الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الإحصار والفوات
مَنْ أُحْصِرَ .. تَحَلَّلَ، ..
===
(باب الإحصار والفوات)
الإحصار في الاصطلاح: المنع عن إتمام أركان الحجّ أو العمرة، فلو منع من الرمي، أو المبيت .. لم يجز له التحلّل؛ كما نقله في "شرح المهذب" عن الروياني وغيره؛ لتمكنه من التحلّل بالطواف والحلق، ويقع حجُّه مجزئًا عن حجة الإسلام، ويجبر الرمي والمبيت بالدم (1).
وأما الفوات .. فالمراد به: فوات الحجّ؛ لأن العمرة لا تفوت إلا في حقّ القارن خاصة تبعًا لفوات الحجّ.
(من أُحصر .. تحلل) جوازًا؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: فإن أحصرتم وأردتم التحلل؛ إذ الإحصار بمجرده لا يوجب الهديَ، والآية نزلت بالحديبية حين صَدّ المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وكان معتمرًا، فنحر ثم حلق، ثم رجع وهو حلال (2).
واستثنى الماوردي من جواز التحلّل -كما نقله في "الكفاية" وأقره-: ما إذا تيقن انكشافَ العدو؛ لعلمه بأنه لا يمكنه الإقامة، فإن كان في الحجّ وعلم أنه يمكنه بعد انكشافهم إدراكه، أو كان في العمرة وتيقن انكشافهم إلى ثلاثة أيام .. لم يجز التحلل (3).
ومراد المصنف بالإحصار هنا هو: الحصر بالعدو خاصةً، وأما الحصر بالمرض .. فذكره بعدُ، وقد اعترض عليه: بأن الأشهر في اللغة -كما نقله المصنف-: أنَّه يقال: أحصره المرض إحصارًا فهو محصر، وحصره العدوّ حصرًا فهو محصور (4)، فكان
(1) المجموع (8/ 232).
(2)
أخرجه البخاري (1812)، ومسلم (1230) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
كفاية النبيه (8/ 35 - 36).
(4)
المجموع (8/ 222).
وَقِيلَ: لَا تَتَحَلَّلُ الشِّرْذِمَةُ. وَلَا تَحَلُّلَ بِالْمَرَضِ، فَإِنْ شَرَطَهُ .. تَحَلَّلَ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ
===
ينبغي أن يقول: (مَنْ حصر)، لكن السبكي ردّ ما نقله المصنف وقال: إن المشهور من كلام أهل اللغة: أن الإحصار: المنعُ من المقصود، سواء منع منه مرض أو عدو أو حبس، والحصر: التضييق، ويؤيده: أن الآية نزلت في منع العدوّ زمنَ الحديبية، وقد عبر فيها بالإحصار.
(وقيل: لا تتحلّل الشِّرْذمة) لأنه لم يعمّ الكلّ، فأشبه المرض وخطأ الطريق، والصحيح: الجواز؛ كما في الحصر العام؛ لأن مشقة كلّ واحد لا يختلف بين أن يتحمل غيره مثلها، أو لا يتحمل.
(ولا تحلُّل بالمرض) بل يصبر حتى يبرأ، فإن كان محرمًا بعمرة .. أتمها، وإن كان بحجّ وفاته .. تحلل بعمرة؛ لأن المرض لا يمنع الإتمام، ولا يزول بالتحلل، قال الماوردي: وهو إجماع الصحابة، ومال الشيخ عز الدين في "قواعده" إلى جواز التحلل به من غير اشتراط؛ لما في البقاء على الإحرام من المشقة والعسر الدائم (1).
(فإن شرطه) مقارنًا لإحرامه ( .. تحلّل به على المشهور) لقوله صلى الله عليه وسلم لضُباعة بنت الزبير حين أرادت الحجّ، وقالت له: والله ما أجدني إلا وجعة "حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولي: اللَّهُمَّ؛ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي"(2)، والثاني: لا يجوز؛ لأنها عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر، فلا يجوز بالشرط؛ كالصلاة المفروضة.
وغير المرض من الأعذار: كضلال الطريق، ونفاذ النفقة، والخطأ في العدد ونحو ذلك .. كالمرض، وعن الجويني: أنه لغو (3).
