الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ النَّجاسة
هِيَ: كُلُّ مُسْكِرٍ مَائِعٍ، وَكَلْبٌ، وَخِنْزِيرٌ، .......................
===
(باب النجاسة) وإزالتِها
وهي لغةً: المستقذر، وشرعًا: كلُّ عينٍ حَرُم تناولُها على الإطلاق في حالةِ الاختيار، مع إمكان التناولِ وسهولةِ التمييز، لا لحرمتها، ولا لضررها، ولا لاستقذارها.
فاحترز بـ (الإطلاق) عما يباح قليله دون كثيره، كبعض النبات الذي هو سمّ، وبـ (الاختيار) عن الميتة ونحوِها، فإنها لا تحرم في المخمصة مع نجاستها، وبـ (إمكان التناول) عن الحجر ونحوِه من الأشياء الصلبة، وبـ (سهولة التمييز) عن أكل الدُّود الميت في الفاكهة والجبنِ ونحوِهما، وبـ (عدم الحرمة) عن الآدمي، فإنه يحرم تناولُ لحمِه، لا لنجاسته، بل لحرمته، وبـ (عدم الاستقذار) عن الْمُخاط والمني.
وقد نَبَّه المصنفُ بِعَدِّه الأشياءَ النجسةَ على أن غيرَ المعدوداتِ طاهرةٌ.
(هي كل مسكر مائع) أما الخمر: فهو إجماع، واحتج بعضهم بأنه لو كان طاهرًا .. لفات الامتنانُ بكون شرابِ الآخرةِ طهورًا، وقد قال تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} ، وأما غيرُه من المسكر: فبالقياس عليه، بجامع التنفيرِ عن المسكر.
والتقييدُ بالمائع من زياداته على "المحرّر"(1).
واحترز به: عن البَنْجِ والحشيش المسكرِ؛ فإنه ليس بنجِس وإن كان حرامًا، قاله في "الدقائق"(2).
وكان ينبغي أن يقول: (مائع الأصل) لئلا يرد عليه الخمرُ إذا جَمَدت، والحشيشُ إذا أذيب.
(وكلب) للأمر بإراقة ما ولغ فيه (3)، (وخنزير) لأنه أسوأ حالًا من الكلب؛
(1) المحرر (ص 15).
(2)
دقائق المنهاج (ص 36).
(3)
أخرجه مسلم (279) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وَفَرْعُهُمَا، وَمَيْتَةُ غَيْرِ الآدَمِيِّ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَدَمٌ، وَقَيْحٌ، وَقَيْءٌ، ........
===
لتحريم الانتفاعِ به، كذا علَّلُوه.
ونُقِضَ بالحشرات، ولهذا قال في "شرح المهذب": دليل نجاسته ضعيفٌ، ومقتضى المذهبِ: طهارتُه؛ كالذئب (1).
(وفرعُهما) أي: فرعُ كل منهما مع الآخر، أو مع غيره من الحيوانات الطاهرة، لأن الولد يتبع أخسَّ أبويه في النجاسة.
(وميتةُ غيرِ الآدمي والسمكِ والجرادِ) لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، وتحريم ما لا حرمةَ له ولا ضرر فيه يدلُّ على نجاسته.
وطهارةُ ميتةِ السمك والجرادِ: مجمعٌ عليها، وأما الآدمي .. فلقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ، وقضية التكريم: ألَّا نحكمَ بنجاستهم، وفي الخبر:"لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيْتًا"(2).
(ودمٌ) للنصِّ (3) والإجماع، والمراد: المسفوح، ليخرج الكَبِدُ والطِّحالُ والعَلقةُ والمسك.
واستثنى السبكيُّ: الدمَ الباقيَ على العظم واللَّحم؛ لمشقة الاحتراز، ولأنه ليس بمسفوحٍ، قال الأَذرَعيُّ: ولا يظهر استثناؤه؛ إذ الظاهر: أنه نَجَسٌ معفوٌّ عنه، لا أنه طاهرٌ.
(وقيحٌ) لأنه دمٌ مستحيلٌ، (وقيءٌ) لأنه من الفضلات المستحيلةِ؛ كالبول، وفي معناه: الْمِرَّةُ، والبَلْغَمُ الخارج من المعدة، والماءُ السائلُ من فم النائم نَجِس إن كان من المعدة، ويعرف بصُفرةٍ ونَتْنٍ، وإن كان من اللهوات .. فطاهر، ويُعرف بانقطاعه عند طول النومِ.
