الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في فائدة علم أصول الفقه
إن علم أصول الفقه من أشرف العلوم، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، ولا تظهر فائدته إلا بعد بيان الغاية منه.
والغاية من علم أصول الفقه هي الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية (1)، أي أحكام الله تعالى في أفعال العباد، سواء أكانت اعتقادًا بالقلب، أم نطقًا باللسان، أم عملًا بالأعضاء، وسواء أكانت في العقيدة أم العبادات، أم المعاملات، أم الأخلاق، أم العقوبات، وذلك ليلتزم المكلف حدود الله تعالى، ويبتغي مرضاته، ويؤدي واجباته، وينتهي عن المحارم، وباختصار ليكون المكلف في المكان الذي أمره الله به، ويتجنب معاصيه وما نهاه عنه.
وبناء على ذلك فإن علم أصول الفقه ليس غاية في ذاته، وإنما هو
(1) الأحكام: الآمدي: 1 ص 9، مختصر ابن الحاجب: ص 3، تسهيل الوصول: ص 20، المقدمة، ابن خلدون: ص 452، طبع المكتبة التجارية بمصر، الوصول إلى علم الأصول 1/ 52.
طريق ووسيلة إلى معرفة حكم الله تعالى في الوقائع، وإن دراسة القواعد والأدلة، ومعرفة طرق الاستنباط ليست مقصودة بذاتها، وإنما تقصد لما وراءها، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يغيب ذلك عن ذهن الطالب والعالم والمجتهد الذين يدرسون الأصول ويدركون فائدته وأهميته ومكانته الرفيعة بين العلوم، وأنه لا يقصد منه الحفظ والتلقي، وإنما يقصد منه أن يكون سلاحًا ماضيًا، ومفتاحًا سديدًا في يد الباحث.
وبعد هذه المقدمة نذكر أهم فوائد علم الأصول:
1 -
إن علم الأصول يرسم للمجتهد الطريق القويم الموصل إلى استنباط الأحكام، ويضع أمامه منهجًا واضحًا ومستقيمًا في كيفية الاستنباط، فلا ينحرف يمينًا أو يسارًا، ولا يخبط خبط عشواء، ولا يزل به العقل والهوى عند أخذ الأحكام من الأدلة، فيضع عالم الأصول القواعد الكلية لمعرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة والنصوص (1).
2 -
كان علم الأصول الوسيلة الناجحة لحفظ الدين من التحريف
(1) تظهر هذه الفائدة بشكل جلي في السبب الذي دعا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لوضع وتأليف أول كتاب أصولي وهو الرسالة، فقد كان النزاع على أشده بين أهل الرأي وأهل الحديث، وكان أهل الرأي على جانب عقلي بارع، وتفكير جدلي واسع، ومقدرة على المناظرة والجدل، وكانوا يزدرون أهل الحديث ويطعنون فيهم وينتقصون من قدرهم وقيمتهم، وكان أهل الحديث على علم كبير بالرواية وجمع الآثار والتقيد بالمأثور، ويقدمونه على الفكر والعقل، وكانوا يهاجمون أهل أصحاب الرأي ويعيبون عليهم تقديم الرأي، وبرز التعصب للفريقين، واشتد الخلاف بينهم فجاء الشافعي وكتب الرسالة وبين تنظيم الأحكام ورسم منهج البحث والنظر والجدل، وقعد القواعد، وحدد الأدلة والمصادر، ونظم العلاقة بينها، وبيَّن مكان كل منها ومرتبتها، وعين الضوابط التي يجب السير عليها في الاستنباط، فقرب بين الفريقين، وأذعن له المخالف والموافق، وسوف نرى تفصيل ذلك في الفصل القادم إن شاء الله.
