الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا التعدد في الأقوال، وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لاختلاف الصحابة، إن دل على شيء فإنما يدل على مرونة الشريعة وسعتها، والتيسير فيها، ورفع الحرج عن المكلفين في تطبيقها.
ثانيًا: أهم أسباب الاختلاف:
سنكتفي بتعداد أهم أسباب الاختلاف مع ضرب بعض الأمثلة، دون التحقيق فيها أو الإفاضة في شرحها، وتوضيحًا للغرض فقد قسمنا أسباب الاختلاف إلى قسمين من حيث صلتها بعلم الأصول.
القسم الأول:
أسباب الاختلاف التي لا ترجع مباشرة إلى علم أصول الفقه، وكانت سابقة على وجوده، وهي:
1 -
الاختلاف في الأمور الجبليَّة، وذلك أن الناس، ومنهم الأئمة والعلماء، قد فطروا على قدرات مختلفة، وطبائع متباينة، وأن تركيب النفس البشرية يختلف من شخص إلى آخر، كما أن القدرات العقلية والملكات الذاتية لا يمكن أن تكون متساوية ومتفقة بين شخصين، ولذلك تختلف وجهات النظر بينهم، وينتج بالتالي اختلاف في الأحكام التي يجتهدون في استنباطها.
يقول الشيخ علي الخفيف: ذلك أن عادات الناس مختلفة، وأعرافهم متعددة، وأعمالهم متنوعة، وآراءهم متعارضة، وأنظارهم متفاوتة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وإذا اختلفت المقدمات اختلفت النتائج (1). ثم يقول: وجد الخلاف
= العصر"، انظر صحيح مسلم بشرح النووي:12 ص 97، صحيح البخاري مع حاشية السندي: 1 ص 116، حياة الصحابة: 2/ 381.
(1)
محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، له ص 2، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم =
ولا يزال إلى اليوم، ولن يزال قائمًا ما دام الناس هم الناس بطبائعهم وأفكارهم وتقلبهم ومعايشهم وتعليمهم وتربيتهم وبيئتهم وأعرافهم (1).
فالاختلاف واقع في التفكير والعقل والحواس والملكات، وبالتالي فلا بد أن تختلف الآراء والاجتهادات في المسألة الواحدة، وهذا الخلاف لا يحتاج إلى استدلال ولا براهين، ولا ينكره إلا من ينكر الشمس الطالعة، وهذا من دلائل عظمة الله تعالى القائل:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [الروم: 22].
ولكن الذي يستدعي الانتباه فيه أمران:
أ- أن هذا الاختلاف في التكوين اعترفت به الشريعة التي جاءت متفقة مع الفطرة والواقع والعقل، بل اعتبرت الاختلاف في ذلك رحمة بالأمة.
ب- ونتج عن الأمر الأول أن الإسلام قدر قيمة العقل والفكر، وأطلق عنانه من قيود التبعية والتقليد، ومنحه القدرة على رفض الذيلية والخضوع لطبقة معينة تسمى رجال الدين أو رجال السياسة أو
…
ولم توجب الشريعة إلزام المسلم برأي معين إلا ما أوجبه الله تعالى.
2 -
الاختلاف في اللغة، وذلك أن علماء اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم مختلفون في أمور كثيرة تتعلق بوضع اللفظ الدال على المعنى، وبمعنى الألفاظ ودلالتها، وفي الأسلوب والصيغ وغير ذلك، وظهر عندهم الحقيقة والمجاز، والعام والخاص والمشترك والمترادف وغير ذلك، مما أكسب اللغة اتساعًا، فاختارها الله لرسالته، وظهر فيها
= لابن تيمية ص 35 وما بعدها، الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف، للحافظ ابن عبد البر (الرسائل المنيرية: 2/ 153 - 194).
(1)
المرجع السابق: ص 8.
