الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول في تعريف الكتاب الكريم
الكتاب لغة: يطلق على المكتوب وعلى الكتابة، والفعل كتب بمعنى: حكم وقضى وأوجب، ومنه قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أي: أوجبه، وكتب القاضي بالنفقة: قضى بها وحكم، وقال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، أي: حكم، والقرآن: مصدر بمعنى القراءة (1).
أما تعريف الكتاب في الاصطلاح فلا يحتاج إلى تعريف لأنه معروف للجميع، دون أن يلتبس أمره على إنسان، سواء أكان مسلمًا أم كافرًا، كبيرًا أم صغيرًا، عربيًّا أم عجميًّا، وإنما نص العلماء على تعريفه لبيان ما يكون حجة في استنباط الأحكام، وما يتعبد بتلاوته، وما تجوز به الصلاة، وما يكفر به جاحده، وغير ذلك من العناصر الهامة والخصائص الرئيسية (2).
وأشهر هذه التعريفات عندهم هو:
الكتاب: هو كلام الله تعالى، المنزل على سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، باللفظ
(1) القاموس المحيط: 1 ص 121، المصباح المنير: 2 ص 719.
(2)
انظر النبأ العظيم، دراز: ص 9، كشف الأسرار: 1 ص 22.
العربي، المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب بالمصاحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس (1).
شرح التعريف:
1 -
كلام الله تعالى: القرآن الكريم كلام الله تعالى، والكلام جنس يشمل كل كلام، ويدخل في ذلك كلام الله المنزل على جميع الرسل، ويشمل كلام الله الأزلي النفسي والمنزل، وإضافته إلى الله تعالى لتمييزه عن كلام من سواه، ويخرج من التعريف كلام المخلوقات من إنس وجن وملائكة، وتخرج السنة النبوية والأحاديث القدسية؛ لأنها من كلام سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وألفاظه، وإن كانت معانيها من عند الله تعالى.
2 -
المنزل على سيدنا محمَّد: أي: كلام الله الذي نزل به جبريل الأمين، ونقله من اللوح المحفوظ، ووقر في قلب محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأول ما نزل منه قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} ومن أول ما نزل أيضًا سورة المدثر وسورة الضحى وسورة الفاتحة، واستمر نزول القرآن الكريم ثلاثًا وعشرين سنة منذ أول البعثة حتى السنة العاشرة
(1) انظر المستصفى: 1 ص 101، فواتح الرحموت: 2 ص 7، شرح الكوكب المنير: 2 ص 7، مختصر ابن الحاجب: ص 48، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 195، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 87، الأحكام، ابن حزم: 1 ص 85، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 290، التلويح على التوضيح: 1 ص 154، أصول الفقه، شعبان: ص 33، حاشية البناني: 1 ص 223، أصول السرخسي: 1 ص 279، كشف الأسرار: 1 ص 21، نسمات الأسحار، ابن عابدين: ص 8، روضة الناظر: ص 33، شرح المنار: ص 7، مرآة الأصول: ص 16، وعرف الآمدي الكتاب بقوله: هو القرآن الكريم المنزل، الأحكام، له: 1 ص 147. وعرفه الكمال بن الهمام بأنه: اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر، والمتواتر، تيسير التحرير: 3 ص 3، ونقله عنه الشوكاني في إرشاد الفحول: ص 92، نهاية السول: 1 ص 204.
للهجرة (1)، وكان آخر ما نزل في حجة الوداع قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، ثم نزل بعدها قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
…
} سورة النصر، وآخر آية نزلت هي قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281] وتسمى الآيات والسور التي نزلت بمكة بالمكيَّة، وتسمى الآيات والسور التي نزلت بالمدينة بالمدنيَّة، ولكل منها طابع خاص في النظم والمعنى.
ويخرج من التعريف الكتب السماوية التي أنزلت على الرسل السابقين، من كلام الله تعالى في التوراة المنزل على موسى، وكلام الله تعالى في الإنجيل المنزل على عيسى، وهذا ينطبق عليهما قبل التبديل والتغيير والتحريف.
ويخرج بالمنزل كلام الله النفسي القائم بالذات، وما استأثر الله به في نفسه.