والتضليل، فصان أدلة الشريعة، وحفظ حجج الأحكام، وعرف الناس بمصادر التشريع الأصلية التي يجب الالتزام بها والرجوع إليها، كما بيّن المصادر الفرعية والتبعية التي كانت المجال الرحب لاتساع الشريعة، وتلبية حاجات المجتمع والأمة فيما يعتريها من وقائع وأحداث، وكان علم الأصول العقبة الكأداء في وجه المنحرفين والمضللين والمشعوذين الذين حاولوا الدسّ في الأحكام، وتشويه مقاصد التشريع والمراوغة في التضليل والدعوة (1)، كمن ينفي حجية خبر الآحاد، أو ينكر السنة، أو ينفي حجية الإجماع والقياس، ومن يدعي أنه لا دلالة في ألفاظ القرآن على شيء، ومن يدعي أن في القرآن ألفاظًا مبهمة، ومن يتلاعب بالأحكام، وأن الخمر مثلًا ليست محرمة لعدم النص على التحريم بلفظ يحرم.
وقد بيّن علماء الأصول مصادر التشريع وبينوا دلالات الألفاظ وتفسير النصوص، ونصوا على قوة الأدلة القطعية والظنية، والعلاقة بين النص السابق واللاحق في التخصيص والنسخ، كما بينوا لنا طرق الاجتهاد وشروط المجتهد، فكان علم الأصول سلاحًا ذا حدين يعين المخلصين على معرفة أحكام الله، ويرد كيد الكائدين في نحورهم (2).
(1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 28، الوصول إلى علم الأصول: 1/ 53، التمهيد للإسنوي، مقدمته في فوائد علم أصول الفقه.
(2)
إن علم أصول الفقه الذي وضع القواعد والأسس للاجتهاد والاستنباط، وحدد الطريق للباحثين، علم فريد في تاريخ الأمم والشرائع القديمة والحديثة، ويحاول الآن بعض علماء القانون مجاراة هذا العلم، وإيجاد مثيل له، تحت عنوان أصول القانون أو طرق التفسير، مع الفارق الكبير بينها وبين أصول الفقه الإسلامي، يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري والدكتور حشمت أَبو ستيت عن الفقهاء المسلمين: قد امتازوا على الرومان وعلى غير الرومان من الأمم التي تفوقت في القانون بوضع علم أقرب ما يكون لعلم أصول القانون، وهو علم أصول الفقه، بحثوا فيه مصادر الشريعة الإسلامية، وكيفية استنباط الأحكام التفصيلية من هذه المصادر، وهذا =
3 -
إن علم الأصول يبين للأمة عامة، ولأتباع المجتهد، ودارسي الفقه خاصة، المنهج الذي سلكه الإمام المجتهد، ويرسم أمامهم معالم الطريق الذي سار عليه في الاستنباط والاجتهاد لتطمئن قلوبهم لعلمه، وتزداد ثقتهم بالحكم الذي وصل إليه، وتستقر نفوسهم إلى مسلك الإمام وأساس الاختلاف، وأن المجتهد يقصد وجه الله تعالى ويبغي مرضاته في عمله، دون أن يدفعه لذلك الهوى الجامح، أو المصلحة الشخصية، أو القصد المادي، أو التطلع إلى منصب أو جاه.
وأتباع كل مذهب -وإن لم يصلوا إلى درجة الاجتهاد، ولم ينزلوا إلى درجة العوام- يرغبون بطبيعة الحال في معرفة أساس الاجتهاد عند الأئمة، وكيف وصلوا إلى استنباطها، ولا يتمكنون من ذلك إلا بدراسة علم أصول الفقه، وإن فعلوا ذلك فقد نفوا عن أنفسهم وصمة التقليد الأعمى للإمام.
والعلماء -إن عرفوا مناط الأحكام وسبل الاجتهاد وأساس التشريع- إن ورد أمامهم رأيان استطاعوا أن يختاروا الرأي الأقرب إلى قواعد المذهب، وإن اعترضتهم جزئية صغيرة استطاعوا تخريجها على أصول المجتهد (1).
