الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأضغان بين الأفراد.
وفي التحسينيات بيَّن الشارع شروط الطهارة، والإحسان بالتعامل، والتحلي السامي بمكارم الأخلاق، وأن يترفع المسلم عن المعاملة بالمثل، كما طلب الشارع الإنفاق من الطيب الحلال، وأن يحسن المسلم الأضحية والعقيقة ليقدمها بين يديه يوم القيامة (1).
ونبادر إلى التنبيه إلى أن هذا التقسيم للأحكام بحسب مقاصد الشريعة ومصالح الناس لا يعني أن الأحكام الضرورية فرض وواجب، وأن الأحكام الحاجية مندوبة وسنة، وأن الأحكام التحسينية مباحة، وإنما شرعت الأحكام لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وفي كل قسم منها فرائض ومندوبات ومباحات.
سادسًا: ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقاصد:
تبين لنا من النظر العقلي والواقع الملموس أن مصالح الناس متدرجة ومرتبة بحسب أهميتها ومكانتها في الحياة الإنسانية، وجاءت الأحكام الشرعية مطابقة لذلك، فجاءت على درجات مختلفة بحسب مصالح الناس، ويأتي ترتيبها بحسب أهميتها، فأهمها الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح الضرورية؛ لأنه يترتب على تركها وضياعها الاختلال في نظام الحياة، ثم تأتي الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح الحاجية؛ لأنه يترتب على عدم الأخذ بها وقوع الناس في الضيق والحرج، والشدة والمشقة والعسر، ثم تأتي الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح التحسينية، وأخيرا تأتي الأحكام المكملة لكل نوع من الأنواع السابقة.
ويظهر من ذلك أيضًا أن الأحكام الحاجية هي كالتتمة والتكملة
(1) انظر الموافقات: 2 ص 6.
والصيانة للمصالح الضرورية وأحكامها، وأن التحسينيات مكملة للحاجيات، فالضروريات هي أصل المصالح كلها، وهي مقصود الشارع الأصلي، فشرع لها الأحكام الأصلية ثم صانها ورعاها وحفظها ببقية الأحكام.
وينتج عن ذلك أنه إذا تعرضت المصالح الضرورية أو إحداها للخلل أدى ذلك إلى اختلال المصالح الحاجية والتحسينية، وإذا اختل حكم حاجي أو تحسيني فإنه يؤثر بطريق غير مباشر على المصالح الضرورية بوجه من الوجوه، وينذرها بالخطر، لذلك تجب المحافظة على المقاصد الحاجية، والمقاصد التحسينية حتى لا تتعرض المصالح الضرورية للخلل، و"في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكَدُ منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حِمًى للآكَد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه"(1).
وإذا تعارض حكمان من الأحكام الشرعية، فيقدم الأهم فالأهم، وقد وضع العلماء قواعد للترجيح في ذلك، منها:
1 -
تقدم الأحكام المشروعة للمصالح الضرورية على الأحكام المشروعة للمصالح الحاجية والتحسينية، فالصلاة المفروضة لحفظ الدين مقدمة على البيع والشراء، والمعاملات المشروعة لحفظ المصالح الحاجية، ومقدمة على النوافل والذكر وتلاوة القرآن، والمؤمن يترك البيع والشراء في بعض الأوقات لأداء العبادات المفروضة من صلاة وصيام وحج حتى لا تفوت عليه هذه العبادات؛ لأن حفظ الدين
(1) الموافقات: 2 ص 13، وانظر المرجع نفسه: 2 ص 9، 10.
