الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونعجِّل فِطْرنا، وأن نُمسِك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا».
9 -
باب افتتاح الصلاة
54/ 698 - وعن محمد بن عَمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حُميد الساعديّ في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أبو قتادة، قال أبو حميد:«أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا: فلم؟ فوالله ما كنتَ بأكثرنا له تَبِعَةً، ولا أقدمِنا له صحبة. قال: بلى. قالوا: فاعْرِضْ. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه، حتى يحاذيَ بهما مَنكِبيه، ثم كبر حتى يَقِرَّ كلَّ عظمٍ في موضعه معتدلًا، ثم يقرأ، ثم يكبر، فيرفع يديه حتى يحاذيَ بهما مَنكِبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل، فلا يَصُبّ رأسَه، ولا يُقْنِع، ثم يرفع رأسه، فيقول: «سمع الله لمن حمده» ، ثم يرفع يديه، حتى يحاذي مَنكِبيه معتدلًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يَهْوي إلى الأرض، فيُجافي يديه على جنبيه، ثم يرفع رأسَه ويَثني رجله اليسرى، فيقعد عليها، ويَفْتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع، ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها حتى يرجع كلُّ عظم إلى موضعه. ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبَّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنكِبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدةُ التي فيها التسليم: أخَّر رجلَه اليسرى، وقعد مُتوَرِّكًا على شقّه الأيسر، قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي صلى الله عليه وسلم».
وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرًا ومطولًا
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: حديث أبي حُميد هذا حديث صحيح، متلقًّى بالقبول، لا علة له. وقد أعلَّه قومٌ بما برّأه الله وأئمةُ الحديث منه. ونحن نذكر
(1)
. أخرجه أبو داود (730)، والبخاري (828)، والترمذي (304)، والنسائي (1181)، وابن ماجه (862)، وأحمد (23599).
ما عللوه به، ثم نبين فساد تعليلهم وبطلانه بعون الله.
قال ابن القطان في كتابه «الوهم والإيهام»
(1)
: «هذا الحديث من رواية عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن عمرو، صدوق
(2)
، وثَّقه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأخرج له مسلم. وضعَّفه يحيى بن سعيد في روايةٍ عنه، وكان الثوريُّ يَحْمِل
(3)
عليه من أجل القَدَر. فيجب التثبُّت فيما روى مِن قوله: «فيهم أبو قتادة» ، فإن أبا قتادة توفي في زمن عليّ، وصلى عليه عليّ، وهو ممن قُتِل معه، وسِنُّ محمد بن عَمرو مقصِّرة عن إدراك ذلك».
قال: «وقيل في وفاة أبي قتادة غير ذلك؛ أنه توفي سنة أربع وخمسين، وليس بصحيح، بل الصحيح ما ذكرناه. وقُتِل عليٌّ
(4)
سنةَ أربعين. ذَكَر هذا التعليل أبو جعفر الطحاوي. قال الطحاوي: والذي زاده محمد بن عمرو غير معروف ولا متصل، لأن في حديثه أنه حضر أبا حميد وأبا قتادة، ووفاة أبي قتادة قبل ذلك بدهر طويل، لأنه قُتِل مع عليٍّ وصلى عليه. فأين سنّ محمد بن عَمرو من هذا؟ قال الطحاوي: وعبد الحميد بن جعفر ضعيف».
قال ابن القطان: «ويزيد هذا المعنى تأكيدًا: أن عطَّاف بن خالد روى هذا الحديثَ فقال: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء، حدثنا رجل: أنه وجد
(1)
. (2/ 462 - 466).
(2)
. عبارة ابن القطان: «وجملة أمره أنه من أهل الصدق» .
(3)
. الأصل و (ش، هـ) والطبعات: «يجد» مصحفة عما هو مثبت من كتاب ابن القطان، وستأتي على الصواب بعد صفحات.
(4)
. تصحفت في ط. الفقي إلى: «وقيل في» .
عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلوسًا» فذكر نحو حديث أبي عاصم.