(1) المجموع (1/ 278 - 279).
(2)
أخرجه الحاكم (1/ 385)، والدارقطني (2/ 70)، والبيهقي (1/ 306) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وما يدل على طهارة المؤمن فعند البخاري (285)، ومسلم (371) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (306)، ومسلم (333) عن عائشة رضي الله عنها.
وَرَوْثٌ، وَبَوْلٌ، وَمَذْي، وَوَدْيٌ، وَكَذَا مَنِيُّ غَيْرِ الآدَمِيِّ فِي الأَصَحِّ - قُلْتُ: الأَصَحُّ: طَهَارَةُ مَنِيِّ غَيْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعِ أَحَدِهِمَا، وَاللهُ أَعْلَمُ - وَلَبَنُ مَا لَا يُؤْكَلُ غَيْرَ الآدَمِيِّ
===
(وروث) لأنه رِكْسٌ؛ كما ثبت في "الصحيح"(1)، ومعناه: النجس، والإنْفَحَّةُ من المأكول المذكَّى قبلَ أكلِ العلفِ طاهرٌ في الأصحِّ، (وبول) للأمر بالتنزه منه (2)، (ومَذْي) وهو أصفرُ رقيقٌ، يخرج عند ثوران الشهوة بغير شهوة؛ لورود الأمر بغَسل الذكر منه في قصة علي رضي الله عنه (3)، (ووَدْيٌ) بالإجماع، وهو أبيضُ ثخينٌ، يخرج عند حمل الشيء الثقيل، وعقب البول.
(وكذا مَنِيُّ غيرِ الآدمي في الأصح) كسائر المستحيلات، أما مني الآدمي .. فطاهر؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تَحُكُّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، رواه ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"(4).
(قلتُ: الأصحُّ: طهارةُ منِيِّ غيرِ الكلب والخنزيرِ وفرعِ أحدِهما، والله أعلم) لأنه أصلُ حيوانٍ طاهرٍ، فأشبه منِيَّ الآدميِّ، والثاني: إنه طاهر من المأكولِ، دون غيرِه.
(ولبنُ ما لا يؤكل) لأن له مَقَرًّا يستحيل فيه، أما لبنُ المأكول .. فطاهر إجماعًا (غيرَ الآدمي) إذ لا يَليق بكرامته أن يكون نشوءه من نَجَس.
وقضيةُ كلامه: طهارةُ لبن الرجل والصغيرة، وبه صَرَّح الصيمري في الرجل؛ فإنه قال:(لا يختلف المذهبُ في أنّ لبنَ الآدميين والآدميات طاهرٌ، يجوز شربه وبيعه).
وكلام ابن سراقة في "التلقين"، وابنِ عبدان في "شرائط الأحكام" كالصريح في ذلك؛ فإن عبارةَ الأول:(إلّا لبن بني آدم)، والثاني:(إلّا مني الآدميين ولبنهم).
(1) أخرجه البخاري (156) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الدارقطني (1/ 127) عن أنس رضي الله عنه، وانظر "صحيح البخاري"(218)، و"صحيح مسلم"(292).
(3)
أخرجها البخاري (132)، ومسلم (303).
(4)
صحيح ابن خزيمة (290)، صحيح ابن حبان (1379)، وأخرجه مسلم (288).
وَالْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ، إِلَّا شَعْرَ الْمَأْكُولِ؛ فَطَاهِرٌ. وَلَيْسَتِ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ وَرُطُوبَةُ الْفَرْجِ بِنَجَسٍ فِي الأَصَحِّ
===
لكن جزم أبو الطيب وابنُ الصباغ بنجاسة لبن الرجل، وأما لبن الصغيرة .. فجزم العمرانيُّ بنجاسة لبنها، وتبعه ابنُ يونس، وجرى عليه في "الكفاية"(1).
(والجزءُ المنفصلُ من الحيِّ) كإلية الشاةِ مثلًا (كميتته) أي: الحيِّ، إن طاهرًا .. فطاهر، وإن نجسًا .. فنجس؛ لحديث:"مَا قُطِعَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتٌ"(2)، ويستثنى: فأرة المسك إذا انفصلت في حياة الظبية، فإنها طاهرة في الأصحِّ.
واقتضى كلامُه: طهارَة ما أُبِينَ من سمكٍ وجرادٍ، وهو الأصحُّ، وما أُبِينَ من آدمي، وهو المرجح عند الشيخين تبعًا للإمام (3).
