الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأوصاف الملبوس، لا لبيان جميع محظورات الإحرام.
الحكم الثالث:
أنه صلى الله عليه وسلم رخَّص في لُبس الخُفّين عند عدم النعلين ولم يذكر فديةً، ورخَّص في حديث كعب بن عُجْرة في حَلْق رأسِه مع الفدية، وكلاهما محظور بدون العذر. والفرق بينهما: أن أذى الرأس ضرورة خاصة لا تعمّ، فهي رفاهية للحاجة. وأما لُبس الخُفّين عند عدم النعلين فبَدَل يقوم مقام المُبْدَل، والمُبْدَل ــ وهو النعل ــ لا فدية فيه، فلا فدية في بدله، وأما حلق الرأس فليس ببدل، وإنما هو ترفُّه للحاجة، فجُبِر بالدم.
الحكم الرابع:
أنه أمَرَ لابس الخُفَّين بقطعهما أسفل مِن كعبيه، في حديث ابن عمر، لأنه إذا قطعهما أسفل من الكعبين صارا شبيهين بالنعل. فاختلف الفقهاء في هذا القطع، هل هو واجب أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه واجب، وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك [ق 67] والثوري وإسحاق وابن المنذر، وإحدى الروايتين عن أحمد
(1)
، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعهما، وتعجَّبَ الخطّابيُّ
(2)
من أحمد فقال: العجَبُ من أحمد في هذا! فإنه لا يكاد يخالف سنةً تبلُغُه، وَقلَّت سنةٌ لم تبلُغْه. وعلى هذه الرواية إذا لم يقطعهما تلزمه الفدية.
والثاني: أن القطع ليس بواجبٍ، وهو أصحّ الروايتين عن أحمد، ويُروى عن عليّ بن أبي طالب، وهو قول أصحاب ابن عباس، وعطاء،
(1)
ينظر: «التمهيد» : (15/ 14)، و «المغني»:(5/ 120 - 121)، و «شرح مسلم»:(8/ 75)، و «بدائع الصنائع»:(2/ 184).
(2)
في «معالم السنن» : (2/ 177).
وعكرمة
(1)
. وهذه الرواية أصح، لما في «الصحيحين»
(2)
عن ابن عباس قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: «مَن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خُفّين» . فأطلق الإذن في لبس الخُفّين ولم يشترط القطع، وهذا كان بعرفات، والحاضرون معه إذ ذاك أكثرهم لم يشهدوا خطبتَه بالمدينة، فإنه كان معه مِن أهل مكة واليمن والبوادي مَن لا يحصيهم إلا الله تعالى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لم يجد نعلين فليلبس خُفّين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل» ، فهذا كلام مُبتدأٌ من النبي صلى الله عليه وسلم،بَيَّن فيه في عَرَفات ــ في أعظم جَمْع كان له ــ أن من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخُفَّين، ولم يأمر بقطعٍ ولا فَتْق، وأكثر الحاضرين بعرفات لم يسمعوا خطبته بالمدينة، ولا سمعوه يأمر بقطع الخُفّين، وتأخير البيان عن وقته ممتنع؛ فدلَّ هذا على أن هذا الجواز لم يكن شُرِع بالمدينة، وأن الذي شُرِع بالمدينة هو الخفّ المقطوع، ثم شرع بعرفات الخف
(4)
من غير قطع.
فإن قيل: فحديث ابن عمر مُقيَّد، وحديث ابن عباس مطلق، والحكم والسبب واحد، وفي مثل هذا يتعيَّن حَمْل المطلق على المقيَّد، وقد أَمَر في
(1)
ينظر: «المغني» : (120 - 121)، و «التمهيد»:(15/ 114).
(2)
البخاري (1841)، ومسلم (1178).
(3)
(1179).
(4)
زاد في ط. الفقي في هذا الموضع والذي قبله كلمة «لبس» قبل «الخف» ، والسياق لا يحتاج إليها.
حديث ابن عمر بالقطع.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن قوله في حديث ابن عمر: «وليقطعهما» قد قيل: إنه مُدْرَج من كلام نافع. قال صاحب «المغني»
(1)
: «كذلك رُوِيَ في «أمالي أبي القاسم بن بشران» بإسناد صحيح: أن نافعًا قال بعد روايته للحديث: وليقطع الخُفّين أسفلَ مِن الكعبين». والإدراجُ فيه محتمل، لأن الجملة الثانية يستقلّ الكلام الأول بدونها، فالإدراج فيه ممكن، فإذا جاء مصرَّحًا به أن نافعًا قاله زال الإشكال.