وعطَّاف بن خالد مدنيّ ليس بدون عبد الحميد بن جعفر، وإن كان البخاريُّ حكى أن مالكًا لم يحمده، قال: وذلك لا يضرُّه، لأن ذلك غير مفسَّر مِن مالك بأمرٍ يجبُ لأجله ترك روايته».
قال: «وقد اعترض الطبريُّ على مالك في ذلك بما ذكرناه مِن عدم تفسير الجرح، [و]
(1)
بأمر آخر لا نراه صوابًا، وهو أن قال: وحتى لو كان مالكٌ قد فسّر، لم يجب أن يُتْرَك بتجريحه روايةُ عطّاف، حتى يكون معه مجرِّح آخر. قال ابن القطان: وإنما [ق 38] لم نره صوابًا لوجهين:
أحدهما: أن هذا المذهب ليس بصحيح، بل إذا جَرَح واحدٌ بما هو جُرحة قُبِل، فإنه نَقْلٌ منه لحالٍ سيئة تَسْقط بها العدالة، ولا يحتاج في النقل إلى تعدّد الرواة.
والوجه الثاني: أن ابن مهدي أيضًا لم يرض عطّافًا، لكن لم يفسّر بماذا لم يرضه، فلو قبلنا قولَه فيه قلَّدْناه في رأيٍ لا في رواية.
وغيرُ مالكٍ وابنِ مهدي يوثّقه. قال أبو طالب عن أحمد: هو من أهل المدينة، ثقة صحيح الحديث، روى نحو مائة حديث. وقال ابن معين: صالح الحديث، ليس به بأس. وقد قال ابن معين: مَن قلت: «ليس به بأس» فهو عندي ثقة. وقال أبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ليس بذاك. قال ابن القطان: ولعله أحسن حالًا من عبد الحميد بن جعفر، وهو قد بيَّن أن بَيْن محمد بن عَمرو وبين أولئك الصحابة رجلًا. قال: ولو كان هذا عندي
(1)
. زيادة لازمة من كتاب ابن القطان.
محتاجًا إليه في هذا الحديث للقضاء بانقطاعه لكتبته في المدرك الذي قد فرغتُ منه، ولكنه غير محتاج إليه للمقرَّر من تاريخ وفاة أبي قتادة، وتقاصُر سنّ محمد بن عمرو عن إدراك حياته رجلًا. فإنما جاءت روايةُ عطَّاف عاضدة لما قد صحّ وفُرِغ منه».
قال: «وقد رواه عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو فقال فيه: عن عياش أو عباس بن سهل الساعدي: «أنه كان في مجلس فيه أبو قتادة
(1)
وأبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد» ولم يذكر فيه من الفرق بين الجلوسين ما ذكره عبد الحميد بن جعفر. ذكره أبو داود
(2)
. وقد رواه البخاري في «صحيحه»
(3)
: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، سمع يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد، سمعا محمد بن عَمرو بن حلحلة، سمع محمد بن عمرو بن عطاء: «أنه كان جالسًا في نفرٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا صلاةَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد: أنا كنتُ أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. رأيته إذا كَبَّر
…
فذكر الحديث». وهذا لا ذِكْر فيه لأبي قتادة، ولكن ليس فيه ذِكْر لسماعه من أبي حميد، وإن كان ذلك ظاهره».
هذا آخر كلامه. وهو مع طوله مداره على ثلاثة فصول:
أحدها: تضعيف عبد الحميد بن جعفر.
والثاني: تضعيف محمد بن عَمرو بن عطاء.
(1)
. في كتاب ابن القطان: «أبوه» .
(2)
. (733).
(3)
. (828).
والثالث: انقطاع الحديث بين محمد بن عَمرو، وبين الصحابة الذين رواه عنهم.
