الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثبوتها وصحتها، فلا يعارَض بها ما قد عُلمت صحته، ولو صحت لكان وجهها ما ذكرناه: أنه ليس لها بأخ في الخَلْوة والنظر، وتكون مفسرة لقوله:«واحتجبي منه» ، والله أعلم.
وهذا الولد الذي وقع فيه الاختصام هو عبد الرحمن بن زمعة مذكور في كتاب الصحابة
(1)
.
وهو حجة على من يقول: إن الأَمَة لا تكون فراشًا ويَحمِل قوله: «الولد للفراش» على الحرة؛ فإن سبب الحديث في الأمة فلا يتطرق إليه تخصيص، لأن محل السبب فيه كالنص، وما عداه في حكم الظاهر. والله أعلم.
20 -
باب من أنكر ذلك على فاطمة
(2)
(1)
انظر: «الاستيعاب» (2/ 833)، و «أسد الغابة» (3/ 344)، و «الإصابة» (8/ 50).
(2)
أي أنكر عليها حديثها الذي في الباب الذي قبله «باب في نفقة المبتوتة» ، ولفظه: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتّة وهو غائب، فأرسل إليها وكيلُه بشعير فسخطته، فقال: واللهِ ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال لها:«ليس لكِ عليه نفقة» ، وأمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم قال: «إن تلك المرأة يغشاها أصحابي، اعتدّي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك
…
» الحديث. أخرجه مسلم (1480) وأصحاب «السنن» ، مختصرًا ومطوّلًا.
191/ 2196 - عن أبي إسحق ــ وهو السَّبيعي ــ قال: كنتُ في المسجد الجامع مع الأسود، فقال: أتت فاطمةُ بنت قيس عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ما كُنَّا لِندَع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأةٍ لا ندري أحفظت أم لا؟
وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي
(1)
، مختصرًا ومطولًا.
قال ابن القيم رحمه الله: قال أبو داود في «المسائل» : سمعت أحمد بن حنبل وذُكر له قول عمر: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا» ، فلم يصحح هذا عن عمر.
وقال الدارقطني: هذا الكلام لا يثبت عن عمر، يعني قوله:«وسنة نبينا»
(2)
.
192/ 2197 - وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لقد عابت ذلك عائشة رضي الله عنها أشدَّ العيب ــ يعني حديثَ فاطمة بنت قيس ــ وقالت: إن فاطمة كانت في مكانٍ وَحْشٍ فخِيفَ على ناحيتها، فلذلك أرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه ابن ماجه، وأخرجه البخاري تعليقًا
(3)
.
193/ 2198 - وعن عروة بن الزبير أنه قيل لعائشة: ألم تَرَي إلى قول فاطمة؟ قالت: أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك.
وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه
(4)
.
194/ 2199 - وعن سليمان بن يَسَار، في خروج فاطمة قال: إنما كان من
(1)
أبو داود (2291)، ومسلم (1480/ 46)، والترمذي (1180)، والنسائي (3549).
(2)
سيأتي الكلام على زيادة «وسنة نبينا» بالتفصيل في تعليق ابن القيم الآتي، وكذا توثيق النقل عن أحمد والدارقطني.
(3)
أبو داود (2292)، وابن ماجه (2032)، والبخاري عقب الحديث (5325).
(4)
أبو داود (2293)، والبخاري (5325)، ومسلم (1481).
سوء الخلق
(1)
.
هذا مرسل. واختلف في سبب انتقالها، فقالت عائشة:«كانت فاطمة في مكان وَحْش، فخيف عليها، فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتقال» . وقال سعيد بن المسيب: «إنما نقلت عن بيت أحمائها لطول لسانها» . وروي عنه أيضًا: «تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها، فأمرها ــ عليه الصلاة والسلام ــ أن تنتقل» .
195/ 2200 - وعن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار: أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق بنتَ عبد الرحمن بن الحكم البتة، فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة رضي الله عنها إلى مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فقالت له: اتق الله، واردد المرأة إلى بيتها، فقال مروان ــ في حديث سليمان ــ: إن عبد الرحمن غلبني، وقال مروان ــ في حديث القاسم ــ: أوَ ما بلغكِ شأنُ فاطمة بنت قيس؟ فقالت عائشة: لا يضرُّك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان: إن كان بكِ الشرُّ فحسبُكِ ما كان بين هذين من الشر».
وأخرجه مسلم
(2)
بمعناه مختصرًا.
196/ 2201 - وعن ميمون بن مِهران قال: قدمتُ المدينة، فدَفَعْت إلى سعيد بن المسيب، فقلت: فاطمةُ بنت قيس طُلِّقت فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لَسِنَةً، فوُضعت على يدي ابن أمّ مكتوم الأعمى.