ويدلُّ على صحة هذا: أن ابن عمر كان يفتي بقطعهما للنساء، فأخبرَتْه صفيةُ بنت أبي عبيد عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما، قالت صفية: فلما أخبرته بهذا رجع»
(2)
.
الجواب الثاني: أن الأمر بالقطع كان بالمدينة و رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، فناداه رجل فقال: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فأجابه بذلك، وفيه الأمر بالقَطْع، وحديثُ ابن عباس وجابر بعده، وعَمرو بن دينار روى الحديثين معًا ثم قال: انظروا أيهما كان قبل
(3)
. وهذا يدلُّ على أنهم علموا نسخَ الأمرِ بحديث ابن عباس.
(1)
(5/ 121). وفي «المغني» : «رُوّيناه» . وليس الحديث فيما طُبع من «أمالي ابن بشران» .
(2)
أخرجه أبو داود (1831)، وأحمد (24067)، وابن خزيمة (2686)، والبيهقي:(5/ 52). وإسناده حسن.
(3)
أخرجه الدارقطني (2471)، والبيهقي:(5/ 51).
وقال الدارقطني
(1)
: قال أبو بكر النيسابوري: حديث ابن عمر قبل، لأنه قال: نادى رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد» فذَكَره، وابنُ عباس يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات.
فإن قيل: حديث ابن عباس رواه أيوبُ والثوريُّ وابنُ عيينة وحماد بن زيد وابن جُرَيج وهُشَيم، كلُّهم عن عَمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، ولم يقل أحدٌ منهم «بعرفات» غيرُ شعبة، ورواية الجماعة أولى من رواية الواحد.
قيل: هذا عَنَت
(2)
، فإن هذه اللفظة متفق عليها في «الصحيحين» ، وناهيك برواية شعبةَ لها، وشعبةُ حفِظَها وغيرُه لم يَنْفِها، بل هي في حكم جملة أخرى في الحديث مستقلّة، وليست تتضمن مخالفة للآخرين، ومثل هذا يُقْبَل ولا يُردّ، ولهذا رواها الشيخان. وقد قال عليٌّ رضي الله عنه:«قَطْع الخُفّين فسادٌ، يلبسهما كما هما»
(3)
. وهذا مقتضى القياس، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سوَّى بين السراويل وبين الخفّ في لُبس كلٍّ منهما عند عدم الإزار والنّعْل، ولم يأمر بفتق السراويل، لا في حديث ابن عمر ولا في حديث ابن عباس ولا غيرهما. ولهذا كان مذهب الأكثرين: أنه يلبس السراويل بلا فَتْق عند
(1)
في «السنن» عقب حديث (2471).
(2)
ط. الفقي: «عَبَث» .
(3)
ذكره في «المغني» : (5/ 120)، وعنه في كتب المذهب، والأثر نسبه أبو يعلى في «التعليقة»:(1/ 347) وشيخ الإسلام في «شرح العمدة» : (4/ 477) إلى رواية أبي طالب عن الإمام أحمد. ورواه بنحوه ابن أبي شيبة (14858) عن عكرمة، وابن عبد البر في «الاستذكار»:(11/ 32) عن عطاء.
عدم الإزار، فكذلك الخُفّ يُلْبَس بلا قطعٍ، ولا فرق بينهما. وأبو حنيفة
(1)
طَرَد القياسَ وقال: تُفْتَق السراويل، حتى تصير كالإزار، والجمهور قالوا: هذا خلاف النص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«السراويل لمن لم يجد الإزار»
(2)
وإذا فُتِق لم يبق سراويل. ومَن اشترط قطعَ الخُفّ خالفَ القياس مع مخالفته النصَّ المطلق بالجواز. ولا يسلم مِن مخالفة النصِّ والقياس إلا مَن جوَّز لُبسهما بلا قطع، أما القياس فظاهر، وأما النصّ فما تقدم تقريرُه
(3)
. والعجبُ أن مَن يوجب القطعَ يوجبُ ما لا فائدةَ فيه، فإنهم لا يجَوِّزون لُبس المقطوع كالمداس والجمجم ونحوهما، بل عندهم المقطوع كالصحيح في عدم جواز لُبسه.
