الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: الحقائق الهامة في اختلاف الفقهاء:
1 -
إن الاختلاف في التشريع أمر طبيعي وعادي ولا غبار عليه، ولا يوجد تشريع في الدنيا يخلو من ذلك، سواء أكان التشريع سماويًّا أم وضعيًّا، بل لا يوجد علم من العلوم الإنسانية يخلو منه، فالأدباء مختلفون في الكتابة والنقد، والشعراء مختلفون في قرض الشعر وموازينه، وعلماء القانون مختلفون في تفسيره ومضمونه وشرحه، والمحاكم مختلفة في تطبيق القانون واللوائح على الرغم من اتباعها نظامًا واحدًا، وعلماء التاريخ مختلفون في أحداثه ورواياته، والشخص الواحد يختلف رأيه من حين إلى حين
…
وهكذا الأطباء والمهندسون والخبراء يختلفون في تقييم الموضوع الواحد وتشخيصه والنظر إليه، ولا يزول الاختلاف إلا إذا صار الإنسان آلة مصنعة، ولو لم يختلف الفقهاء لكانوا شواذًا عن البشر.
2 -
إن الاختلاف بين الفقهاء في الشريعة الإسلامية منحصر في الفروع الفقهية، مع الاتفاق الكامل على الأصول العامة، سواء أكانت في أصول الدين أي في العقيدة وأركان الإسلام، أم في أصول التشريع وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع والقياس.
فالاتفاق كامل بين الأئمة في عقيدة المسلم التي تقوم على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، والاتفاق كامل في أركان الإسلام من الشهادة والصلاة والصيام والزكاة والحج، والإجماع على صحة القرآن الكريم ونقله بالتواتر، وأنه كلام الله تعالى، وأنه حجة على المسلمين دون اختلاف على حرف واحد منه، ولا نزاع في حجية السنة، وأنها مبينة لكتاب الله، ومصدر أساسي في التشريع، ولم ينكر ذلك إلا من خرج عن الإسلام وفارق الجماعة، وأما الاختلاف في الإجماع والقياس فهو على نطاق ضيق مع الاتفاق عليهما
بين أهل السنة والجماعة.
وهذا الاتفاق على الأصول العامة هو من فضل الله تعالى على هذه الشريعة التي أنزلها خاتمة الشرائع والرسالات، وتكفل بحفظها إلى أن يرث الأرض ومن عليها، فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
وأما الاختلاف في الفروع الفقهية، والأحكام التفصيلية فلا يضر بالأمة ولا يؤثر على كيانها وسمعتها ووحدتها، بل هو علامة على خلودها وصلاحها "كما سنرى".
3 -
إن الاختلاف في بقية مصادر التشريع اختلاف في الظاهر غالبًا، أو هو اختلاف لفظي أو اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، وكثيرًا ما تكون النتائج متفقة، وينحصر أثر الاختلاف في جزئيات محددة، فلا خلاف في حقيقة الاستحسان بين الحنفية وبين المالكية والشافعية، ولا خلاف في الواقع بين الحنفية والشافعية وبين المالكية في المصالح المرسلة، لأن الشافعية والحنفية كثيرًا ما يعللون بالمصالح، ويبنون الأحكام عليها، وكذلك الأمر في العرف والعادة والاستصحاب وسد الذرائع وقول الصحابي وشرع من قبلنا (1).
4 -
إن الاختلاف بين الأئمة كان السبب في تزويد المكتبة الإسلامية بهذه الثروة الفقهية التي نضاهي العالم بها، ونعتز بوجودها، وأتاحت للتشريع المرونة والحيوية في تلبية حاجات ومتطلبات التقدم والتطور
(1) يقول الزنجاني: ذهب الشافعي إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كليّ الشرع، وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة جائز، انظر تخريج الفروع على الأصول، له، ص 169، وانظر مذكرات الفقه المقارن، للمرحوم الشيخ محمد الزفزاف: ص 12 وما بعدها، وانظر تحقيق الموضوع في الفصل الثاني من الباب الأول من هذا الكتاب، عند دراسة هذه المصادر.
والعمران خلال العصور الطويلة في أرجاء المعمورة (1)، كما مرَّ في تدوين أصول الفقه وفوائده.
5 -
إن الاختلاف في الفروع -مع الاتفاق على الأصول- هو رحمة بالأمة، وتخفيف عنها، وتوسعة عليها، فإن ضاق بالأمة مذهب استعانت بالآخر، وإن شق عليها الحكم لجأت إلى غيره، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما سرني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة (2)، كمسح الرأس، وطلاق الثلاث، وزكاة الزروع والثمار، وأحكام الحج، والاغتسال من الجنابة قبل النوم أو بعده.