قال ابن القيم رحمه الله: اختلف الناس في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى؟ على ثلاثة مذاهب، وهي
(3)
ثلاث روايات عن أحمد
(4)
:
(1)
«سنن أبي داود» (2294).
(2)
أبو داود (2295)، ومسلم (1480/ 40). وأخرجه البخاري (5321) أيضًا.
(3)
في الأصل والمطبوع: «وعلى» والظاهر أنه تصحيف ما أثبت على جادّة المؤلف، وسيأتي (2/ 423) قوله: «
…
على أربعة أقوال، وهي أربع روايات عن أحمد».
(4)
انظر: «الإنصاف» (24/ 308 - 313).
أحدها: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهي ظاهر مذهبه. وهذا قول علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وعكرمة، وميمون بن مهران
(1)
، وإسحاق بن راهويه
(2)
، وأبي ثور، وداود بن علي
(3)
، وأكثر فقهاء الحديث. وهو مذهب صاحبة القصة فاطمة بنت قيس، وكانت تناظر عليه.
[والثاني]
(4)
: ويروى عن عمر وعبد الله بن مسعود: أن لها السكنى والنفقة
(5)
.
وهو قول أكثر أهل العراق وقول ابن شُبْرُمة، وابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه
(6)
، وعثمان البَتِّي، والعنبري
(7)
.
(1)
أخرج هذه الآثار عبد الرزاق (12029 - 12035)، وابن أبي شيبة (18980، 18992)، وسعيد بن منصور (1/ 321)، والبيهقي (7/ 474 - 475).
(2)
«مسائل أحمد وإسحاق» برواية الكوسج (1/ 379 - 422).
(3)
نسبه إليهما ابن عبد البر في «الاستذكار» (6/ 158، 167).
(4)
ساقط من الأصل، وسيأتي «والثالث:» بعد قليل. وزاده الفقي بلا تنبيه.
(5)
قول عمر أخرجه مسلم (1480/ 46). وقول ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة (18977)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 68).
(6)
انظر: «الأصل» للشيباني (4/ 406)، و «بدائع الصنائع» (3/ 209).
(7)
العنبري هو عبيد الله بن الحسن العنبري البصري القاضي (ت 168). وقول جميع المذكورين في «التمهيد» (19/ 141)، و «المغني» (11/ 403). وفي نسبته إلى ابن أبي ليلى خلاف، فإن الشافعي حكى عنه أن لها السكنى وليس لها النفقة. انظر:«كتاب اختلاف العراقيين» (8/ 375 - ضمن الأم).
وحكاه أبو يعلى ابن القاضي في «مفرداته» روايةً عن أحمد، وهي غريبة جدًا.
والثالث: أن لها السكنى دون النفقة. وهذا قول مالك
(1)
والشافعي
(2)
، وفقهاء المدينة السبعة
(3)
، وهو مذهب عائشة أم المؤمنين
(4)
.
وأسعد الناس بهذا الخبر من قال به، وأنه لا نفقة لها ولا سكنى. وليس مع من ردّه حجة تقاومه ولا تقاربه.
قال ابن عبد البر
(5)
: أما مِن طريق الحجة وما يلزم منها فقول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأرجح، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصًّا صريحًا؛ فأي شيء يعارِض هذا إلا مِثلُه عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المبين عن الله مرادَه؟ ولا شيء يدفع ذلك، ومعلوم أنه أعلمُ بتأويل قول الله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6].
وأما قول عمر ومن وافقه، فقد خالفه علي وابن عباس ومن وافقهما، والحجة معهم. ولو لم يخالفهم أحد منهم لَما قُبِل قول المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على عمر وعلى غيره.
(1)
«الموطأ» (2/ 581)، و «المدونة» (5/ 471).
(2)
«الأم» (6/ 602 - 603). وانظر: «نهاية المطلب في دراية المذهب» (15/ 485).
(3)
انظر: «التمهيد» (19/ 148).
(4)
أخرج البخاري (5321 - 5325) ومسلم (1480/ 40) أنها أنكرت على فاطمة بنت قيس حديثها. قال البيهقي: الأشبه أنها إنما أنكرت عليها النُقْلة من غير سبب، دون النفقة. «السنن الكبرى» (7/ 476) باختصار. يؤيّد ذلك قول فاطمة بنت قيس:«فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملًا، فعلامَ تحبسونها؟» رواه مسلم (1480/ 41).
(5)
«التمهيد» (19/ 151)، والمؤلف صادر عن «المغني» لابن قدامة (11/ 403 - 404).