والجواب عن هذه الفصول:
أما الأول: فعبد الحميد بن جعفر قد وثّقه يحيى بن معين في جميع الروايات عنه
(1)
، ووثقه الإمام أحمد
(2)
أيضًا، واحتجّ به مسلم في «صحيحه» ، ولم يُحْفَظ عن أحدٍ من أئمة الجرح والتعديل تضعيفُه بما يوجب سقوطَ روايته، فتضعيفه بذلك مردود على قائله. وحتى لو ثبت عن أحدٍ منهم إطلاقُ الضعف عليه، لم يقدح ذلك في روايته ما لم يبيّن سببَ ضعفه، وحينئذٍ يُنظَر فيه هل هو قادح أم لا؟ وهذا إنما يُحتاج إليه عند الاختلاف في توثيق الرجل وتضعيفه، وأما إذا اتفق أئمةُ الحديث
(3)
على تضعيف رجلٍ لم يُحتج إلى ذِكْر سبب ضعفه، هذا أولى ما يقال في مسألة التضعيف المطلق
(4)
.
وأما الفصل الثاني: وهو تضعيف محمد بن عَمرو بن عطاء؛ ففي غاية الفساد، فإنه من كبار التابعين المشهورين بالصدق والأمانة والثقة، وقد وثَّقه أئمةُ الحديث، كأحمد، ويحيى بن سعيد، ويحيى بن معين، وغيرهم
(5)
،
(1)
. ينظر «موسوعة أقوال ابن معين» : (3/ 191).
(2)
. ينظر «موسوعة أقوال أحمد» : (2/ 310).
(3)
. زاد المؤلف في «رفع اليدين» : «أو جمهورهم» .
(4)
. ساق في المؤلف في «رفع اليدين» (ص 238 - 239) أقوال الموثقين لعبد الحميد.
(5)
. ينظر ترجمته في «تهذيب التهذيب» : (9/ 373 - 375).
واتفق صاحبا الصحيح على الاحتجاج به
(1)
.
وتضعيف يحيى بن سعيد ــ إن صح عنه ــ فهو روايةٌ المشهور عنه خلافها
(2)
. وحتى لو ثبت على تضعيفه وأقام عليه، ولم يبيّن سببَه= لم يُلتفَت إليه مع توثيق غيره من الأئمة له.
ولو كان كلُّ رجلٍ ضعَّفَه رجلٌ سقط حديثُه لذهبت عامَّة الأحاديث الصحيحة من أيدينا، فقلّ رجلٌ من الثقات إلا وقد تكلَّم فيه آخر
(3)
.
وأما قوله: «كان سفيان يحمل عليه» ؛ فإنما كان ذلك من جهة رأيه لا من جهة روايته، وقد رُمِي جماعةٌ من الأئمة المحتجّ بروايتهم بالقدَرِ كابن أبي عَروبة، وابن أبي ذِئب وغيرهم. وبالإرجاء كطَلْق بن حبيب، وغيره. وهذا أشْهر من أن يُذْكر نظائره، وأئمة الحديث لا يردّون حديثَ الثقة بمثل ذلك.
وأما الفصل الثالث: وهو انقطاع الحديث؛ فغير صحيح، وهو مبنيّ على
(1)
ينظر «تهذيب الكمال» : (6/ 459).
(2)
قال الحافظ في «التهذيب» : (9/ 332): «وقال أبو الحسن بن القطان الفاسي (بيان الوهم 2/ 426): جملة أمره أنه من أهل الصدق، وقد ضعّفه يحيى في رواية ووثقه في أخرى، وكان الثوري يحمل عليه من أجل القدر، وزعموا أنه خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن
…
قال الحافظ: وليس ذلك بصحيح؛ لأن الذي حمل عليه الثوري اختلف فيه فقيل: هو محمد بن عمرو بن علقمة الآتي ذكره بعد هذا، وهو الذي خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن؛ لأنه تأخرت وفاته. فأما محمد بن عمرو بن عطاء فمات قبل خروج محمد بمدة مديدة» اهـ.
(3)
. زاد في «رفع اليدين» (ص 240): «ورجال «الصحيحين» قد جاوزوا القَنْطَرة فلا التفاتَ إلى كلام من تكلَّم فيهم بما يقتضي ردّ حديثهم. نعم إذا تُكُلِّم في أحدهم لرأيه أو لأمرٍ تأوَّله فطُعِنَ به عليه؛ فهذا بابٌ لا يقدح في الرواية».
ثلاث مقدمات، أحدها
(1)
: أن وفاة أبي قتادة كانت في خلافة عليّ، والثاني: أن محمد بن عَمرو لم يدرك خلافةَ عليّ، والثالث: أنه لم يثبت سماعُه من أبي حُميد، بل بينهما رجل.