3 -
باللفظ العربي: القرآن الكريم عربي النظم والمعنى، نزل بلغة قريش، وليس فيه لغة أجنبية أخرى، والقرآن الكريم نظمه ومعناه من عند الله تعالى، أما الحديث فإن معناه منزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما لفظه ونظمه فهو من عند محمَّد عليه الصلاة والسلام.
(1) نزل القرآن منجمًا أي مفرقًا حسب المناسبات والحوادث وحاجات الدعوة وتطور المجتمع وسير الزمن، والحِكَم من نزوله منجمًا كثيرة، منها: تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والتدرج في التشريع، والتأكيد على إعجاز القرآن الكريم، وغير ذلك من الحكم الكثيرة التي أشار إليها القرآن الكريم وذكرها العلماء في علوم القرآن وتاريخ التشريع، انظر مصادر التشريع الإِسلامي: ص 57، فصول في أصول التشريع الإِسلامي، جاد المولى سليمان: ص 14، تاريخ التشريع الإِسلامي، السايس والسبكي والبربري: ص 38، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 74، دراسات قرآنية، زرزور: ص 44، 77.
وإذا ظن الإنسان وجود بعض الألفاظ غير العربية في القرآن الكريم فهو إما أن يكون من لهجة عربية غير لهجة قريش، أو من الألفاظ العربية التي اندثر استعمالها ثم أحياها القرآن الكريم، أو أنها لفظ عربي قديم انتقل إلى اللغة الأعجمية ثم نسيه العرب فذكره القرآن، أو أن يكون اللفظ معربًا، ودخل إلى العربية فصار عربيًّا، وإن اشتمل القرآن الكريم على كلمتين أو ثلاث أصلها أعجمي، أو ذكر أسماء الأعلام الأعجمية مما يستعمله العرب في لسانهم، فهذا لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا (1).
والآيات التي تؤكد أن القرآن منزل بالعربية كثيرة، منها قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192 - 195] وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2] وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)} [الزمر: 28] وقوله تعالى في بيان سخف الكفار وتناقضهم في التفكير عندما نسبوا القرآن إلى رجل أعجمي (2) يعلم رسول الله فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103] وأكد القرآن الكريم أنه أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم في الأمة العربية في آيات كثيرة، وأن كل نبي يُرسل بلغة قومه ليبين لهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
(1) المستصفى: 1 ص 105 - 106، الرسالة: ص 40 - 42، وما بعدها، التبصرة للشيرازي: ص 180، الإحكام للآمدي 1/ 47، العدة 3/ 707، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 88، الموافقات: 2 ص 45، روضة الناظر: ص 35، قارن إرشاد الفحول: ص 32، وحصول المأمول من علم الأصول، صديق حسن خان: ص 42، وسوف ننقل نص الإمام الشافعي في الرسالة عن لغة القرآن الكريم.
(2)
الرجل هو غلام نصاري يقال له سبيعة أو جبر، عبد لبعض بني الحضرمي، ويقال: اسمه بلعام، انظر تفسير ابن كثير: 2 ص 586.
رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].
وأما المسلم غير العربي فيجب عليه أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، ليستطيع تحقيق الإيمان، وأداء العبادات، وقراءة القرآن وذكر الله تعالى، كما قال الشافعي في الرسالة (1)، وقد كان فضل القرآن على العرب عظيمًا جدًّا، فوحد لغاتهم وجمع شملهم، وحفظ اللغة من التطور والتغيير والتبديل (2).
ويتفرع عن ذلك أنه لا يصح تغيير لفظ في القرآن الكريم بلفظ مرادف له، وإن كان مطابقًا له في المعنى، كما لا يصح ترجمته، ونقله إلى لغة أخرى؛ لأن القرآن الكريم كلام الله تعالى نزل باللفظ العربي.
4 -
المنقول إلينا بالتواتر: التواتر في اللغة: التتابع، وفي الاصطلاح: هو ما رواه جماعة عن جماعة، يؤمن تواطؤهم على الكذب، والتواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا يحتمل غيره، والقرآن الكريم وصل إلينا بالتواتر، فكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون القرآن الكريم عنه، ويحفظونه بقلوبهم، ويكتبونه على الألواح، وبلغ عدد كتّاب الوحي أربعين صحابيًّا، بينما يسمع بقية الصحابة القرآن، ثم انتقل عن جمهور الصحابة إلى جماهير التابعين الذين حفظوه أيضًا في الصدور والكتب، ونقلوه إلى من بعدهم حتى وصل إلينا كما نزل عن طريق التواتر جيلًا بعد جيل، كتابة ومشافهة في كل عصر بما يؤمن تواطؤهم على الكذب.