ولم يصح عن عمر أنه قال: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة» ، فإن أحمد أنكره وقال: أمّا هذا فلا، ولكن قال:«لا نقبل في ديننا قول امرأة»
(1)
. وهذا أمر يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية، فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع، وترده السنة ويخالفه فيه علماءُ الصحابة؟
وقال إسماعيل بن إسحاق
(2)
: نحن نعلم أن عمر لا يقول: «لا ندع كتاب ربنا» إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى، والذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملًا لقوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق. آخر كلامه.
والذين ردوا خبر فاطمة هذا ظنوه معارضًا للقرآن، فإن الله تعالى قال:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، وقال:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]. وهذا لو كان كما ظنوه لكان في السكنى خاصة، وأما إيجاب النفقة لها فليس في القرآن إلا ما يدل على أنه لا نفقة لهن، كما قال القاضي إسماعيل، لأن الله سبحانه شرط في وجوب الإنفاق أن يكنّ من أولات الحمل، وهو يدل على أنها إذا كانت حائلًا
(3)
فلا نفقة لها، كيف وإن القرآن لا يدل على وجوب السكنى للمبتوتة بوجه ما!
(1)
نقله في «المغني» (11/ 404)، وسيأتي قريبًا نص أحمد من «مسائل أبي داود» .
(2)
ابن إسماعيل بن حمّاد بن زيد بن درهم الجهضمي، قاضي بغداد، وشيخ المالكية بالعراق (ت 282). وقوله في «التمهيد» (19/ 142)، والنقل ما زال من «المغني» .
(3)
طبعة الفقي: «حاملًا» ، خطأ.
فإن السياق كله إنما هو في الرجعية. يبين ذلك [ق 109] قولُه
(1)
: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وقولُه:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وهذا في البائن مستحيل. ثم قال: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6]، فاللاتي قال فيهن:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} قال فيهن {أَسْكِنُوهُنَّ} و {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} ، وهذا ظاهر جدًّا.
وشبهة من ظن أن الآية في البائن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، قالوا: ومعلوم أن الرجعية لها النفقة حاملًا كانت أو حائلًا. وهذا لا حجة فيه، فإنه إذا أوجب نفقتها حاملًا لم يدل ذلك على أنه لا نفقة لها إذا كانت حائلًا، بل فائدة التقييد بالحمل التنبيه على اختلاف جهة الإنفاق بسبب الحمل قبل الوضع وبعده، فقبل الوضع لها النفقة حتى تضعه، فإذا وضعته صارت النفقة بحكم الإجارة ورضاعة الولد، وهذه قد يقوم غيرُها مقامها فيه فلا تستحقها لقوله تعالى:{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]، وأما النفقة حال الحمل فلا يقوم غيرها مقامها فيه، بل هي مستمرة حتى تضعه، فجهة الإنفاق مختلفة.
وأما الحائل فنفقتها معلومة من نفقة الزوجات، فإنها زوجة ما دامت في العدة فلا حاجة إلى بيان وجوب نفقتها. وأما الحامل فلما اختلفت جهة النفقة عليها قبل الوضع وبعده، ذكر سبحانه الجِهَتين والسببين. وهذا من أسرار القرآن ومعانيه التي يختص الله بفهمها من يشاء.
(1)
طبعة المعارف: «في قوله» ، خطأ.
وأيضًا فلو كان قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} في البوائن لكان دليلًا ظاهرًا على أن الحائل البائن لا نفقة لها لاشتراط الحمل في وجوب الإنفاق، والحكم المعلق بالشرط عدمٌ عند عدمه.
وأما آية السكنى فلا يقول أحد إنها مختصة بالبائن، لأن السياق يخالفه ويبين أن الرجعية مرادة منها. فإما أن يقال: هي مختصة بالرجعية كما يدل عليه سياق الكلام وتتحد الضمائر ولا تختلف مفسّراتها، بل يكون مفسّر قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] هو مفسر قوله {أَسْكِنُوهُنَّ} ، وعلى هذا فلا حجة في سكنى البائن.
وإما أن يقال: هي عامة للبائن والرجعية، وعلى هذا فلا يكون حديث فاطمة منافيًا للقرآن، بل غايته أن يكون مخصّصًا لعمومه، وتخصيص القرآن بالسنة جائز واقع؛ هذا لو كان قوله:{أَسْكِنُوهُنَّ} عامًّا، فكيف ولا يصح فيه العموم لما ذكرناه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نفقة لك ولا سكنى»
(1)
. وقوله في اللفظ الآخر: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» رواه الإمام أحمد والنسائي
(2)
، وإسناده صحيح.
(1)
رواه مسلم (1480/ 37).