فأما المقام الأول، وهو وفاة أبي قتادة، فقال البيهقي
(2)
: «أجمع أهلُ التواريخ على أن أبا قتادة الحارث بن رِبْعي بقي إلى سنة أربع وخمسين، وقيل: بعدها.
ثم روى من طريق [ق 80] يعقوب بن سفيان، قال ابن بُكَير: قال الليث: مات أبو قتادة الحارث بن رِبْعي بن النعمان الأنصاري سنة أربع وخمسين.
قال: وكذلك قاله الترمذي فيما أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، عن أبي حامد المقرئ عنه. وكذلك ذكره أبو عبد الله بن [ق 39] مَنده الحافظ في كتاب «معرفة الصحابة». وكذلك ذكر الواقديُّ عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة مات بالمدينة سنة خمس وخمسين، وهو ابن سبعين سنة.
قال: والذي يدلُّ على هذا أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله ابن أبي قتادة، وعَمرو بن سليم الزُّرَقي، وعبد الله بن رَباح الأنصاري رووا عن أبي قتادة، وإنما حملوا العلمَ بعد أيام عليّ، فلم يثبت لهم عن أحدٍ ممن توفي في أيام عليّ سماع. وروّينا عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن معاوية ابن أبي سفيان لمّا قَدِم المدينة تلقّته الأنصارُ، وتخلَّف أبو قتادة،
(1)
. كذا بالتذكير، ومشى عليه في الثاني والثالث. وقوله «مقدّمات» واضحة محررة في الأصل، وإلا فكان الأنسب أن يقول «مقامات» لأنه ذكّرها حين عدّدها ولأنه سماها فيما سيأتي «المقام الأول .. الثاني
…
».
(2)
في «معرفة السنن والآثار» : (1/ 558 - 559).
ثم دخل عليه بعدُ وجرى بينهما ما جرى. ومعلومٌ أن معاوية إنما قَدِمها حاجًّا قَدْمته الأولى في خلافته سنة أربع وأربعين.
وفي «تاريخ البخاري»
(1)
بإسناده عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن مروان بن الحكم أرسل إلى أبي قتادة وهو على المدينة: أنِ اغْدُ معي حتى تريني مواقف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فانطلق مع مروان حتى قضى حاجته
(2)
.
ومروان إنما ولي المدينة في أيام معاوية، ثم نُزِع عنها سنة ثمان وأربعين، واسْتُعْمِل عليها سعيد بن العاص، ثم نُزِع سعيد بن العاص سنة أربع وخمسين ، وأُمِّر عليها مروان»
(3)
.
قال النسائي في «سننه»
(4)
: أخبرنا محمد بن رافع، حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا ابن جُريج، قال: سمعت نافعًا يزعم: أنّ ابنَ عمر صلّى على تسع جنائز جميعًا، فجعل الرجال يلون الإمام، والنساء يلين القِبْلة، فصفَّهن صفًّا واحدًا، ووُضِعت جنازةُ أمِّ كلثوم ابنةِ عليّ امرأةِ عمر بن الخطاب وابنٍ لها يقال له: زيد، وُضِعا جميعًا، والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عباس
(5)
، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو قتادة، فوُضِعَ الغلامُ مما يلي الإمام،
(1)
«الكبير» : (2/ 258 - 259).
(2)
انتهى كلام البخاري.
(3)
انتهى النقل من كتاب «المعرفة» للبيهقي.
(4)
في «الصغرى» (1978). وفي «الكبرى» (2116).
(5)
هكذا في الأصل و (ش) و «رفع اليدين» للمؤلف، و «الكبرى». ووقع في «السنن الصغرى»:«ابن عمر» فالظاهر أنه وهم.
فقال رجل: فأنكرتُ ذلك فنظرتُ إلى ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي قتادة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة.
