الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما ينتج عن قول الكعبي نتائج خطيرة لا يقرها الشرع، وذلك أن ترك الحرام قد يكون بالمباح أو بالمندوب أو بغيرهما فلم يتعين المباح لترك الحرام، وأن ترك الحرام قد يكون بحرام مثله، فهل يكون الحرام الثاني واجبًا حسب قاعدة الكعبي؟ لأنه ينشغل به الفاعل عن الحرام الأول، وأن الصلاة إذا شغلت عن واجب آخر أصبحت حرامًا؟ وهذا غير صحيح باتفاق.
وأجمع العلماء على تقسيم الفعل إلى خمسة أقسام، وأن المباح هو القسم الخامس، فإن نفاه الكعبي فيكون مخالفًا للإجماع، وهذا باطل (1).
ولو اقتصر الكعبي على أن بعض المباح قد يكون واجبًا لكان صحيحًا، وذلك إذا اتجه المرء إلى حرام، ولم يستطع تركه إلا بالاشتغال بمباح، فيكون المباح هنا واجبًا، لأنه وسيلة إلى واجب وهو ترك الحرام (2).
والمباح قد يؤدي إلى مصلحة محققة أو مفسدة ومضرة فيتغير وصفه من المباح إلى غيره كالمندوب والمكروه إذا أدى إلى عكسه فيتغير حكمه (3).
وخلاصة القول: إن المباح حكم شرعي، وإنه حكم غير تكليفي، وإن المباح غير مأمور به شرعًا.
أقسام المباح:
ينقسم المباح من حيث تعلقه بالنفع والضرر إلى ثلاثة أقسام:
(1) تيسير التحرير: 2 ص 227.
(2)
مباحث الحكم: ص 109.
(3)
انظر تفصيل ذلك في الإباحة، مدكور: ص 372 وما بعدها.
1 -
قسم لا ضرر على المكلف في فعله وتركه، كالأكل والشرب واللباس والصيد وصبغ الثياب والتنزه في الهواء الطلق وغير ذلك مما سبق شرحه.
2 -
وقسم لا ضرر على المكلف في فعله مع فساده وثبوت ضرره وتحريم أصله، وهو ما أباح الشارع فعله من المحرمات للضرورة أو للإكراه، وما أباح الشارع تركه من الواجبات في حالات خاصة، أو لا ضرر على المكلف بتركه مع وجوب أصله كالإفطار للحامل المرضع والمسافر، وترك القيام في الصلاة للعاجز، وسوف ندرس هذا القسم في الرخصة والعزيمة (1)، وما أباح الشارع فعله بعد تحريمه لسبب طارئ مثل دم المرتد يباح، ولا ضرر على إراقته، وقد كان دمه حرامًا فلما ارتد زالت حرمة دمه، بل ينقلب إلى وجوب قتله على الحاكم، وكذلك أخذ جزء من مهر المرأة فإنه حرام لقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)} [النساء: 20]، أما إذا استمر الشقاق بين الزوجين فيباح للرجل أن يأخذ من مال زوجته ما تفتدي به نفسها في الخلع كما سبق، لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
3 -
قسم ثبت فساده وضرره، ولكن اللَّه تعالى عفا عن صاحبه، فصار فعله مباحًا، فلا يذم على تركه ولا يثاب على فعله، ويعرف عند الفقهاء بمرتبة العفو.
والأمثلة على ذلك كثيرة، كارتكاب المحرمات قبل الإسلام، مثل الزواج من المحارم، والزواج من زوجة الآباء، والجمع بين الأختين،
(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب: الإباحة، مدكور ص 372 وما بعدها.
ثم جاء الشرع السماوي فحرم هذه الأفعال، ونص على العفو عنها، فقال تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [النساء: 22]، وأكد هذا العفو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله:"الإسلام يَجُبُّ ما قبله"(1)، ومثله ما كان شائعًا في أول الإسلام ولم يحرم، واستمر المسلمون على فعله، ثم نص الشرع على تحريمه، كالخمر وتعدد الزوجات فوق الأربع وبعض بيوع الجاهلية وغيرها مما حرمته الشريعة، فكانت قبل التحريم مباحة لا يعاقب فاعلها.
وهذا القسم يعتبر من المباح تبعًا لا أصالة.
واعتبر بعض الفقهاء هذا القسم مرتبة مستقلة عن الأحكام الخمسة، وأنها مرتبة بين الحلال والحرام، لأن المباح هو ما تساوى طرفاه في النفع والضرر، وهذا القسم ثبت ضرره أكثر من نفعه قطعًا لتحريم الشارع له، ولكن اللَّه تعالى عفا عنه، ولم يعذب صاحبه كشارب الخمر مثلًا، واستدل الفقهاء على قولهم بما ورد من النصوص التي تدل على هذه المرتبة المستقلة مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها"(2)، ومثل قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، وقوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، وما ثبت من العفو عن الخطأ والنسيان والاستكراه، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم بناء على البراءة الأصلية، والأمثلة كثيرة على الأمور المعفو عنها، كالرخص أيضًا، والترجيح بين الدليلين عند
(1) رواه ابن سعد عن الزبير وجبير بن مطعم.
(2)
رواه الحاكم عن أبي ثعلبة. والبيهقي (10/ 12).