الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الثاني: جَعْلُه ثلثي الدية على من وقعت له القرعة، وهذا مما أشكل على الناس، ولم يُعرف به قائل
(1)
. وسألت عنه شيخنا، فقال: له وجه، ولم يزد.
ولكن قد رواه الحميدي في «مسنده»
(2)
بلفظ آخر يرفع
(3)
الإشكال جملةً؛ قال: «وأُغرّمه ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه» . وهذا لأن الولد لمّا لحق به صارت أم ولد له، وله فيها ثلثها، فغرّمه قيمة ثلثيها اللذين أفسدهما على الشريكين بالاستيلاد. فلعل هذا هو المحفوظ، وذكرُ ثلثي دية الولد وهم، أو يكون عبّر عن قيمة الجارية بالدية، لأنها هي التي تُودَى بها، فلا يكون بينهما تناقض. والله أعلم.
19 -
باب الولد للفراش
190/ 2178 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعَةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمَةِ زمعة، فقال سعد: أوصاني أخي عُتبة إذا قدمتُ مكة أن أنظر إلى ابن أمةِ زمعةَ فأقبضَه، فإنه ابنه. وقال عبد بن زمعة: أخي، ابنُ أمة أبي، وُلدَ على فراش أبي، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شَبَهًا بَيِّنًا بعُتبة، فقال: الوَلَدُ للفراش
(4)
، واحتجبي منه يا سودة».
(1)
في الطبعتين: «ولم يُعرف له وجه» خلافًا للأصل.
(2)
برقم (803)، وفي إسناده الأجلح الكندي، وقد سبق بيان ضعفه.
(3)
في الطبعتين: «يدفع» ، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل وموافق لـ (ش).
(4)
أثبت في ط. الفقي بعده: «وللعاهر الحجر» بين حاصرتين، وزعم في الحاشية أن هذه الزيادة ثابتة في كلّ نسخ «سنن أبي داود» . وليس الأمر كما زعم، فهي لا توجد في النسخ الخطية، بل إن سفيان بن عيينة ــ ورواية أبي داود من طريقه ــ أنكر أن يكون سمع هذه اللفظة من الزهري، كما في مراجعة الحميدي له في «مسنده» (240). وإنما صحّت الزيادة من رواية الليث عن الزهري في «الصحيحين» ، ومن رواية مالك عنه في البخاري.
وفي رواية قال: «هُوَ أخوك يا عبدُ» .
وأخرجه البخاري والنسائي ومسلم وابن ماجه
(1)
قيل في خصومتهما
(2)
: إن أهل الجاهلية كان يكون لهم إماء يبغين، وفيه نزل قوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، وكانت السادة تأتي الإماء في خلال ذلك. فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدّعيه السيّد وربما يدّعيه الزاني. فإن مات السيد ولم يكن ادّعاه ولا أنكره، فادّعاه ورثته= لحق به، إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القِسمة، وإن كان السيد قد أنكره لم يلحق به بحال.
وكان لزمعةَ بنِ قيس (والدِ سودة زوجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) أمةٌ على ما وُصِف، مِن أنّ عليها ضريبةً وهو يلم بها، فظهر بها حملٌ كان يظن أنه من عتبةَ أخي سعد بن أبي وقاص، وهلك كافرًا، فعهِد إلى أخيه سعدٍ قبل موته فقال: استلحِق الحملَ الذي بأمة زمعة. فلما استلحقه سعد خاصمه عبدُ بن زمعة، فقال سعد: هو ابن أخي، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقال عبد: بل هو أخي، ولِد على فراش أبي، يشير إلى ما استقرّ عليه الحكم في الإسلام، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة إبطالًا لحكم الجاهلية
(3)
.
(1)
أبو داود (2273)، والبخاري (2053، ومواضع)، والنسائي (3484)، ومسلم (1457)، وابن ماجه (2004).
(2)
قاله ابن الجوزي في «كشف المشكل» (4/ 290 - 291).
(3)
ذكر المجرّد في أن المؤلف ساق كلامَ المنذري إلى قوله: «إبطالًا لحكم الجاهلية» ، وأكثره لا يوجد في مطبوعة «المختصر» ، فاستدركناه من أصله الخطي (ق 2/ 152 - النسخة البريطانية).