فتأمل سندَ هذا الحديث وصحّتَه وشهادةَ نافعٍ بشهود أبي قتادة هذه الجنازة، والأميرُ يومئذ سعيد بن العاص، وإنما كانت إمْرَتُه في خلافة معاوية سنة ثمان وأربعين إلى سنة أربع وخمسين كما قدمناه، وهذا مما لا يشكّ فيه عوامُّ أهلِ النقل وخاصَّتُهم.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه موسى بن عبد الله بن يزيد: «أن عليًّا صلى على أبي قتادة، فكبَّر عليه سبعًا، وكان بدريًّا»
(1)
. وبما رواه الشعبيّ قال: «صلى عليٌّ على أبي قتادة وكبّر عليه ستًّا»
(2)
.
قلنا: لا تجوز معارضةُ الأحاديث الصحيحة المعلومة الصحَّة بروايات التاريخ المنقطعة المغلوطة، وقد خطَّأ الأئمةُ روايةَ موسى هذه ومَن تابعه، وقالوا: هي غلط، قاله البيهقي
(3)
وغيره. ويدلّ على أنها غلط وجوه:
أحدها: ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة المصرِّحة بتأخير وفاته وبقاء مُدَّته بعد موت عليّ.
الثاني: أنه قال: «كان بدريًّا» ، وأبو قتادة لا يُعرَف أنه شهد بدرًا، وقد ذكر
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (11578)، وابن المنذر في «الأوسط» (5/ 433).
(2)
أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» : (5/ 433).
(3)
في «المعرفة» : (1/ 558). وانظر «البدر المنير» : (5/ 261 - 262). وقال الحافظ في «التلخيص» : (2/ 127) تعليقًا على كلام البيهقي: «وهذه علة غير قادحة لأنه قد قيل: إن أبا قتادة قد مات في خلافة عليّ، وهذا هو الراجح» .
عروةُ بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وغيرُهم أسامي مَن شهد بدرًا من الصحابة، وليس في شيء منها ذِكْر أبي قتادة
(1)
، فكيف يجوز ردّ الرّوايات الصحيحة التي لا مَطْعَن فيها بمثل هذه الرواية الشاذَّة التي قد عُلِم خطؤها يقينًا، إمّا في قوله:«وصلى عليه عليّ» ، وإمّا في قوله:«وكان بدريًّا» !
وأما رواية الشعبي؛ فمنقطعة
(2)
أيضًا غير ثابتة، ولعلّ بعضَ الرواة غلط من تسمية قتادة بن النعمان أو غيره إلى أبي قتادة، فإن قتادة بن النعمان بدريٌّ، وهو قديم الموت
(3)
.
وأما المقام الثاني: أن محمد بن عَمْرو لم يدرك خلافةَ عليّ؛ فقد تبيَّن أن أبا قتادة تأخَّر عن خلافة عليّ.
وأما المقام الثالث: وهو أن محمد بن عَمرو لم يثبت سماعُه من أبي حُمَيد بل بينهما رجل؛ فباطل أيضًا.
قال الترمذي في «جامعه»
(4)
: «حدثنا محمد بن بشَّار والحسن بن عليّ الخلّال وسَلَمة بن شَبيب، وغيرُ واحد قالوا: حدّثنا أبو عاصم، حدّثنا عبد الحميد بن جعفر، حدّثنا محمد بن عَمرو بن عطاء، قال: سمعتُ أبا
(1)
انظر «السيرة النبوية» : (2/ 677 - 706) لابن هشام، و «مرويات غزوة بدر»:(ص 366 - 419) لباوزير.
(2)
قاله البيهقي في «المعرفة» : (1/ 558).
(3)
توفي سنة 23 للهجرة في خلافة عمر. انظر «تهذيب الكمال» : (6/ 105)، و «الإصابة»:(5/ 416 - 418).
(4)
(305).
حُمَيد السَّاعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو قتادة بن رِبْعي
…
» فذَكَره.
وقال سعيد بن منصور في «سننه»
(1)
وقال البخاري في «التاريخ الكبير»
(2)
: «محمد بن عَمرو بن عطاء بن عيَّاشِ
(3)
بن علقمة العامري القرشي المدني، سمع أبا حُمَيد الساعديّ، وأبا قَتادة، وابنَ عباس. روى عنه عبدالحميد بن جعفر، وموسى بن عُقبة، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلَة، والزُّهري».