إعجاز القرآن الكريم، وكان الاختلاف الواقع في اللغة مؤديًا إلى الاختلاف في فهم النص ودلالته، وإلى الاختلاف في استنباط الحكم الشرعي منه، مثل لفظ: النكاح والقرء واليد واللمس والنبيذ وحروف الجر والعطف، وقد وضع علماء الأصول بعض المبادئ اللغوية التي تطبق على فهم النصوص، ودخلت هذه المبادئ في قواعد علم أصول الفقه (1).
3 -
اختلاف البيئات والعصور والمصالح، وذلك أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن المصالح الثابتة والمقاصد الشرعية الرئيسية لا اختلاف فيها ولا نزاع، وأما الأحكام الجزئية والتفصيلية فقد تحقق المصلحة في مكان دون مكان، وقد تلبي حاجات الناس في زمان دون زمان، فلو كانت الأحكام التفصيلية الفرعية واحدة لأدى ذلك إلى الحرج، وانتفت مصالح الناس، وتوقفت أعمالهم، ولحقهم الضجر الذي يدفعهم إلى التحايل والتهرب من التشريع بشتى الوسائل، فالبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت في الحجاز تختلف تمامًا عنها في العراق أو الشام أو مصر، وما ألفه الناس من عادات وتقاليد وأعراف صحيحة في صدر الإسلام يستغربها المسلم في العصور الأخيرة، وإن بعض الأحكام والشروط التي نص عليها الأئمة في القرون الأولى لتحقيق المساواة والعدالة بين أطراف العقد تعتبر عبئًا عليهم اليوم بدون هدف ولا غاية ولا فائدة.
(1) الفقه المقارن، الزفزاف: ص 41، 56، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء ص 131، أصول الفقه، خلاف: ص 329، أبحاث في علم أصول الفقه: ص 15، 18، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء: ص 68، الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف: ص 32 وما بعدها، ص 69 وما بعدها، ص 159، الاعتصام، الشاطبي: 2 ص 165، فقه الكتاب والسنة في القصاص، المرحوم محمود شلتوت: ص 48.
كل هذه الأسباب دعت الأئمة إلى الاختلاف في الأحكام الفرعية حسب البيئات والعصور والمصالح، وكان الإمام الواحد إذا تغيرت هذه الظروف لم يبق شامخ الرأس، متحجر العقل، متغطرس التفكير، بل كان واقعيًا وحساسًا لهذه الأمور فيرعاها ويغير من اجتهاده على مقتضاها، كما حصل مع الإمام الشافعي، وكما حدث مع الصاحبين بعد وفاة الإمام أبي حنيفة، وكما نرى في كثير من الأحكام المختلف فيها بين المتأخرين والمتقدمين في المذهب الواحد، ويقولون:"إنه اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان" ووضعوا القاعدة الفقهية: "لا ينكر تغير الأحكام لتغير الأزمان" لتأكيد صلاحية الشريعة في كل زمان ومكان، وأنها خالدة وحجة على المؤمنين بها والحاقدين عليها على حد سواء (1).
4 -
الاختلاف في فهم المراد من النص عندما تكون دلالة النصوص ليست قطعية، ويكون المعنى خافيًا، أو محتملًا للتأويل، أو قابلًا للنسخ، وظهر هذا السبب منذ عصر الصحابة الذين اختلفوا في فهم النص القرآني، ثم جاء علماء التفسير وحاولوا بيان معنى الآيات فاختلفوا في ذلك، كالاختلاف في القراءات، والقراءة الشاذة، وألفاظ القرآن المشتركة، والعام الذي يدخله التخصيص، والمطلق الذي يلحقه التقييد، كما اختلف علماء الحديث في فهم المراد من الحديث عند غموض النص، أو احتمال تأويله، أو تعارضه مع نص آخر، كما اختلفوا في المراد من السنة الفعلية ودلالتها على الأحكام، كالاختلاف في حكم طواف القدوم، وحكم الأفعال الجبلية التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الاختلاف في فهم المراد من النص مؤديًا إلى الاختلاف في الأحكام بين الفقهاء (2).
(1) محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، الخفيف: ص 195 وما بعدها.
(2)
الفقه المقارن، الزفزاف؛ ص 10، 11، 15، محاضرات في أسباب اختلاف =