6 -
إن الاختلاف بين الأئمة يعتمد على أسباب موضوعية وعلمية، وهو أبعد ما يكون عن التشهي والهوى أو الانتصار لذات أو شخص، ولا حاجة للتدليل وإقامة البرهان على ذلك، فتاريخ التشريع وسيرة الأئمة يؤكد ذلك، ومن ينكره أو يتشكك فيه فإنما يجهل تاريخ هذه الأمة، أو يحمل الحقد والضغينة واللؤم والعداوة لعلمائها، الذين كان الإخلاص رائدهم، والتعبد لله هدفهم، ومرضاة الله مبتغاهم، وطلب العلم والوصول إلى الحق أسمى أمانيهم.
7 -
لم يقع اختلاف في النصوص القطعية -من ناحية الثبوت والدلالة، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت، لأنه نقل إلينا بالتواتر،
(1) انظر: كتاب أدب القضاء، لابن أبي الدم: ص 13، 20 من التقديم، 672.
(2)
كشف الخفا: 1 ص 66، وانظر تفصيل ذلك عند الكلام عن حديث "اختلاف أمتي رحمة" وتخريج هذا الحديث، ويقول يحيى بن سعيد: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون .. فلا يعيب هذا على هذا، وانظر المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقا: 1 ص 190 وما بعدها، ردّ المحتار: 1/ 68، الفقيه والمتفقه: 2/ 59، غياث الأمم:139.
فلا خلاف في ثبوته، وكذلك السنة المتواترة قطعية الثبوت، فلا خلاف في ثبوتها، مثل أفعال الصلاة ومناسك الحج، وكذلك الدلالة القطعية التي لا تحتمل معنى آخر في القرآن أو السنة المتواترة، فلا خلاف فيها، مثل المقادير والحدود، وإنما ينحصر الاختلاف في الدلالة الظنية وفي الثبوت الظني كأخبار الآحاد.
8 -
لم يقع الاختلاف في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان المرجع الوحيد للتشريع، وكان عليه الصلاة والسلام يعتمد على الوحي، وكان الصحابة إذا اختلفوا في حكم -لم يرد فيه نص- يرجعون إليه لمعرفة الصواب، ومع ذلك فإننا نلاحظ تعدد الأقوال في المسألة الواحدة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقر حكمين مختلفين لبيان إباحة الأمرين واستوائهما، أو لإباحة الأمرين مع تفضيل أحدهما على الآخر، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
أ - سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات متعددة عن أفضل الأعمال، فتعدد جوابه بحسب الأشخاص والأحوال والظروف المحيطة بالسائل، وقال مرة:"الجهاد في سبيل الله"، وقال:"بر الوالدين"، وقال:"الصلاة في وقتها"، وغير ذلك، وسئل عليه الصلاة والسلام: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف (1) ".
ب - جاء رجلان من الصحابة إلى مسيلمة الكذاب فأمسكهما
(1) رواه الشيخان والنسائي، وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"، أخرجه الشيخان، انظر رياض الصالحين: 77 - 78، تيسير الوصول: 1 ص 19، الترغيب والترهيب:1 ص 256، 2 ص 242، 247، 249، 3 ص 314، 315، مجمع الزوائد: 1 ص 55، وروى البخاري ومسلم:"إيمان بالله ورسوله، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور" انظر الترغيب والترهيب: 2 ص 162، صحيح مسلم بشرح النووي: 2/ 72، 74.
وهددهما بالقتل، ثم قال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضًا، فخلاه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: إنما أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أما الأول: فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني: فقد صدع بالحق، فهنيئًا له (1) ".
ج - عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد:"أصبت السنة وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي توضأ وأعاد:"لك الأجر مرتين (2) ".
د - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب: "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة"، فتخوف الناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدًا من الفريقين (3).
(1) تلخيص الحبير، وسيأتي الكلام مرة ثانية عن هذا الموضوع في مبحث الرخصة في هذا الكتاب، والأول عبد الله بن وهب، والثاني هو حبيب بن زيد الأنصاري المازني، انظر: الإصابة:1 ص 321، تفسير ابن كثير: 2 ص 588، أسد الغابة: 1/ 443، طبقات ابن سعد: 4/ 316.
(2)
رواه أبو داود (2/ 82) والنسائي (1/ 213) والحاكم (1/ 178) والدارمي (1/ 190) والدارقطني، والبيهقي (1/ 231)، وانظر: نيل الأوطار: 1/ 265، سبل السلام 1/ 97، المجموع: 2/ 338.
(3)
رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم 12/ 97، وعند البخاري: "لا يصلين أحد =