وأبو حُميد توفي قبل الستين في خلافة معاوية، وأبو قتادة توفي بعد الخمسين كما ذكرنا، فكيف ننكر لقاء محمد لهما وسماعه منهما؟
ثم ولو سلَّمنا أن أبا قتادة توفي في خلافة عليّ، فمِنْ أين يمتنع أن يكون محمد بن عَمْرو في ذلك الوقت رجلًا؟ ولو امتنع أن يكون رجلًا لِتقاصُرِ
(1)
ذكر رواية سعيد بن منصور الحافظ في «الفتح» : (2/ 357). وتابعه في الرواية عن هشيم أبو بكر بن أبي شيبة (2981)، والحسنُ بن عَرَفة أخرجه البزار (3710)، وأبو أحمد الحاكم في «شعار أصحاب الحديث» (ص 49)، وشجاع بن مخلد أخرجه أبو أحمد أيضًا.
(2)
(1/ 189).
(3)
هكذا في الأصل و (ش، هـ) و «تهذيب الكمال» : (6/ 459) وجوَّد ضبطه ناسخُه ابن المهندس تلميذ المزي كذلك. ووقع في «التاريخ الكبير» للبخاري: «عباس» .
سِنّه عن ذلك لم يمتنع [ق 40] أن يكون صبيًّا مميّزًا، وقد شاهد هذه القصَّةَ في صغره ثم أداها بعد بلوغه، وذلك لا يقدح في روايته وتحمُّله اتفاقًا، وهو أُسْوةُ أمثاله في ذلك. فردُّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الخيالات الفاسدة مما يَرْغَب عن مثله أئمةُ العلم، والله الموفق.
وأما إدخال من أدْخَل بين محمد بن عَمرو بن عطاء، وبين أبي حُميد الساعدي رجلًا، فإن ذلك لا يضرّ الحديثَ شيئًا. فإنّ الذي فعل ذلك رجلان: عطَّاف بن خالد، وعيسى بن عبد الله
(1)
؛ فأما عطَّافٌ فلم يرض أصحابُ الصحيح إخراجَ حديثهِ، ولا هو ممن يُعارَض به الثقات الأثبات، قال مالك: ليس هو من جِمال المحامل
(2)
. وقد تابع عبدَالحميد بن جعفر على روايته محمدُ بن عَمرو بن حَلْحَلة، كلاهما قال: عن محمد بن عَمرو بن عطاء، عن أبي حميد. ولا يُقاوَم عَطّاف بن خالد بهذين حتى تُقدَّم روايتُه على روايتهما.
وقوله: «لم يصرِّح محمد بن عَمرو بن حَلْحَلة في حديثه بسماع ابن عطاء من أبي حميد» ؛ فكلام بارد، فإنه قد قال: «سمع محمد بن عَمرو بن عطاء أنه كان جالسًا في نفرٍ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكروا صلاةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
انظر ما سبق (ص 189 - 191) في سياق كلام ابن القطان.
(2)
المنقول عن مالك في عطاف قوله: «ليس من إبل القِباب» ، وإبل القباب هي الإبل القوية القادرة على حمل الهوادج. والمعنى: ليس بقويّ في الحديث. انظر «الضعفاء» : (3/ 425) للعقيلي، و «تهذيب الكمال»:(5/ 182)، و «تهذيب التهذيب»:(7/ 198) ــ وتحرفت فيه إلى «أهل القباب» ــ. فلعل ابن القيم ساقها بالمعنى، إذ معناهما واحد. وقد استُعملت عبارة «جمال المحامل» في غير واحد من الرواة، استعملها يحيى القطان وغيره. انظر «ألفاظ الجرح القليلة والنادرة» (ص 12) لسعدي الهاشمي.
فقال أبو حميد». وقد قال: «رأيتُ أبا حميد» ، ومرة:«سمعتُ أبا حُميد» . فما هذا التكلّف البارد والتعَنُّت الباطل في قطع ما وصله الله؟!
وأما حديث عيسى بن عبد الله فقال البيهقي
(1)
: «اختلف في اسمه فقيل: عيسى بن عبد الله، وقيل: عيسى بن عبد الرحمن، وقيل: عبد الله بن عيسى.