4 -
إن علم أصول الفقه يكوِّن عند الطالب والدارس والباحث ملكة
= العلم يميز الفقه الإسلامي عن أبي فقه آخر. (أصول القانون لهما: ص 11)، وانظر: مصادر التشريع الإسلامي للدكتور محمد أديب صالح: ص 12 - 14، مباحث الحكم للأستاذ محمد سلام مدكور: ص 38، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 5، المدخل إلى علم أصول الفقه، الدواليبي ص 8، 10، ولذلك يدرس علم أصول الفقه في كليات الحقوق والقانون.
(1)
أصول الفقه: أَبو زهرة: ص 17، تسهيل الوصول: ص 20، مقاصد الشريعة الإسلامية ص 6.
عقلية وفقهية تصحح تفكيره، وتعبد الطريق أمامه للاجتهاد والاستنباط والإدراك الصحيح والفهم التام للحكم على الأشياء، ليكون في المستقبل القريب من علماء الأمة ورجال الغد، وحملة الرسالة السماوية والأمانة الإلهية في التشريع، ويصبح قادرًا على استنباط الأحكام من الأدلة.
5 -
يرسم علم أصول الففه الطريق للعلماء، في كل عصر لمعرفة حكم الله تعالى في المسائل المستجدة، والوقائع الحادثة التي لم يرد فيها دليل شرعي، ولم ينص عليها الأئمة في كتبهم، فيخوض العالم غمار هذه الأحداث فيعرف ما يتفق منها مع حكم الله تعالى، وما يحقق شريعته، ويحفظ مقاصده الأصلية، فيبقى التشريع مسايرًا لتطورات الزمن، ولا شك أن الحاجة ملحة للتشريع الدائم، والاجتهاد المستمر، لأن التشريع نفسه وليد الحاجة، وإذا كان من الترف الفكري والعقلي وجود الفقه الافتراضي، فإنه من الخطأ الفادح، والتقصير الآثم جمود الفقه والتشريع عن مجاراة العصر وبيان كل ما يقع فيه من جديد، لأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ومن ذلك طفل الأنابيب، وموانع الحمل، والتأمين على الحياة، والتعامل مع المصارف، ونقل الأعضاء، وموت الدماغ، والتجارة الدولية، وحوادث السير، ونظام المرور، والاتصالات الحديثة، والأعمال المصرفية، والمواصلات الدولية، وغيرها كثير.
وإن علم أصول الفقه هو الذي يعرفنا على الأحكام الشرعية في كل حادث وطارئ، فقد قال علماء الأصول: إن لكل واقعة حكمًا لله تعالى، وإن كل مجتهد مأجور، وهذا يبين السبب في غلق باب الاجتهاد الذي أوصده العلماء أمام الجهال والدجالين، وأنصاف المتعلمين، خشية أن يتولوا كرسي الاجتهاد، ويدسُّوا في الدِّين ما ليس فيه، فيَضلوا ويُضلوا، كغلق المدرسة إذا لم يتوفر طلاب أو أساتذة،
وغلق معمل إذا لم يتوفر فيه مهندس أو اختصاصي، أو مواد أولية.
وعلى الرغم من القول بقفل باب الاجتهاد في فترة زمنية، فلم تتوقف دراسة أصول الفقه، ولم يَحرم الاطلاع عليه، ولم يُلغ من حلقات الدرس، بل بقي هذا العلم على مر الأزمان والعصور علمًا شرعيًّا يتبوأ الدرجة العليا في الدراسة والتدريس والتأليف، وما ذلك إلا لأن هذا العلم يؤكد صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان، ويظهر مرونة التشريع الإسلامي ومسايرته لمصالح الناس، وإن الشريعة الغراء تلبي حاجات المجتمع كيفما كان.
6 -
إن علم أصول الفقه يضبط الفروع الفقهية بأصولها، ويجمع المبادئ المشتركة، ويبين أسباب التباين بينها، ويظهر أساس الاختلاف (1).
مثال ذلك القاعدة الأصولية "الأمر للوجوب"، فإنها تشمل جميع النصوص في القرآن الكريم والسنة الشريفة التي جاءت بصيغة الأمر، فإنها تفيد الوجوب، ما لم يوجد قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة، وإن القاعدة الأصولية "لا اجتهاد في مورد النص" قاعدة أساسية تعتبر شعار المجتهد والمتبع والمقلد والباحث والمناظر، فحيثما ورد النص في القرآن والسنة فلا مجال لإعمال الرأي والاجتهاد والاستنباط.
