الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"كان يقبل أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ"(1).
وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي اختلف فيها الفقهاء بسبب اختلافهم في حجية الحديث المرسل وليس بسبب آخر.
ثالثًا: صلة أسباب الاختلاف بعلم الأصول:
الواقع أن علم الأصول ساهم مساهمة بناءة في القضاء على أسباب الاختلاف الباطلة التي لا تقوم على أساس، ولا تنسجم مع هدف المشرع، أو مقاصد الشريعة، ولا توافق الإيمان بأصول الدين وأركانه، ولذا فقد وفع علم الأصول حدًّا للترهات، وكان سلاحًا في وجه من تسول له نفسه الولوج إلى شريعة الله ليحرف فيها، أو يغير في أصولها، أو يدس فيها ما ليس منها، أو يحاول هدم وبذر الشقاق والخلاف الشخصي فيها (2)، وكان علم أصول الفقه حجر عثرة في وجه الطامعين في الإساءة إلى كتاب الله وسنة نبيه، فكانت قواعد الأصول وضوابطه ميزانًا لسبر الأحكام والآراء والاختلافات، بل كانت مساعدًا للحكم على الرجال والعاملين في هذا المضمار، لتمييز الخبيث من الطيب، والغث من الثمين، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
ونضرب مثالًا لذلك أنه ظهر في القرن الثاني بدعة خطيرة، وملة ضالة، أرادت تقويض دعائم الإسلام بهدم أحد ركنيه وهو السنة، فأنكرت حجيتها، وحاولت تغطية مآربها الخبيثة بحجة الاكتفاء بالقرآن الكريم الذي أكمله الله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، {مَّا مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فوضع الإمام الشافعي "الرسالة" وغيرها من كتب
(1) انظر تفصيل هذه المسائل في المراجع السابقة، في الصفحة السابقة.
(2)
انظر كتاب الاعتصام، للإمام الشاطبي: 2 ص 166 وما بعدها.
الأصول وأفاض في الكلام عن حجية السنة ومكانتها في التشريع، ورد الشبه والأوهام والأباطيل التي أثارها منكرو السنة، فتأكد هذا الأصل، واتفق المسلمون على حجية السنة، ولم يجرؤ أحد على إنكارها، أو الحياد عنها (1)، وانقرضت تلك الفئة الباغية دون أن تترك أثرًا في التاريخ الذي لم يحفظ لنا اسمها واسم الداعين إليها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن علم أصول الفقه جعل الاختلاف بين الفقهاء منضبطًا، فنظم هذا الاختلاف وحدد قواعده، وكان حَكَمًا على الفقهاء في اختلافهم، وهو دليل على أن الاختلاف بين الأئمة والفقهاء مبني على اختلافهم في المبادئ والأصول التي قامت عليها أحكام المذاهب، وليس بسبب التعصب الباطل والتقليد الأعمى، وإن كل باب من أبواب الأصول يعطي الدليل على ذلك، سواء في مصادر التشريع، أم في فهم النصوص وتفسيرها في القرآن والسنة، أم في تعارض الأدلة، مما يؤكد صدق النوايا، والإخلاص لله في العمل، والتوجه إلى مرضاته في الاستدلال والاستنباط والاجتهاد.
ونختم الكلام عن أسباب الاختلاف بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فيقول:"وبعد: فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون ما مات من سنته، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا"(2).
(1) انظر الرسالة: ص 443، 756.
(2)
رفع الملام عن الأئمة الأعلام، له: ص 3.
فالاختلاف في الفروع لا يضر في الأمة، ولا يفرق شملها، ولا يشتت قوتها، وإنما الخطر كل الخطر في الاختلاف في العقيدة وأصول الشريعة، وهذا لم يحصل، والحمد لله، وإذا رأينا تعصبًا مقيتًا، أو شقاقًا مفرقًا، فإن الأئمة بريئون منه براءة الذئب من دم يوسف، وإن السبب يرجع إلى الجهل بالشريعة أولًا، وبسيرة الأئمة وآرائهم ثانيًا، وإلى اليد العاتية الدخيلة التي تريد تمزيق الأمة ثالثًا.
نرجو الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، وأن يلهمنا السداد في القول والعمل.