ثم اخْتُلف عليه في ذلك؛ فروى عن الحسن بن الحرّ، عن عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عَمرو، عن عيّاش ــ أو عباس ــ بن سهل، عن أبي حُميد. ورُوي عن عُتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العباس ابن سهل، عن أبي حُميد. ليس فيه محمد بن عطاء
(2)
.
ورُوِّينا حديثَ أبي حُميد، عن فُليح بن سليمان، عن عبّاس بن سهل، عن أبي حميد. وبَيَّن فيه عبدُ الله بن المبارك، عن فُليح سماعَ عيسى من
(3)
عبّاس، مع سماع فُلَيح من عبّاس، فذِكْرُ محمد بن عَمرو بينهما وَهْم». آخر كلامه.
وهذا ــ والله أعلم ــ من تَخْليط عيسى أو مَن دونه، فإنّ حديثَ عبّاس هذا لا ذِكْر فيه لمحمد بن عَمرو، ولا رواه محمد بن عَمرو عنه، ونحن نذكر حديثه:
(1)
في «معرفة السنن والآثار» : (1/ 560).
(2)
«المعرفة» : «محمد بن عمرو» .
(3)
تحرفت في (ش) و «المعرفة» إلى «بن» .
قال الترمذي
(1)
وقال أبو داود
(2)
: «حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الملك بن عَمرو، أخبرنا فُليح، حدثنا عباس بن سهل، قال: اجتمع أبو حُميد، وأبو أسيد» فذكره أطولَ من حديث الترمذي.
قال أبو داود: «ورواه عُتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العبَّاس بن سهل» .
فهذا هو المحفوظ من رواية عبَّاس لا ذِكْر فيه لمحمد بن عَمرو بوجه.
ورواه أبو داود
(3)
من حديث أبي خيثمة، حدثنا الحسن بن الحُرّ، أخبرنا عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عَمرو بن عطاء أَحَد بني
(1)
(260). وما بين المعكوفين منه.
(2)
(734). وما بين المعكوفين منه.
(3)
(733).
مالك، عن عباس أو عياش بن سهل الساعدي: أنه كان في مجلسٍ فيه أبوه، وفي المجلس أبو هريرة، وأبو حُميد، وأبو أسَيد
…
» بهذا الخبر يزيد وينقص
(1)
.
فهذا الذي غرَّ مَن قال: إن محمد بن عَمرو لم يسمعه من أبي حُميد، وهذا ــ والله أعلم ــ من تخليط عيسى أو من دونَه؛ لأن محمدًا قد صرَّح بأنّ أبا حُميد حدَّثه به وسمعه منه، ورآه حين حَدَّثه به، فكيف يُدْخِل بينه وبينه عبَّاس بن سهل؟
وإنما وقع هذا لمّا رواه محمد بن عَمرو عن أبي حُميد، ورواه العبَّاس ابن سهل عن أبي حُميد، فخلّط بعضُ الرواة، وقال:«عن محمد بن عَمرو عن العباس» ، وكان ينبغي أن يقول:«وعن العباس»
(2)
بالواو.
ويدلّ على هذا: أنّ عيسى بن عبد الله قد سمعه من عبَّاس، كما في رواية ابن المبارك، فكيف يشافهه به عبَّاس بن سهل ثم يرويه عن محمد ابن عَمرو عنه؟ فهذا كلُّه يبيّن أنّ محمد بن عَمرو وعبَّاس بن سهل اشتركا في روايته عن أبي حُميد، فصحّ الحديثُ بحمد الله.
وظهر أن العلة التي رُمي بها مما تدلُّ على قوَّته وحفظه، وأن رواية عبَّاس بن سهل شاهدةٌ ومُصدِّقة لرواية محمد بن عَمرو. وهكذا الحق يصدِّق بعضُه بعضًا.
وقد رواه الشافعي من حديث إسحاق بن عبد الله، عن عبَّاس بن سهل،
(1)
«السنن» : (1/ 471 - 472).
(2)
. وقال في «رفع اليدين» (ص 250): «ولعلها سقطت من النسخة فرواه بإسقاطها» .
