الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الثالث: أن الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم الوضعي، وهو رأي الغزالي والآمدي والشاطبي وصاحب شرح مسلم الثبوت، وذلك أن الأصل في جميع الأحكام أن تكون عزيمة، ولا تنتقل من العزيمة إلى الرخصة إلا لسبب، وهو الضرورة في إباحة المحظور، أو طروء العذر كسبب للتخفيف بترك الواجب، أو دفع الحرج عن الناس كسبب صحيح في بعض عقود المعاملات بينهم، فارتبطت العزيمة بفقدان السبب الشرعي المبيح، وارتبطت الرخصة بوجود السبب المبيح لها فالرخصة في الحقيقة عبارة عن وضع الشارع وصفًا من الأوصاف سببًا في التخفيف، والعزيمة عبارة عن اعتبار مجاري العادات سببًا للجري على الأحكام الأصلية، فكانت الرخصة من أقسام الحكم الوضعي، وهذا القول أخذ به كثير من العلماء، ورأينا ترجيحه والسير على منواله (1).
أولًا: العزيمة
تعريف العزيمة:
العزم لغة: هو القصد المؤكد، قال تعالى:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أي حزمًا وتصميمًا. وعزم على الشيء جد واجتهد في أمره، وعزم على الشيء عقد ضميره على فعله، وعزائم اللَّه فرائضه (2).
وفي الاصطلاح: هي ما شرعه اللَّه لعامة عباده من الأحكام ابتداء (3).
(1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 91، فواتح الرحموت: 1 ص 116، الموافقات: 1 ص 122، المستصفى: 1 ص 98، تسهيل الوصول: ص 255، شرح الكوكب المنير: 1 ص 482، الوسيط في أصول الفقه: ص 105.
(2)
المصباح المنير: 2 ص 558، القاموس المحيط: 4 ص 149.
(3)
الإحكام، الآمدي: 1 ص 122، جمع الجوامع وحاشية البناني: 1 ص 124، كشف =
"ما شرعه اللَّه": أي الأحكام التي شرعها اللَّه تعالى، ولفظ "عامة عباده" قيد يخرج الأحكام الخاصة ببعض المكلفين، وأن العزيمة عامة لجميع العباد ولجميع الأحوال، وتخرج الخصوصية، ولفظ "ابتداء" أي لم تسبق في شريعتنا بأحكام أخرى، وأن العباد مكلفون بها من أول الأمر.
وعرف البيضاوي العزيمة بأنها "الحكم الثابت لا على خلاف الدليل القائم لعذر"، وهذا التعريف للمقابلة مع تعريف الرخصة الآتي بعد قليل، فكل حكم لم يخالف الدليل أصلًا كالأكل والشرب، أو خالف الدليل ولكن ليس بسبب العذر بل بسبب الاختبار مثلًا كالتكاليف، أو خالف الدليل لمانع كإفطار الحائض وترك الصلاة، فهذه كلها عزائم.
ومن التعريفين السابقين نجد أنه لا واسطة بين العزيمة والرخصة، فكل حكم ثبت بالشرع فهو عزيمة، إلا إذا ورد ما يخالفه لعذر فهو رخصة، وسميت الأحكام الأصلية عزيمة لأنها مشروعة ابتداء حقًّا لصاحب الشرع الذي يستحق الطاعة وتنفيذ الأوامر (1).
وذهب بعض الأصوليين في تعريف العزيمة إلى أنها "الحكم الثابت الذي خولف لعذر"، فالعزيمة تقابل الرخصة، وأن الحكم لا يسمى عزيمة إلا إذا ثبت الترخيص فيه لعذر، وتكون الأحكام ثلاثة أقسام: الرخصة والعزيمة عند وجود العذر، والحكم الأصلي الذي لم يتطرأ
= الأسرار: 2 ص 618، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71، تيسير التحرير: 2 ص 228، أصول الفقه، خلاف: ص 138، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 91، أصول السرخسي: 1 ص 117، مباحث الحكم: ص 115، أصول الفقه، الخضري: ص 71، تسهيل الوصول: ص 250، شرح الكوكب المنير: 1 ص 476.
(1)
كشف الأسرار: 2 ص 618، فواتح الرحموت: 1 ص 116، تيسير التحرير: 2 ص 229.
إليه هذا الترخيص ولم يحطه عذر، فهو حكم لا يوصف بأنه رخصة ولا عزيمة، وإنما هو حكم شرعي أصلي (1).
ويرجح القول الأول في تقسيم الأحكام إلى قسمين: رخصة وعزيمة، وأن جميع الأحكام الشرعية التكليفية تعتبر عزائم للَّه تعالى، ويكلف العبد بتنفيذها والالتزام بها وتطبيقها، وبذل الجهد والمشقة في المحافظة عليها، واستحقاق الأجر والثواب من اللَّه على فعل الواجبات والمندوبات، واستحقاق الذم والعقاب على فعل المحرمات، فإن طرأ عذر رفع الإثم والحرج والذم والعقاب عن فاعل المحرم، وصار الحكم رخصة له من اللَّه تعالى، ولذا تنسب العزائم إلى اللَّه تعالى، فيقال: عزائم اللَّه تعالى، ويراد بها فرائضه التي أوجبها، وحدوده التي أقامها (2).
والعزيمة تشمل الأحكام الخمسة التكليفية عند الجمهور، فكل حكم منها هو عزيمة، لأنها من الأحكام التي شرعت ابتداء في الشريعة من غير نظر إلى الأعذار، وتبقى عزيمة ما لم يرد دليل مخالف لها لعذر، سواء كان الحكم الإيجاب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم.
وذهب بعض الأصوليين إلى قصر العزيمة على الواجب والمندوب والمباح والمكروه، وقصرها آخرون على الواجب والمندوب، وخصها بعضهم بالواجب والحرام فقط (3).
(1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 91.
(2)
التلويح على التوضيح: 3 ص 82، مباحث الحكم: ص 115.
(3)
تسهيل الوصول: ص 251، نهاية السول: 1 ص 91، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71، كشف الأسرار: 2 ص 620 وما بعدها، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 91، شرح الكوكب المنير: 1 ص 476.