والذي عليه الجمهورُ، ونَصَّ عليه الشافعيُّ رضي الله عنه: النجاسةُ؛ كما ذكره في "المهمات"، وبسطه (4).
(إلا شَعَرَ المأكولِ؛ فطاهرٌ) بالإجماع، والصوفُ، والوبر، والريش في معنى الشعر؛ فلو رأى شعرة وشكّ هل هي من مأكولٍ أم من غيره؟ فالأصحُّ في "زيادة الروضة": الطهارةُ (5).
ومَثار الخلاف: أن الأصل في الأشياء: الإباحة أو التحريم؟
(وليستِ العَلَقَةُ، والْمُضْغَةُ، ورُطُوبَة الفرج) من آدمي وغيره من الحيوانات الطاهرةِ (بنَجَسٍ في الأصح) أما العلقة والمضغة .. فلأنهما أصلُ الآدمي، فأشبها المنِيَّ، وأما رطوبة الفرج .. فقياسًا على العرق.
ووجهُ مقابله في العلقة: أنها دمٌ خارجٌ من الرحم، فأشبه الحيضَ، وفي المضغة: أنها كميتة الآدمي، وميتةُ الآدمي نجسةٌ على قولٍ، وفي الرطوبة: أنها متولدةٌ من محلّ النجاسات، فكانت منها.
(1) البيان (11/ 139)، كفاية النبيه (15/ 146).
(2)
أخرجه أبو داوود (2858)، والترمذي (1480) عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه.
(3)
نهاية المطلب (1/ 34)، الشرح الكبير (1/ 34)، روضة الطالبين (1/ 15).
(4)
الأم (3/ 597)، المهمات (2/ 42 - 43).
(5)
روضة الطالبين (1/ 44).
وَلَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ إِلَّا خَمْرٌ تَخَلَّلَتْ، وَكَذَا إِنْ نُقِلَتْ مِنْ شَمْسٍ إِلَى ظِلٍّ وَعَكْسُهُ فِي الأَصَحِّ، فَإِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءٍ .. فَلَا، وَجِلْدٌ نَجِسَ بِالْمَوْتِ، فَيَطْهُرُ بِدَبْغِهِ ظَاهِرُهُ، وَكَذَا بَاطِنُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ،
===
وفائدةُ الخلاف: وجوب غَسل ذكر الْمُجامع، ووجوبُ غَسل البَيْضِ.
(ولا يَطهر نَجِسُ العين) بغسل ولا استحالة؛ لأن الغسل شُرع لإزالة ما طرأ على العين، وذلك مُنتف هنا، وأما الاستحالة .. فلأن العين باقيةٌ، وإنما تغيرت صفاتهُا، (إلَّا خمرٌ تَخلَّلتْ) بنفسها، ولم يقع فيها عينٌ بالإجماع.
(وكذا إن نُقِلَتْ من شمسٍ إلى ظِلٍّ، وعَكسُه في الأصح) لما سيأتي في المسألة بعدها.
(فإن خُلِّلَتْ بطرحِ شيءٍ) كملح ونحوه ( .. فلا) تطهر، ويَحرُم ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن الخمر تتّخَذُ خلًّا؟ فقال:"لَا"(1).
واختلفوا في علته، فقيل: لأنه استعجل إلى مقصودِه بفعلِ محرمٍ، فعوقب بنقيض قصدِه؛ كما لو قتل مورثه، وقيل: لأن المطروحَ يتنجس بالملاقاة، ولا مزيلَ لنجاسته، فيكون منجسًا للخَلِّ بتقدير انقلابه، وهذا أصحُّ.
وتنبني على التعليلين المسألةُ قبلها، فلا تطهر على الأول، وتطهر على الثاني.
(وجلدٌ نَجُسَ بالموت، فيطهر بدبغه ظاهرُه، وكذا باطنُه على المشهور) لإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: "إِذَا دُبِغَ الإهَابُ .. فَقَدْ طَهُرَ"(2)، والثاني: لا يطهر باطنُه؛ لأن الدواءَ لا يصل إليه، وضُعِّف بأن خاصية الحريفة تصل بواسطة الماء، ورطوبة الجلد، فعلى الثاني: لا يباع، ويُصلَّى عليه لا فيه، ويُستعمل في الأشياء الجافَّةِ، دون الرطبة، وعلى الأول: يجوز كلُّ ذلك.