فأيُّ معنًى للقطع والمقطوعُ عندكم كالصحيح؟!
وأما أبو حنيفة
(4)
رحمه الله فيجوِّز لبس المقطوع، وليس عنده كالصحيح، وكذلك المداس والجمجم ونحوهما.
قال شيخنا
(5)
: وأفتى به جدِّي أبو البركات في آخر عمره [ق 68] لمّا حجَّ. قال شيخنا: وهو الصحيح، لأن المقطوع لُبسه أصلٌ لا بَدَل.
قال شيخنا
(6)
: فأبو حنيفة رحمه الله فهم من حديث ابن عمر أن المقطوعَ
(1)
ينظر: «بدائع الصنائع» : (2/ 188)، وهو مذهب المالكية أيضًا كما في «التمهيد»:(15/ 112).
(2)
في حديث ابن عباس، وقد تقدم تخريجه.
(3)
في الطبعتين: «تقديره» .
(4)
ينظر: «بدائع الصنائع» : (2/ 184).
(5)
أي ابن تيمية، ينظر:«مجموع الفتاوى» : (21/ 196).
(6)
ينظر المصدر نفسه.
لبسه أصلٌ لا بَدَل، فجَوَّز لبسه مطلقًا، وهذا فهمٌ صحيح، وقولُه في هذا أصحّ من قول الثلاثة. والثلاثةُ فهموا منه الرخصة في لُبس السراويل عند عدم الإزار والخفِّ عند عدم النعل، وهذا فهمٌ صحيح، وقولهم في هذا أصح من قوله.
وأحمدُ فهم من النص المتأخر لبس الخفِّ صحيحًا بلا قطع عند عدم النعل، وأن ذلك ناسخ للأمر بالقطع، وهذا فهم صحيح، وقوله في ذلك أصح الأقوال.
فإن قيل: فلو كان المقطوع أصلًا، لم يكن عدم النعل شرطًا فيه، و النبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما جعله عند عدم النعل.
قيل: بل الحديث دليلٌ على أنه ليس كالخفّ، إذ لو كان كالخُفّ لما أمر بقطعه، فدلَّ على أنه بقطعه يخرج عن شَبَه الخفِّ، ويلتحق بالنعل.
وأما جَعْله عدم النعل شرطًا فلأجل أن القطعَ إفساد لصورته ومالِيَّته، وهذا لا يُصارُ إليه إلا عند عدم النعل، وأما مع وجود النعل فلا يُفْسِدُ الخفَّ ويُعْدِم مالِيّته، فإذا تبيَّن هذا تبين أن المقطوع ملحقٌ بالنعل لا بالخُفّ، كما قال أبو حنيفة، وأن على قول الموجبين للقطع لا فائدة فيه، فإنهم لا يجوِّزون لبس المقطوع، وهو عندهم كالخفِّ.
فإن قيل: فغايةُ ما يدلُّ عليه الحديث جوازُ الانتقال إلى الخفّ والسراويل عند عدم النعل والإزار، وهذا يفيد الجواز، وأما سقوط الفدية فلا، فهلَّا قلتم كما قال أبو حنيفة: يجوز له ذلك مع الفدية؟ فاستفادَ الجوازَ من هذا الحديث، واستفادَ الفديةَ من حديث كعب بن عُجْرة، حيث جوَّز له
فِعْل المحظورِ مع الافتداء
(1)
، فكان أسعدَ بالنصوص وموافقتها منكم، مع موافقته لابن عمر في ذلك.
قيل: بل إيجاب الفدية ضعيف في النصِّ والقياس، فإنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر البَدَلَ في حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة، ولم يأمر في شيءٍ منها بالفدية، مع الحاجة إلى بيانها، وتأخيرُ البيان عن وقته ممتنع، فسكوته عن إيجابها مع شدَّة الحاجة إلى بيانه ــ لو كان واجبًا ــ دليلٌ على عدم الوجوب، كما أنه جَوَّز لبس السراويل بلا فتق، ولو كان الفتقُ واجبًا لبيَّنَه. وأما القياس فضعيف جدًّا؛ فإن مثل
(2)
هذا من باب الأبدال التي تجوز عند عدم مُبْدَلاتها، كالتراب عند عدم الماء، وكالصيام عند العجز [عن]
(3)
الإعتاق والإطعام، وكالعدة بالأشهر عند تعذُّر الأقراء ونظائره، ليس هذا من باب المحظور المستباح بالفدية.