قال ابن القيم رحمه الله: وقد أشكل هذا الحديث على كثير من الناس، مِن حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سودة بالاحتجاب منه، وقد ألحقه بزمعة فهو أخوها، ولهذا قال:«الولد للفراش» ؛ قالوا: فكيف يكون أخاها في الحكم وتؤمر بالاحتجاب منه؟
فقال بعضهم: هذا على سبيل الورع لأجل الشبه الذي رآه بِعُتبة
(1)
.
وقال بعضهم: إنما جعله عبدًا لزمعة. قال: والرواية: «هو لك عبد»
(2)
، فإنما جعله عبدًا لعبد بن زمعة لكونه رأى شبَهَه بعتبة، فيكون منه غير لاحق بواحدٍ منهما، فيكون عبدًا لعبد بن زمعة، إذ هو ولد زنا من جارية زمعة.
وهذا تصحيف منه وغلط في الرواية والمعنى، فإن الرواية الصحيحة:«هو لك يا عبدُ بنَ زمعة» ، ولو صحّت رواية «هو لك عبد» فإنما هي على إسقاط حرف النداء، كقوله تعالى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. ولا يتصور أن يجعله عبدًا له وقد أخبره أنه وُلد على فراش أبيه، ويحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش.
وهذه الزيادة التي ذكرها أبو داود وهي قوله: «هو أخوك يا عبد» ترفع الإشكال، ورجال إسنادها ثقات
(3)
. ولو لم تأتِ فالحديث إنما يدل على إلحاقه بعبد أخًا له.
(1)
ط. الفقي: «بعينه» ، وط. المعارف:«بعينيه» ، كلاهما تصحيف.
(2)
لم أعثر عليها.
(3)
وقد وردت من طريقٍ آخر أيضًا في «صحيح البخاري» (4303).
وأما أمره سودةَ ــ وهي أخته ــ بالاحتجاب منه، فهذا يدل على أصلٍ وهو تبعيض أحكام النسب، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، ولا يكون أخًا في المحرمية والخلوة والنظر إليها؛ لمعارضة الشبه للفراش، فأعطى الفراشَ حكمه من ثبوت الحرمة وغيرها، وأعطى الشَّبَه حكمَه من عدم ثبوت المحرمية لسودة.
وهذا باب من دقيق العلم وسرّه لا يلحظه إلا الأئمة المطَّلِعون على أغواره، المَعنيّون بالنظر في مآخذ
(1)
الشرع وأسراره. ومَن نبا فهمُه عن هذا وغلُظ عنه طبعه [ق 108] فلينظر إلى الولد من الرضاعة كيف هو ابن في التحريم، لا في الميراث ولا في النفقة ولا في الولاية.
وهذا ينفع في مسألة البنت المخلوقة من ماء الزاني، فإنها بنته في تحريم النكاح عليه عند الجمهور، وليست بنتًا في الميراث ولا في النفقة ولا في المحرمية.
وبالجملة: فهذا من أسرار الفقه، ومراعاة الأوصاف التي تترتب عليها الأحكام، وترتيب مقتضى كلِ وصفٍ عليه. ومن تأمل الشريعة أَطلعتْه من ذلك على أسرار وحِكَم تَبهَر الناظرَ فيها.
ونظير هذا: ما لو أقام شاهدًا واحدًا وحلف معه على سارق أنه سرق متاعه ثبت حكم السرقة في ضمان المال على الصحيح، ولم يثبت حكمها في وجوب القطع اتفاقًا. فهذا سارق من وجه دون وجهٍ، ونظائره كثيرة.
فإن قيل: فكيف تصنعون في الرواية التي جاءت في هذا الحديث: «واحتجبي منه يا سودة فإنه ليس لكِ بأخ»
(2)
؟
قيل: هذه الزيادة لا يُعلم
(1)
قراءة الطبعتين: «مأخذ» ، ولعل الأولى ما أثبت.
(2)
أخرجه أحمد (16127)، والنسائي (3485)، والحاكم (4/ 97)، والبيهقي (6/ 87) من طريق مجاهد، عن يوسف بن الزبير (ولم يُذكر في رواية أحمد)، عن عبد الله بن الزبير.
إسناده ضعيف، فيه يوسف بن الزبير، مجهول الحال. قال البيهقي:«إسناد هذا الحديث لا يقاوِم إسناد الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول رواته مشهورون بالحفظ والفقه والأمانة، وعائشة رضي الله عنها تخبر عن تلك القصة كأنها شهدتها، والحديث الآخر فيه من لا يُعرف بسببٍ يثبت به حديثه ــ وهو يوسف بن الزبير ــ، وعبد الله بن الزبير كأنه لم يشهد القصة لصغره» باختصار.