرع في حقنا، وكانت في الشرائع السابقة، كاشتراط قتل النفس وقطع الأعضاء في التوبة، وقص موضع النجاسة في الثوب، ودفع ربع المال في الزكاة، وغير ذلك مما خففه اللَّه عنا، ولم يشرع علينا، وجاءت مقابله أحكام ميسرة وسهلة، وهذا النوع رخصة مجازية، لأن الأصل لم يرد في شريعتنا أصلًا، ولا يجوز القيام به ولا العمل بموجبه قطعًا.
(1) كشف الأسرار: 2 ص 638.
(2)
تذكر كتب الحنفية أن الشافعية تقول بأن العمل في إفطار المسافر أولى، (انظر التلويح: 3 ص 85، أصول السرخسي: 1 ص 119)، وهذا غير صحيح، فالثابت عند الشافعية أن الصوم أفضل، لثبوت ذلك بصريح النص، (انظر نهاية السول، الإسنوي: 1 ص 90، المستصفى: 1 ص 99).