7 -
إن علم أصول الفقه هو الدعامة الرئيسية والركيزة الأساسية لدراسة المذاهب المختلفة والمقارنة بينها، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي شاع فيه البحث المقارن، وانتشرت الدراسات المقارنة لبيان ما يتفق مع الدليل الراجح، وما يوافق مقاصد الشريعة، ويحقق مصالح
(1) كشف الأسرار: 1 ص 12.
الناس، ويؤكد هذه الأهمية أن القوانين والفتاوى والاجتهادات والدراسات تتجه للأخذ من مختلف المذاهب، باعتبار أن الشريعة الإسلامية بمذاهبها المتعددة مصدر للتشريع وأخذ الأحكام، ولم تعد تقتصر على مذهب معين، بل تبحث في المذاهب، وتطوف بين الأدلة والأحكام لاختيار ما يؤيده الدليل القوي، وما يصلح للأمة (1).
ويأتي علم أصول الفقه في قمة الوسائل التي يستخدمها الباحث في المقارنة فيتعرف على الدليل، ومنهج الاستنباط، ومسلك الاجتهاد، ثم يختار الأحكام التي يرجحها على غيرها، ويكون علم أصول الفقه هو المقياس الذي توزن به الآراء عند الاختلاف (2).
8 -
إن علم أصول الفقه يعطي الدليل الجازم لعظمة الثروة الفقهية من جهة، ويؤكد للباحث المجرد، والمطلع الحيادي أن أسباب الاختلاف بين الأئمة هي أسباب موضوعية علمية، وليست أسبابًا شخصية أو عشوائية، وهذا ما نفصله في الفصل الرابع من هذا التمهيد إن شاء الله تعالى.
هذه الفوائد -وغيرها كثير- تثبت أهمية أصول الفقه، وضرورة دراسته وتعلمه، والاطلاع عليه، والتزود بقواعده، والتمرس بأسلوبه، والاهتداء به في معرفة تراث الأمة السابق، واستنباط الأحكام للوقائع
(1) أخذت قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية من مختلف المذاهب، ولم تقتصر على المذهب الحنفي، كما كان سابقًا، وهي الأحكام الوحيدة التي لا تزال مأخوذة من الشريعة الإسلامية في معظم البلاد الإسلامية.
(2)
لقد زالت -والحمد لله- العصبية العمياء للمذهب، وانقرضت المذهبية الضيقة، بين العلماء والطلاب والناس، ومن يلتزم بمذهب معين فإنه يأخذ أحكامه بدون تعصب ولا تزمت، مع الاحترام والتقدير للمذاهب الأخرى، وكانت هذه النزعة المذهبية قد استشرت بين العلماء والعوام ووصلت إلى الحد الذي يتنافى مع العقل والشرع معًا.
في الحاضر، وتوضيح الرؤية لمستقبل المسلمين الذين يأملون في تطبيق شريعة ربهم والرجوع إلى كتابهم وسنة رسولهم بمشيئة الله تعالى (1).
(1) إن الفئة الوحيدة التي لا تستفيد من علم أصول الفقه فئة العوام الذين يكتفون بمعرفة الحكم الشرعي لتطبيقه دون أن يحتاجوا لمعرفة دليله وأساسه ومأخذه، (انظر: أصول الفقه، أَبو النور: 1 ص 3، أصول الفقه، الخضري: ص 20، أصول الفقه، خلاف: ص 13، 19، أصول الفقه البرديسي: ص 35، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 14، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 29، مباحث الكتاب والسنة، للدكتور فوزي فيض الله: ص 7، أبحاث في علم أصول الفقه، للدكتور أحمد الكردي: ص 7، أصول التشريع الإسلامي، علي حسب الله: ص 7، مقدمة ابن خلدون: ص 456).