والفرقُ بينهما: أن الناس مشتركون في الحاجة إلى لبس ما يسترون به عوراتِهم، ويَقُوْنَ به أرجلَهم الأرضَ والحرَّ والشوكَ ونحوَه، فالحاجة إلى ذلك عامة، ولما احتاج إليه العموم لم يُحْظَر عليهم، ولم يكن عليهم فيه فدية، بخلاف ما يحتاج إليه لمرض أو برد، فإنَّ ذلك حاجة لعارض، ولهذا رخَّص النبيُّ صلى الله عليه وسلم للنساء في اللباس مطلقًا بلا فدية، ونهى عن النقاب والقُفَّازين، فإن المرأة لما كانت كلها عورة، وهي محتاجة إلى ستر بدنها، لم
(1)
ط. الفقي: «الفدية» .
(2)
ط. الفقي: «قيل» تصحيف.
(3)
في الأصل و (ش، هـ): «و» بدلا من «عن» واستفيد الإصلاح من الطبعتين، لكنهم لم يشيروا إلى ما في الأصل.
يكن عليها في ستر بدنها فدية، وكذلك حاجة الرجال إلى السراويلات والخِفاف هي عامة، إذا لم يجدوا الإزار والنعال، وابنُ عمر لمَّا لم يبلُغْه حديث الرخصة مطلقًا أخذ بحديث القطع، وكان يأمر النساءَ بقطع الخِفاف، حتى أخبرَتْه بعد هذا صفيةُ زوجتُه عن عائشة:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرخص للنساء في ذلك» ، فرجع عن قوله
(1)
.
ومما يبيِّن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في الخفين بلا قطع بعد أن منع منهما: أن في حديث ابن عمر المنع من لبس السراويل مطلقًا، ولم يبيِّن فيه حالة من حالة، وفي حديث ابن عباس وجابر المتأخِّرَين ترخيصُه في لبس السراويل عند عدم الإزار، فدلَّ على أن رُخصة البدل لم تكن شُرِعت في لبس السراويل، وأنها إنما شُرِعت وقت خُطبته بها، وهي متأخرة، فكان الأخْذُ بالمتأخِّر أولى، لأنه إنما يُؤخَذ بالآخر فالآخر مِن أَمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمدار المسألة على ثلاث نُكَت: إحداها: أن رُخصة البدليَّة إنما شُرِعت بعرفات لم تُشْرَع قَبْلُ. والثانية: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. والثالثة: أن المقطوعَ
(2)
كالنعل أصلٌ، لا أنه بدل. والله أعلم.
فصل
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المرأةَ أن تنتقب، وأن تلبس القُفَّازَين، فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وُضِع وفُصِّل على قَدْر الوجه كالنقاب والبرقع، ولا يحرم عليها ستره
(1)
تقدم تخريجه (ص 347).
(2)
ط. الفقي: «الخف المقطوع» بزيادة الخف.
بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصحّ القولين. فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، ومنَعَها من القُفّازَين والنقاب، ومعلومٌ أنه لا يحرم عليها سَتْر يديها
(1)
، وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصَّل على قدرهما وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يَحْرُم سَتْره بالنقاب ونحوه، وليس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حرفٌ واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام، إلا النهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القُفَّازَين، [ق 69] فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القُفّازَين إلى اليد سواء. وهذا واضح بحمد الله.
وقد ثبت عن أسماء أنها كانت تُغطِّي وجهها وهي محرمة
(2)
، وقالت عائشة:«كانت الركبانُ يمرون بنا، ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذوا بنا سدلَتْ إحدانا جلبابَها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا» ذكَرَه أبو داود
(3)
.
واشتراط المجافاة عن الوجه كما ذكره القاضي
(4)
وغيره ضعيفٌ لا أصل له دليلًا ولا مذهبًا. قال صاحب «المغني»
(5)
: «ولم أر هذا الشرط ــ يعني المجافاة ــ عن أحمد ولا هو في الخَبَر، مع أن الظاهر خلافُه، فإن الثوب المسدولَ لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لَبُيِّن،
(1)
(ش): «بدنها» تصحيف.