ويشترط في التواتر أن يبلغ عدد الرواة حدًّا يحيل العقل تواطؤهم
(1) ص 48.
(2)
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] قال: "فالقرآن نزل بلسان قريش، وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم، كل من آمن بذلك، فصاروا عيالًا عليهم" تفسير القرطبي: 16/ 93.
على الكذب، وأن يتوفر هذا العدد في كل طبقة على مر الزمان وتعاقب القرون، واختلف العلماء في العدد الذي يتحقق به التواتر، ولكنهم اتفقوا على الضابط فيه وهو أن تشعر النفس باليقين والطمأنينة فيهم.
وهذا النقل بالتواتر هو من فضل الله على هذه الأمة بحفظ كتابها، لأن حفظ القرآن هو أساس حفظ الشريعة، ومصدر الفقه الإِسلامي الذي توزن به أعمال المسلمين، وأن النقل بالتواتر كتابة وحفظًا جعل القرآن الكريم قطعي السند، فإن ثبوته يقيني لا مجال للشك فيه، ولا يحتمل الخطأ والتغيير، فالقرآن قطعي الثبوت.
واتفق المسلمون جميعًا على أن اللفظ أو القراءة غير المتواترة لا تعتبر قرآنًا، ولو كانت مشهورة، ولا تصح بها الصلاة، ولا يتعبد بتلاوتها، كالقراءة الشاذة والمشهورة؛ لأنه يستحيل في العرف والعادة أن يهمل ذلك، ولا ينقل بالتواتر مع توفر الدوافع على حفظه (1).
5 -
المتعبد بتلاوته: هذه خاصيّة مهمة في القرآن الكريم تميزه عن غيره، وتفتح أمام المسلم بابًا من أبواب العبادة، فالقرآن الكريم كلام الله تعالى، ولذا فإن تلاوته وقراءته عبادة، سواء كانت من الحفظ أم من المصحف، قيامًا أم قعودًا، في السفر أم في الحضر، في الليل أم في النهار، وجاءت أحاديث كثيرة تبين ذلك، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"(2)،
(1) المستصفى: 1 ص 101، 102، الإحكام، الآمدي: 1 ص 1448، أصول التشريع الإِسلامي: ص 19، مختصر ابن الحاجب: ص 49، تيسير التحرير: 3 ص 6، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 88، القواعد والفوائد الأصولية، ابن اللحام: ص 155، إرشاد الفحول: ص 30.
(2)
رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، ورواه الحاكم.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"(1)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران"(2).
ولا تصح الصلاة من المسلم إلا بتلاوة القرآن الكريم، قال تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"(3).
أما الأحاديث القدسية والأقوال النبوية فلا يتعبد بتلاوتها، ولا تصح الصلاة فيها؛ لأن ألفاظها من عند النبي صلى الله عليه وسلم، كما تخرج الآيات المنسوخة اللفظ، سواء بقي حكمها أم لا؛ لأنها لم تبق قرآنًا، ولا يصح التعبد بتلاوتها (4).
6 -
المكتوب في المصاحف: المصاحف جمع مصحف، والمصحف مجمع الصحف، فكتاب الله تعالى دونه كُتّاب الوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع ألواحه أبو بكر رضي الله عنه، ثم نسخه عثمان رضي الله عنه في ستة أو سبعة مصاحف، ونشره في الأمصار الإِسلامية، لتوحيد قراءتها، ومنع الاختلاف بين المسلمين في كتابهم، وحصر العلماء كتابة المصحف بالرسم العثماني الذي كتب في عهد عثمان رضي الله عنه، للحفاظ التام والكامل على الشكل والمضمون لكتاب الله تعالى، ولذلك يشترط لصحة القراءة أن تكون موافقة للرسم
(1) رواه مسلم وأحمد.
(2)
رواه البخاري ومسلم.
(3)
رواه الستة وأحمد.
(4)
انظر شرح الكوكب المنير: 2 ص 8.