وقوله: (وجلد) قد يُخرج الشعر الذي عليه، والأظهر: أنه لا يطهر؛ لأن الشعر لا يتأثر بالدباغ، والثاني: يطهر تبعًا للجلد، وصححه جمع من الأصحاب، واختاره السبكي في بعض مجاميعه، وقال: إنه الذي أفتي به، كذا نقله عنه ولده في
(1) أخرجه مسلم (1983) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (366) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وَالدَّبْغُ: نَزْعُ فُضُولهِ بِحِرِّيفٍ، لَا شَمْسٍ وَتُرَابٍ، وَلَا يَجِبُ الْمَاءُ فِي أَثنائِهِ فِي الأَصَحِّ. وَالْمَدْبُوغُ كَثَوْبٍ نَجِسٍ. وَمَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ .. غُسِلَ سَبْعًا إِحْدَاهَا بِتُرَابٍ،
===
"التوشيح"، ونقل عنه في "التوشيح" علةَ اختيار الطهارة؛ لأن الشعر طاهر؛ كما هو إحدى روايتي إبراهيم البلدي، وإما لأنه يطهر بالدباغ.
واستُثنِيَ مع ما ذَكره المصنفُ: دمُ الظبية إذا استحال مِسكًا، والبيضة الْمَذِرة التي صارتْ دمًا إذا استحالتْ فرخًا.
(والدَّبغ: نَزْعُ فُضوله بِحِرِّيفٍ) كالقَرَظ، والشَّثِّ، والشَّبِّ، وذَرَق الطُيور وغير ذلك، والفضول هي: الفضلات المعفنة للجلد.
وضابط نزعها منه: أن يطيب ريحه بحيث لو نقع في الماء .. لم يعد إليه الفسادُ والنَّتْنُ.
(لا شمسٍ وترابٍ) وإن جف الجلد، وطابت رائحتُه؛ لأن الفضلاتِ لم تَزُلْ، وإنما جَمَدت؛ بدليل عودِها إذا نقع في الماء.
(ولا يجب الماءُ في أثنائِه) أي: الدبغِ (في الأصح) تغليبًا لمعنى الإحالةِ، والثاني: يجب؛ تغليبًا لمعنى الإزالةِ.
(والمدبوغُ كثوبٍ نَجِسٍ) فلا بد من غَسله ولو دبغ بطاهر على الأصحِّ؛ لإزالة بقايا الأدوية النجسة أو المتنجسة به.
(وما نَجُسَ بملاقاة شيءٍ من كلبٍ .. غُسِلَ سبعًا إحداها بترابِ) لحديث: "طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ .. أَنْ يَغْسِلَ سَبع مَرَّاتٍ أُوَلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ" رواه مسلم (1)، وفي رواية للدارقطني:"إِحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ"(2).
وعرقُه وسائرُ أجزائه وفضلاتُه كلعابه وأولى؛ لأن ما فيه أطيب من فيه؛ لكثرة ما يَلْهَثُ، وقد ورد النَّصُّ بتنجيسه، فأُلحق به ما عداه
وقضية إطلاق المصنف: أنه لو كانت النجاسةُ عينيةً ولم يَزُل إلّا بست غسلات ..
(1) صحيح مسلم (91/ 279) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سنن الدارقطني (1/ 65) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وَالأَظْهَرُ: تَعَيُّنُ التُّرَابِ،
===
أنه تكفي غسلةٌ أخرى، وهو ما صححه في "الشرح الصغير"، واعتمده في "المهمات"(1)، لكن صحح المصنف في "زيادة الروضة" أنها تحسب غسلة واحدة، وتجب ست غسلات أخرى (2).
ومحلُّ اشتراطِ الترابِ: في غير الأرضِ الترابيةِ، أما فيها .. فيكفي الماء على الأصحِّ؛ إذ لا معنى لتتريب التراب.
وقوله: (بتراب) أي: مع تراب، فلا بد من مزج التراب بالماء؛ ليصل بواسطته إلى جميع أجزاء المحل، والواجب من التراب: مقدارُ ما يكدر الماء، وقيل: ما ينطلق عليه الاسم.
ولو وضعه في ماءٍ جارٍ، وجرى عليه سبعًا وهو كدر .. كفى، قاله في "الشرح الصغير"، ولو حركه في الماء الراكد الكدر سبعًا .. كفى؛ كما قاله في "التهذيب"(3).