(2)
أخرجه ابنُ خزيمة (2690)، والحاكم:(1/ 453) وصححه على شرط الشيخين.
(3)
(1833)، وأخرجه أحمد (24021)، وابن ماجه (2935). وفي إسناده ضعف.
(4)
لم أره في «التعليقة» المطبوعة، وذكره عنه ابن قدامة في «المغني» ، والزركشي في «شرح الخرقي»:(3/ 140).
(5)
(5/ 155).
وإنما مُنِعَت المرأةُ مِن البرقع والنقاب ونحوهما مما يُعَدّ لستر الوجه، قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها مِن فوق، وليس لها أن ترفع الثوبَ مِن أسفل. كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها. تم كلامه.
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث المرويِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها»
(1)
فجعَلَ وجهَ المرأة كرأس الرجل، وهذا يدلُّ على وجوب كشفه؟
قيل: هذا الحديث لا أصل له، ولم يروه أحدٌ مِن أصحاب الكتب المعتمد عليها، ولا يُعْرَف له إسناد، فلا تقوم به حُجّة
(2)
، ولا يُتْرَك له الحديثُ الصحيحُ الدالُّ على أن وجهها كبدنها، وأنه يحرم عليها فيه ما أُعِدّ للعضو كالنقاب والبرقع ونحوه، لا مطلق الستر كاليدين. والله أعلم.
(1)
لم أجده مرفوعًا بهذا اللفظ، وأخرجه الدارقطني (2761)، ومن طريقه البيهقي (5/ 47)، وأخرجه العقيلي:(1/ 116) من طريق هشام بن حسان، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا. قال البيهقي: هكذا رواه الدراوردي وغيره موقوفًا على ابن عمر.
أما المرفوع فأخرجه الدارقطني (2760)، وابن عدي:(1/ 357)، ومن طريقه البيهقي:(5/ 47) من طريق أيوب بن محمد أبو الجمل، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ:«ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها» .
قال ابن عدي: لا أعلمه يرفعه عن عبيد الله غير أبي الجمل هذا. قال البيهقي: «وأيوب بن محمد أبو الجمل ضعيف عند أهل العلم بالحديث، فقد ضعفه يحيى بن معين وغيره، وقد رُوي هذا الحديث من وجه آخر مجهول عن عبيد الله بن عمر مرفوعًا والمحفوظ موقوف» . وانظر «علل الدارقطني» (2938)، و «نصب الراية»:(3/ 93)، و «البدر المنير»:(6/ 329 - 331).
(2)
ينظر «مجموع الفتاوى» : (26/ 112).
115/ 1750 - وعن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، زاد:«ولا تَنْتَقِبُ المرأةُ الحرام، ولا تلبسُ القُفَّازَين» .
وأخرجه البخاريُّ والترمذي والنسائي
(1)
.
هذا مستثنى من تضييع المال، وكل إتلاف وباب المصلحة فليس بتضييع وليس في أوامر الشريعة إلا الاتباع. وقال عطاء: لا يقطعهما فإن في قطعهما فسادًا .... أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر. وقال الشافعي: أرى أن يقطعهما لأن ذلك في حديث ابن عمر وإن لم يكن في حديث ابن عباس، وكلاهما صادق حافظ، وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئًا لم يروه الآخر إما غير رغبة وإما شك فيه فلم يؤدّه، وإما سكت عنه وإما أدّاه فلم يُؤدَّ عنه لبعض هذه المعاني إطلاقًا.
والقفّاز بالضم والتشديد شيء يلبسه نساء العرب في أيديهن يُغطّي الأصابع والكف والساعد من البرد، يُحْشى بقطن ويكون له أزرار تُزَرّ على الساعدين. وقيل: هو ضربٌ من الحليّ
…
المرأة لديها.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا شيء على المرأة في لباسه، وعللوا حديثَ ابن عمر بأن ذكر القفّازين إنما هو قول ابن عمر ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعَلَّق الشافعيُّ القولَ في ذلك
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: تحريم لبس القُفَّازَين قول عبد الله بن عمر وعطاء
(1)
أخرجه أبو داود (1825)، والبخاري (1838)، والترمذي (848)، والنسائي (2673).