عن أبي حُميد ومَن مَعَه من الصحابة
(1)
. ورواه فُلَيح بن سليمان، عن عبَّاس، عن أبي حُميد
(2)
. وهذا لا ذِكْر فيه لمحمد بن عَمرو، وهو إسناد متّصل تقومُ به [ق 41] الحجّة، فلا ينبغي الإعراضُ عن هذا والتعلّق عليه بالباطل.
ثم لو نزلنا عن هذا كلِّه، وضربنا عنه صفحًا إلى التسليم أن محمد ابن عَمرو لم يدرك أبا قتادة، فغايتُه أن يكون الوهم قد وقع في تسمية أبي قتادة وحده دون غيره ممن معه. وهذا لا يُجوِّز بمجرّده تركَ حديثه، والقدحَ فيه عند أحدٍ من الأئمة.
ولو كان كلُّ من غَلِط ونسيَ واشتبه عليه اسم رجل بآخر يسقط حديثُه= لذهبت الأحاديثُ ورواتها
(3)
من أيدي الناس.
فهَبْه غلطَ في تسميته أبا قتادة، أفيلزم من ذلك أن يكون ذِكْر باقي الصحابة غلطًا، ويقدحُ في قوله:«سمعت أبا حميد» ، و «رأيت أبا حُميد» ، أو «أن أبا حميد قال» ؟!
وأيضًا فإن هذه اللفظة لم يتفق عليها الرواة، وهي قوله:«فيهم أبو قتادة» ، فإن محمد بن عَمرو بن حَلْحلة رواه عن محمد بن عَمرو بن عطاء ولم يذكر «فيهم أبو قتادة» . ومن طريقه رواه البخاري ولم يذكرها
(4)
.
(1)
ذكره البيهقي في «معرفة السنن» : (1/ 544) قال: «قال الشافعي في القديم: أخبرنا رجل قال: أخبرني إسحاق بن عبد الله .. » به.
(2)
عند أبي داود والترمذي.
(3)
. في «رفع اليدين» (ص 251) للمؤلف: «إلا أقلها» .
(4)
في «الصحيح» (828).
وأما عبد الحميد بن جعفر، فرواه عنه هُشَيم ولم يذكرها
(1)
، ورواه عنه أبو عاصم الضحَّاك بن مَخْلد، ويحيى بن سعيد فذكراها عنه
(2)
. وأظنّ عبد الحميد بن جعفر تفرَّدَ بها.
ومما يُبيّن أنها ليست بوهم: أن محمد بن مسلمة قد كان في أولئك الرَّهْط، ووفاته سنة ثلاث وأربعين، فإذا لم تتقاصر سنُّ محمد بن عَمرو عن لقائه، فكيف تتقاصر عن لقاء أبي قتادة؟ ووفاتُه إما بعد الخمسين عند الأكثرين، أو قُبَيل الأربعين عند بعضهم. والله الموفّقُ للصواب
(3)
.
55/ 707 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة أنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كَبَّر للصلاة جَعَل يديه حَذْو مَنْكِبيه، وإذا ركع فَعَل مثل ذلكَ، وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك، وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك»
(4)
.
(1)
سبق تخريجه (ص 197).
(2)
أخرجه أبو داود (963).
(3)
. في هامش الأصل: «بلغ مقابلة فصحّ على أصله» .
(4)
. أخرجه أبو داود (738)، وابن خزيمة (694، 695) من طريق يحيى بن أيوب الغافقي وعثمان بن الحكم عن ابن جريج، عن ابن شهاب به. لكن خالفهما عبد الرزاق عند مسلم (392/ 28) فرواه عن ابن جريج به وذكر فيه التكبير ولم يذكر رفع اليدين.
وقد رواه عن الزهري غير واحدٍ ولم يذكروا رفع اليدين، منهم عقيل الأيلي عند البخاري (789) ومسلم (392/ 29)، ومعمر عند النسائي (746). وقد رواه عن أبي هريرة كذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن عند البخاري (785) ومسلم (392/ 27)، وأبو صالح ذكوان عند مسلم (392/ 32). فرواية ابن جريج شاذة أو أن الوهم من الرواة عنه.