وقضية كلام المصنف: إجزاء التراب في أي مرةٍ شاء، وهو ما نقله في "شرح المهذب" عن اتفاقهم (4)، لكن نصّ الشافعي في "البويطي"، و"الأم" على أنه يتعين الترابُ في الأولى أو الأخرى، وجزم به جمعٌ من الأصحاب، وقال الأسنوي: إنه المذهب، والصواب من جهة الدليلِ، وبسط ذلك، وقرره تقريرًا حسنًا (5).
(والأظهرُ: تعينُ الترابِ) للحديث (6)، والثاني: لا يتعين، بل يقوم مقامَه ما كان في معناه؛ كالصابون والأُشْنان، لأنه جامد أمر به في التطهير، فقام غيرُ المنصوص عليه مقامه؛ كالدباغ، فإنّ غير الشَّثِّ والقَرَظ يقوم مقامهما، مع ورود النص بهما.
(1) المهمات (2/ 93).
(2)
روضة الطالبين (1/ 32 - 33).
(3)
التهذيب (1/ 193).
(4)
المجموع (2/ 535).
(5)
الأم (2/ 13)، المهمات (2/ 87).
(6)
سبق تخريجه في (ص 160).
وَأَنَّ الْخِنْزِيرَ كَكَلْبٍ، وَلَا يَكْفِي تُرَابٌ نَجِسٌ، وَلَا مَمْزُوج بِمَائِعٍ فِي الأَصَحِّ. وَمَا نَجُسَ بِبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ لَبَنٍ .. نُضِحَ،
===
(وأنّ الخنزيرَ ككلبٍ) لاشتراكهما في نجاسة العين، والثاني: إنه يكفي فيه الغَسل مرةً بلا ترابٍ، واختاره في "شرح المهذب" وغيره (1).
(ولا يكفي ترابٌ نَجِسٌ، ولا ممزوجٌ بمائعٍ في الأصح).
وجه الأصحِّ في الأولى: القياسُ على التيمم، ووجه مقابله: أن المقصودَ من التراب الاستعانةُ بشيءٍ آخر، فأشبه الدباغ.
ووجه الأصحِّ في الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: "فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا"(2)، تقديره: فليغسله بالماء سبعًا، وإلّا .. لجاز المائعُ في الجميع، ووجه مقابله: أن المقصودَ من تلك الغسلة: إنما هو الترابُ.
ومثار الخلاف: أن الأمر بالتراب تعبدٌ، أو مُعلَّل بالاستطهار، أو بالجمع بين نوعي طهور.
(وما نجس ببول صبيٍّ لم يطعم غير لبن .. نضح) لأنه عليه الصلاة والسلام (أُتِيَ بصبيٍّ صغيرٍ لم يأكل الطعامَ، فأجلسه على حِجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فنضحه، ولم يغسله) متفق عليه (3).
أما الأنثى: فلا بُدَّ فيها من الغَسل؛ لقوله عليه السلام: "يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ"(4).
وفرق بينهما من وجوه، من أحسنها: أن الابتلاء بالصبيان أكثرُ، فإن الرجال والنساءَ يحملونهم، وأما البنات .. فلا يحملهن غالبًا إلا النساءُ، خصوصًا العرب، فإنها تَألَف البنين، وتَأنَف البنات، الثاني: أن بول الصبي من ماء وطين، وبولَ الجارية من لحم ودمٍ؛ لأن حواء خلقت من ضِلَع آدم القصير، وهذا رواه ابن ماجه في
(1) المجموع (2/ 538).
(2)
سبق تخريجه في (ص 160).
(3)
صحيح البخاري (223)، صحيح مسلم (287) عن أم قيس رضي الله عنها.
(4)
أخرجه الحاكم (1/ 165)، والترمذي (610) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وَمَا نَجِسَ بِغَيْرِهِمَا؛ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنٌ .. كَفَى جَرْيُ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ .. وَجَبَ إِزَالَةُ الطَّعْمِ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ، وَفِي الرِّيحِ قَوْلٌ. قُلْتُ: فَإِنْ بَقِيَا مَعًا .. ضَرَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاللهُ أَعْلمُ
===
"سننه" عن الشافعي رضي الله عنه (1).
وعبارة "شرح المهذب": (لم يأكل غير اللبن للتغذي)، وهي تدل على أن ما يحنك به، والسَّفوف، والأشربة ونحوهما مما يستعمل للإصلاح لا تضر (2).
وقال ابن يونس، وابن الرفعة: لم يطعم ما يستقل به؛ كالخبز ونحوه (3).