(2)
تعليق المنذري من قوله: «هذا مستثنى
…
» إلى هنا، ساقط من مطبوعة «المختصر» وهوفي المخطوط (ق 54 ب) في طرتها. وقد أشار إليه المجرِّد وأن ابن القيم ساقه إلى قوله:«وعلق الشافعي القولَ في ذلك» . وتصحفت في ط. المعارف «علق» إلى «على» !
وطاوس ومجاهد وإبراهيم النَّخَعي ومالك والإمام أحمد والشافعي في أحدِ قوليه وإسحاق بن راهويه
(1)
. وتُذْكَر الرخصة عن عليّ وعائشة وسعد بن أبي وقاص، وبه قال الثوريُّ وأبو حنيفة
(2)
والشافعيُّ في القول الآخر
(3)
.
ونَهْي المرأةِ عن لُبسهما ثابتٌ في الصحيح، كنهي الرجل عن لُبس القميص والعمائم، وكلاهما في حديثٍ واحدٍ، عن راوٍ واحدٍ. وكنهيه المرأةَ عن النقاب، وهو في الحديث نفسه. وسنةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع، وهي حجةٌ على مَن خالفها، وليس قولُ مَن خالفها حجةً عليها.
وأما تعليل حديث ابن عمر في القُفّازَين بأنه مِن قوله
(4)
. فإنه تعليل باطل، وقد رواه أصحابُ الصحيح والسنن والمسانيد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نَهْيه عن لبس القُمُص والعمائم والسراويلات وانتقاب المرأة ولبسها القفازين. ولا ريب عند أحدٍ من أئمة الحديث أن هذا كلَّه حديث واحد من أصح الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا إليه، ليس من كلام ابن عمر.
(1)
ينظر: «التمهيد» : (15/ 108)، و «المغني»:(5/ 158 - 159)، و «الإنصاف»:(5/ 503)، و «روضة الطالبين»:(3/ 127)، ولقول إسحاق «مسائل الكوسج»:(5/ 2189).
(2)
ينظر لمذاهبهم: «مصنف ابن أبي شيبة» (14433 - 14443)، و «التمهيد»:(15/ 107)، و «بدائع الصنائع»:(2/ 186).
(3)
ينظر «نهاية المطلب» : (4/ 249)، و «روضة الطالبين»:(3/ 127).
(4)
نقل البيهقي: (5/ 47) عن الحاكم أن الحافظ أبا عليّ النيسابوري قال: إن قوله في حديث ابن عمر: «لا تنتقب المرأة» من قول ابن عمر وقد أدرج في الحديث.
وموضع الشُّبْهَة في تعليله أن نافعًا اختلف عليه فيه: فرواه الليث بن سعد عنه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم،فذكر فيه:«ولا تلبس القُفّازين» قال أبو داود
(1)
: ورواه حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب، عن موسى بن عُقْبة، عن نافع على ما قال الليث. ورواه موسى بن طارق، عن موسى بن عُقْبة موقوفًا على ابن عمر. وكذلك رواه عُبيدُ الله بن عمر ومالكٌ وأيوبُ [عن نافع عن ابن عمر]
(2)
موقوفًا، وكذلك هو في «الموطأ»
(3)
عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقول: «لا تنتقِبُ المرأةُ، ولا تلبس القُفّازين. ولكن قد رفعه الليثُ بن سعد وموسى بن عُقبة في الأكثر عنه. وإبراهيم بن سعيد أيضًا رفَعَه عن نافع، ذكره أبو داود
(4)
. ورواه محمد بن إسحاق عن نافع مرفوعًا، كما تقدم.
فأما حديث الليث بن سعد فأخرجه البخاري في «صحيحه» والترمذي
(5)
. وقال: حديث صحيح. ورواه النسائي في «سننه»
(6)
. ولم يروا وَقْف مَن وَقَفه عِلّة.
(1)
عقب الحديث رقم (1825).
(2)
ما بين المعقوفين مستدرك من «سنن أبي داود» .
(3)
(918).
(4)
بعد حديث (1825) ووقع في الأصل و (ش): «إبراهيم بن سعد» والتصويب من «السنن» . وقال عَقبه: «إبراهيم بن سعيد المديني شيخ من أهل المدينة ليس له كبير حديث» .
(5)
البخاري (1838)، والترمذي (833)، وعبارة الترمذي في المطبوع:«حسن صحيح» .
(6)
(2673).