وحيث صححنا الشرط؛ فإن كان شرط التحلل بالهدي .. لزمه، أو بلا هدي .. فلا، وكذا إن أطلق على الأصح، وإنما يحتاج إلى التحلل إذا شرط التحلل، فلو قال:(إذا مرضت .. فأنا حلال) .. صار حلالًا بنفس المرض على الأصح
(1) الحاوي الكبير (5/ 470 - 471)، القواعد الكبرى (2/ 18).
(2)
أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207) عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
نهاية المطلب (4/ 429).
وَمَنْ تَحَلَّلَ .. ذَبَحَ شَاةً حَيْثُ أُحْصِرَ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بِالذَّبْحِ وَنيَّةِ التَّحَلُّلِ، وَكَذَا الْحَلْقُ إِنْ جَعَلْنَاهُ نُسُكًا، فَإِنْ فُقِدَ الدَّمُ .. فالأَظْهَرُ: أَنَّ لَهُ بَدَلًا؛
===
المنصوص، ولو شرط أن يقلب حجَّه عمرةً عند المرض .. فهو أولى بالصحة من شرط التحلل، نصّ عليه.
(ومن تحلّل .. ذبح شاة) للآية السالفة، ويقوم مقامها بدنة أو بقرة، أو سُبع أحدهما.
وقوله: (من تحلل) معناه: ومن أراد التحلل؛ لأن الذبح يكون قبل التحلل؛ كما سيأتي (حيث أُحصر) سواء كان الحصر في الحرم أو الحلّ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح هو وأصحابه بالحديبية، وهي من الحلّ (1).
وكذلك يذبح هناك ما لزمه من دماء المحظورات قبل الإحصار، وما معه من هدي التطوع، وله ذبحه عن إحصاره، وتفرقة اللحم على مساكين ذلك الموضع.
(قلت: إنما يحصل التحلّل بالذبح) لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (ونيةِ التحلّل) لأن الذبح قد يكون للتحلل، وقد يكون لغيره، فلا بدّ من قصد صارف.
(وكذا الحلق إن جعلناه نسكًا) لأنه ركن من أركان الحجّ قَدَرَ على الإتيان به، فلا يسقط عنه، ولا بدّ من مقارنة النية للذبح، وكذا للحلق إذا أوجبناه؛ كما نقله في "الكفاية" عن الأصحاب، وجزم به في "الروضة" في الكلام على تحليل العبد (2).
قال السبكي: ولا بدّ من تقديم الذبح على الحلق؛ كما صرح به الماوردي وغيره؛ للآية (3).
(فإن فُقد الدمُ .. فالأظهر: أن له بدلًا) كغيره من الدماء الواجبة على المحرم، والثاني: لا؛ لعدم النصّ، فيبقى في ذمته، وسواء فقد حسًّا أو شرعًا؛ لفقد الثمن،
(1) أخرجه البخاري (1809) عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم (1786) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
كفاية النبيه (8/ 37)، روضة الطالبين (3/ 178).
(3)
الحاوي الكبير (5/ 466).
وَأَنَّهُ طَعَامٌ بِقِيمَةِ الشَّاةِ، فَإِنْ عَجَزَ .. صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَلَهُ التَّحَلُّلُ فِي الْحَالِ فِي الأَظْهَرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ .. فَلَهُ تَحْلِيلُهُ
===
أو لاحتياجه إليه، أو وجده يباع بأكثر من ثمن مثله في ذلك الموضع والحال.
(وأنه) أي: البدل (طعامٌ) لأنه أقرب إلى الحيوان من الصيام؛ لاشتراكهما في المالية، فكان الرجوع إليه عند الفقد أولى (بقيمة الشاة) مراعاةً للقرب، فتقوّم الشاة دراهمَ، ويخرج بقيمتها طعامًا، وقيل: إنه ثلاثة آصع لستة مساكين؛ كفدية الحلق.
(فإن عجز .. صام عن كلّ مدّ يومًا) قياسًا على الدم الواجب بترك المأمور.
وقوله: (وأنه): معطوف على (الأظهر)، ومقابله: أن بدله الصومُ؛ كدم التمتع؛ لأن التحلل والتمتع شُرعا للتخفيف، وعلى هذا فقيل: إنه صوم التمتع، وقيل: صوم الحلق، وهو ثلاثة أيام، وقيل: صوم التعديل بأن يعرف ما يأتي بقيمته طعامًا، فيصوم عن كلّ مدّ يومًا.