ويقول العز عبد السلام: (طلب الشرع لتحصيل أعلى الطاقات كطلبه لتحصيل أدناها في الحد والحقيقة، كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع أدناها؛ إذ لا تفاوت بين طلب وطلب" (قواعد الأحكام: 1 ص 22)،
ضروري وأهم من ممارسة المعاملات وحفظ الحاجيات، وإذا مرض إنسان فإنه يباح له أن يكشف عورته على الطبيب للمعالجة وأخذ الدواء، ويرخص له أن يفطر في رمضان، ليحافظ على صحته، ولكي لا يعرض نفسه للخطر والهلاك، وليرفع عنها المشقة والحرج، ولأن حفظ النفس أهم من ستر العورة، قال تعالى في آية الصيام:
وأنه لا يصح الأخذ بحكم حاجي أو تحسيني إذا كان في تطبيقه مساس أو تأثير على حكم ضروري، فلا يصح البيع والشراء إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة؛ لأن ذلك يؤدي إلى هدم أمر ضروري، وهو إقامة الدين وتأدية شعائره في الخطبة وصلاة الجمعة.
وإذا تعارض حكم مشروع لتحقيق الحاجيات مع حكم مشروع لتحقيق التحسينات فإنه يقدم الأول، فمن التحسينيات النهي عن بيع المعدوم، والنهي عن الجهالة في البيع، ولكن الشارع أباح ذلك في السلم والاستصناع لرفع الحرج والمشقة عن الناس.
2 -
إن المصلحة العامة في كل قسم من أقسام المصالح تقدم على المصلحة الخاصة فيه، فالمصلحة العامة في أحد الضروريات تقدم على المصلحة الخاصة فيه، كما لو تترس الكفار وراء أسرى المسلمين، وكما يجوز الإقدام على القتل والقتال في المعركة للحفاظ على حياض المسلمين والدفاع عن أرواحهم، والمصلحة العامة في الحاجيات تقدم على المصلحة الخاصة في الحاجيات؛ فيحرم الاحتكار؛ لأن فيه ضررًا بمصلحة حاجية عامة، والمصلحة العامة في التحسينات تقدم على المصلحة الخاصة فيها، ولذلك ورد النهي عن التطويل في الصلاة، وأن من أمَّ في الناس فليخفف، والمصلحة العامة مثلًا في الجهاد لحفظ الدين مقدمة قطعًا على المصلحة الخاصة في حفظ النفس والمال،
ولذلك شرع الجهاد في سبيل الله لإقامة الدين والحفاظ عليه، مع ما فيه من تعريض النفس والمال للقتل والهلاك والخطر (1).
والمصلحة العامة في الضروريات كلها تقدم بالأولى على المصلحة الخاصة في الحاجيات والتحسينات، فالجهاد مقدم على المعاملات وإقامة النوافل.
3 -
إن الأحكام لرعاية المصالح الضرورية نفسها على درجات، فبعضها أهم من بعض، فيجب مراعاة الأهم فالمهم، فحفظ الدين أهم من حفظ النفس، فشرع الجهاد بالنفس والمال للحفاظ على الدين، وحفظ النفس أهم من حفظ العقل، فهذا تعرضت النفس للهلاك فيرخص بشرب الخمر، وتباح المحظورات عند الضرورة التي تهدد الإنسان بإتلاف نفسه أو عضو منه، مما يطول شرحه وتفصيله (2).
4 -
ونختم هذه الفقرة بسرد أهم القواعد الفقهية التي وضعها العلماء لترجيح أحد الأحكام والمصالح على بعض، وهي:
1 -
الضرورات تبيح المحظورات.
2 -
يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
3 -
يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما.
4 -
يختار أهون الشرين.
5 -
المشقة تجلب التيسير.
6 -
الحرج مرفوع شرعًا.
7 -
الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات.
(1) انظر المستصفى: 1 ص 294 وما بعدها.
(2)
انظر ضوابط المصلحة: ص 60.
8 -
الضرر يزال شرعًا.
9 -
الضرر لا يزال بالضرر.
10 -
دفع المضار مقدم على جلب المنافع.
11 -
درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
ونكتفي بهذا العرض الموجز لمقاصد الشريعة، لنترك التفصيل والشرح للدراسات المعمقة والتخصصية.