والمراد بالنضح: استيعاب المحل بالماء، ويشترط المغالبة والمكاثرة في الأصحِّ، لا جريان الماء وتقاطره، وقضية هذا: أن الفرق بين النضح والغسل السيلانُ.
(وما نجس بغيرهما) أي: بغير المغلظة والمخففة (إن لم تكن عينٌ) بأن كانت حكميةً، وهي: التي لا يُشاهَد لها عينٌ، ولا يدرك لها طعمٌ، ولا لون، ولا رائحة، والعينية: نقيض ذلك ( .. كفى جري الماء) على ذلك المحل؛ إذ ليس ثَمَ ما يزال.
(وإن كانت) عينيةً ( .. وجب) بعد زوال عينها (إزالة الطعم) لأن بقاءه يدل على بقاء العين، (ولا يضر بقاءُ لونٍ أو ريحٍ عَسُرَ زوالُه) كلون الدم، ورائحة الخمر؛ للمشقة، قال في "البسيط": هذا في رائحة تدرك عند شم الثوب، دون ما يدرك في الهواء، فإن سهل زوالُه .. ضرّ؛ لدلالة ذلك على بقاء العين، (وفي الريح قولٌ) أنه يضر؛ كسهل الزوال (4).
(قلت: فإن بَقِيَا معًا .. ضرّ على الصحيح، والله أعلم) لقوة دلالتهما على بقاء العين، والثاني: لا؛ لاغتفارهما منفردين، فكذا مجتمعين.
(1) سنن ابن ماجه (525) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2)
المجموع (2/ 540).
(3)
كفاية النبيه (2/ 278).
(4)
في (ب) و (د): (كما لو بقي اللون أو الطعم السهل الزوال).
وَيُشْتَرَطُ وُرُودُ الْمَاءِ، لَا الْعَصْرُ فِي الأَصَحِّ. وَالأَظْهَرُ: طَهَارَةُ غُسَالَةٍ تنفَصِلُ بِلَا تغيُّرٍ وَقَدْ طَهَرَ الْمَحَلُّ. وَلَوْ نَجُسَ مَائِع .. تَعَذَّرَ تَطْهِيرُهُ، وَقِيلَ: يَطْهُرُ الدُّهْنُ بِغَسْلِهِ.
===
(ويشترط) في طهر المحل (ورودُ الماء) القليلِ على المحلِّ المتنجس، فإن عكسه .. تنجس الماء، ولم يطهر المحلُّ، والفرق: قوة الوارد؛ لأنه عامل، والقوةُ للعامل.
(لا العصرُ في الأصح) إذ البلل بعضُ المنفصلِ، والخلافُ مبنِيٌّ - كما نبه عليه في "المحرّر" - على أن الغسالةَ طاهرة أو نجسة؛ إن طهرناها .. لم يجب العصر، وإلّا .. وجب (1).
(والأظهر: طهارةُ غسالةٍ تَنفصل) عن المحل قليلةٍ (بلا تغير وقد طَهَرَ المحلُّ) لأن البلل الباقيَ على المحلّ هو بعضُ المنفصل، فلو كان المنفصل نجسًا .. لكان المحل كذلك، فيكون المنفصل طاهرًا، لا طهورًا؛ لأنه مستعمل في الخبث، والثاني: إنها نجسة؛ لانتقال المنع إليها، وإن لم يطهر المحلُّ .. فالغسالة نجسةٌ؛ لأنها بعضُ المتصل، والمتصل نجسٌ.
وأورد: ما لو انفصلت غيرَ متغيرة، ولكن زاد وزنُها عما كان .. فإنها نجسة؛ كما ذكره القاضي، والمتولّي، وجعله في "أصل الروضة" أصحَّ الطريقين (2).
(ولو نَجس مائعٌ .. تعذر تطهيرُه) إذ لا يأتي الماء على كله؛ لأنه بطبعه يمنع إصابةَ الماء، ويرد على مفهومه: الزِّئْبَق، فإنه جامد، وإذا تنجس .. تعذر تطهيره، (وقيل: يَطهُر الدهنُ بغَسله) قياسًا على الثوب النَّجِس.
وكيفية تطهيره كما ذكره في "شرح المهذب": أن يصب عليه الماءَ ويكاثره، ثم يحركه بخشبة ونحوها بحيث يظن وصوله لجميعه، ثم يترك ليعلوَ، ثم يثقب أسفلَه، فإذا خرج الماء .. سدّ (3).
* * *
(1) المحرر (ص 16).
(2)
روضة الطالبين (1/ 34).
(3)
المجموع (2/ 550).