(وله التحلّل في الحال) قبل أن يصوم عند فقد الهدي وبدله بالنية والحلق (في الأظهر، والله أعلم) لأن التحلل إنما شُرع لدفع المشقة، فلو وقفناه على ذلك .. لحقه المشقة؛ لتضرره بالمقام على الإحرام، والثاني: يتوقف على الصوم؛ لأنه قائم مقام الإطعام، ولو قدر على الإطعام .. لتوقف التحلل عليه، فكذلك ما قام مقامه.
(وإذا أحرم العبدُ بغير إذن سيده .. فله تحليله)(1) صيانة لحقه؛ لأنه قد يريد منه ما لا يباح للمحرم؛ كالاصطياد، وإصلاح الطيب، وقربان الأمة، وفي منع السيد من ذلك إضرارٌ به، والتحلل يكون بالنية والحلق.
والمراد بتحليل السيد: أن يأمره به، لا أنه يتعاطى الأسباب بنفسه، فإن امتنع .. ارتفع المانع بالنسبة إلى السيد، حتى يجوز له ما يمنعه الإحرام منه، وفي "البحر" أنه إذا قال: حللتك .. تحلل، واستغرب، فإن ألبسه مخيطًا، أو ضمخه بطيب .. فليس بتحلل، خلافًا لأبي حنيفة (2).
والأمة وأم الولد والمبعض والمكاتب كالعبد فيما ذكره.
(1) في (ب) و (د): (وإذا أحرم العبد بلا إذنٍ .. فلسيده تحليلُه).
(2)
بحر المذهب (5/ 267).
وَلِلزَّوْجِ تَحْلِيلُهَا مِنْ حَجِّ تَطَوُّعٍ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَكَذَا مِنَ الْفَرْضِ فِي الأَظْهَرِ. وَلَا قَضَاءَ عَلَى الْمُحْصَرِ الْمُتَطَوِّعِ،
===
وأفهم عدم تحليله إذا أحرم بالإذن، وهو كذلك، لكن يستثنى ما لو أذن له في العمرة، فأحرم بالحجّ .. فله تحليله.
(وللزوج تحليلُها من حجّ تطوع لم يأذن فيه) لئلا يتعطل حقُّه من الاستمتاع، فإن أذن .. لم يجز؛ لرضاه بالضرر، والعمرة في ذلك كالحجّ.
والمراد بتحليلها: أمرها به؛ كما مرّ في العبد، لكن التحلل هنا إذا كانت حرة .. يكون بالنية والحلق والذبح، فإن أبت .. فله وطؤها على المذهب في "شرح المهذب"(1).
(وكذا من الفرض في الأظهر) لأن حقّ الزوج على الفور، والحجّ على التراخي، والثاني: لا، قياسًا على المفروض من الصيام والصلاة.
ويستثنى من إطلاقه صور: منها: ما لو قال طبيبان عدلان: إن لم تَحُجّ العام .. عَضَبَتْ، فإن الحجّ يصير فوريًا، وليس له المنع ولا التحليل منه، ومنها: لو خرج مكي يوم عرفة إليها بأهله محرمًا بنية العود إلى مكة، فأرادت الإحرام بالحجّ معه، قال الأَذْرَعي: فيظهر أنه ليس له منعُها منه، ولا سيما حجة الإسلام، وليس له تحليلُها لو أحرمت؛ لأنها تأتي بالأركان في بعض يوم، وهو مشغول عنها بالحجّ، وقد صحح المصنف، وغيره: أنه ليس له منعُها من صوم يوم عرفة وعاشوراء، وهذا أولى. انتهى.
والعمرة كالحج فيما ذكره، قال الأَذْرَعي: ولا معنى لمنعه إياها من الاعتمار معه أو مع محرم، ولا سيما الفرض، أما التطوع .. ففيه نظر.
(ولا قضاء على المُحصَر المتطوع) إذا تحلل به؛ لأنه لم يؤمر به في الكتاب، ولا السنة، وقد أحصر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ألفٌ وأربع مئة (2)،
(1) المجموع (8/ 241).
(2)
أخرجه البخاري (4155)، ومسلم (1856) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
فَإِنْ كَانَ فَرْضًا مُسْتَقِرًّا .. بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ .. اعْتُبِرَتِ الاسْتِطَاعَةُ بَعْدُ. وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ .. تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ، وَفِيهِمَا قَوْلٌ،
===
ولم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر يسير، أكثر ما قيل: إنهم سبع مئة (1)، ولم ينقل أنه أمر من تخلف بالقضاء، وسواء كان الحصر عامًّا أَو خاصًّا.
واستثنى ابن الرفعة من إطلاق عدم القضاء: ما لو أفسد النسك ثم أحصر (2)، ولا حاجة إلى استثنائه؛ لأن القضاء هنا للإفساد لا للإحصار.
(فإن كان فرضًا مستقرًا) كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان، وكذا النذر والقضاء ( .. بقي في ذمته) كما كان؛ كما لو شرع في صلاة ولم يتمها.
(أو غيرَ مستقر) بأن لم يتمكن منه إلا في هذا العام ( .. اعتُبرت الاستطاعة بعدُ) أي: بعد زوال الإحصار.
(ومن فاته الوقوف) بعذر أو غيره ( .. تحلّل) وجوبًا؛ كما جزم به في "شرح المهذب"، ونصّ عليه في "الأم"(3)؛ لئلا يصير محرمًا بالحجّ في غير أشهره، وعبارة الرافعي تشعر بعدم وجوبه (4)، وليس ذلك بمعتمد، (بطواف وسعي) إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، فإن سعى .. لم يعده؛ كما نقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب، لكن ابن الرفعة جزم في "الكفاية" بإعادته (5).
(وحلق) لأن عمر رضي الله عنه أمر هَبَّار بن الأسود ومن معه بذلك؛ كما رواه مالك في "الموطأ" بإسناد صحيح (6)، واشتهر ذلك، ولم ينكره أحد؛ فكان إجماعًا، ولا يجب عليه المبيتُ بمنىً، ولا الرمي على الأصحِّ.
(وفيهما قول) يعني: في السعي والحلق أنه لا يحتاج إليهما؛ أما السعي .. فلأنه
(1) انظر "التلخيص الحبير"(4/ 1710 - 1711).
(2)
كفاية النبيه (8/ 55).
(3)
المجموع (8/ 231)، الأم (3/ 413 - 414).
(4)
فإنه قال: (وإذا حصل الفوات .. فله التحلل؛ كما في الإحصار). اهـ هامش (أ)، الشرح الكبير (3/ 535).
(5)
كفاية النبيه (8/ 24)، المجموع (8/ 158).
(6)
الموطأ (1/ 383).
وَعَلَيْهِ دَمٌ وَالْقَضَاءُ.
===
ليس من أسباب التحلل، ولهذا يصحّ تقديمُه على الوقوف، ولو كان من أسبابه .. لما جاز تقديمه عليه، وأما الحلق .. فهو مبني على أنه استباحة محظور.
(وعليه دمٌ والقضاء) لأمر عمر رضي الله عنه بهما لهَبَّار ومن معه، ولأن الفوات لا يخلو عن تقصير، بخلاف الإحصار؛ فإنه لا قضاء فيه كما تقدم؛ لعدم التقصير.
وأطلق المصنف تبعًا للأكثرين وجوبَ القضاء، وقيدا في "الروضة" و"أصلها" وجوبَ القضاء بالتطوع، فإن كان فرضًا .. فهو باق في ذمته كما كان (1)، لكن إطلاق "الكتاب" يوافق ما ذكروه في الحج الفاسد: أنه لا فرق في وجوب القضاء بين حجّ الفرض وحجّ التطوع، والمقصود في البابين واحد، والقضاء في التطوع واجب كما في الإفساد، وإذا وجب القضاء في التطوع .. ففي الفرض أولى.
وفائدة إيجاب القضاء في الفرض الفور، والإتيان به على الوجه الفائت والاستقرار، وإن لم تتقدم استطاعةٌ، أما إيجاب حجة أخرى .. فلا.
وفي "التنويه" لابن يونس أن ما يأتي به المحصر من الفرض فيما بعدُ يكون أداء لا قضاء، ثم قال: وكذا نقول: في فوات الحجّ، وجرى في "شرح التعجيز": على لفظ القضاء.
* * *
(1) الشرح الكبير (3/ 535)، روضة الطالبين (3/ 183).