(2)
أحمد (27344) من طريق مجالد بن سعيد، والنسائي (3403) من طريق سعيد بن يزيد الأحمسي، كلاهما عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس. ومجالد فيه لين، وقد تابعه سعيد الأحمسي، قال عنه أبو نعيم الفضل بن دُكين ــ كما في «المعرفة والتأريخ» (3/ 237) ــ وابن معين: كوفي ثقة. وله طريق ثالث عند البيهقي (7/ 473) من رواية فراس بن يحيى ــ وهو ثقة أيضًا ــ عن الشعبي.
على أن هذا اللفظ لم يرد في أكثر طرق الحديث ورواياته، ولذا ضعّفه البيهقي وابن القطان. انظر:«بيان الوهم» (4/ 472 - 477).
وفي لفظ لأحمد
(1)
: «إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى» . وهذا يبطل كل ما تأولوا به حديث فاطمة، فإن هذا فتوى عامّة وقضاءٌ عام في حقّ كل مطلقة. فلو لم يكن لشأن فاطمة ذكر في المتن
(2)
، لكان هذا اللفظ العام مستقلًّا بالحكم لا معارض له بوجه من الوجوه.
فقد تبيّن أن القرآن لا يدل على خلاف هذا الحديث، بل إنما يدل على موافقته، كما قالت فاطمة:«بيني وبينكم القرآن»
(3)
. ولمّا ذُكر لأحمد قول عمر: «لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة» تبسم أحمد وقال: أي شيء في القرآن خلاف هذا
(4)
؟
وأما قوله في الحديث: «وسنة نبينا» ، فإن هذه اللفظة وإن كان مسلم رواها
(5)
، فقد طعن فيها الأئمة كالإمام أحمد وغيره. قال أبو داود في كتاب «المسائل»
(6)
: سمعتُ أحمد بن حنبل، وذُكر له قول عمر: «لا ندع كتاب
(1)
رقم (27100) من طريق مجالد.
(2)
رسمه في الأصل يشبه: «البين» ، وكذا أثبت في ط. المعارف، وفي ط. الفقي:«المبين» ، ولعل ما أثبت أوفق بالسياق.
(3)
رواه أحمد (27337) ومسلم (1480/ 41).
(4)
بنحوه في «مسائل أبي داود» (ص 252).
(5)
برقم (1480/ 46).
(6)
(ص 252 - 253).
ربنا وسنة نبينا لقول امرأة»، قلتُ: يصح هذا عن عمر؟ قال: لا. وروى هذه الحكايةَ البيهقيُّ في «السنن والآثار»
(1)
عن الحاكم، عن ابن بطة، عن أبي حامد الأشعري، عن أبي داود.
وقال الدارقطني
(2)
: هذا اللفظ لا يثبت ــ يعني قوله: «وسنة نبينا» ــ، ويحيى بن آدم أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه، وقد تابعه قَبِيصة بن عقبة، فرواه عن عمّار بن رُزَيق مثل قول يحيى بن آدم سواء. والحسن بن عمارة متروك. وأشعث بن سَوَّار ضعيف. ورواه الأعمش عن إبراهيم دون قوله:«وسنة نبينا» ، والأعمش أثبت مِن أشعثَ وأحفظ.
وقال البيهقي
(3)
: هذه اللفظة أخرجها مسلم في «صحيحه» ، وذهب غيره من الحفاظ
(4)
إلى أن قوله «وسنة نبينا» غير محفوظ في هذا الحديث، فقد رواه يحيى بن آدم وغيره عن عمار بن رزيق في السكنى دون هذه اللفظة، وكذلك رواه الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر دون قوله:«وسنة نبينا» . وإنما ذكره أبو أحمد عن عمار، وأشعثُ عن الحكم وحماد عن إبراهيم عن الأسود عن عمر، والحسنُ بن عُمارة عن سلمة بن كُهَيل عن عبد الله بن الخليل الحضرمي عن عمر. ثم ذكر كلام الدارقطني أنها لا تثبت.
(1)
(11/ 290).
(2)
في «السنن» ، وكلامه مفرَّق خلال الأحاديث (3961 - 3965)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن والآثار» (11/ 289 - 290). وانظر:«العلل» له (164).
(3)
«معرفة السنن» الموضع السابق.
(4)
منهم غير من سبق: أبو حاتم الرازي، كما في «العلل» لابنه (1317).
فقد تبين أنه ليس في السنة ما يعارض حديث فاطمة، كما أنه ليس في [ق 110] الكتاب ما يعارضه. وفاطمة امرأة جليلة من فقهاء الصحابة غير متّهمَة في الرواية.
وما يرويه بعض الأصوليين: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟» غلط، ليس في الحديث
(1)
،
وإنما الذي في الحديث: «حفظت أو
(2)
نسيت؟» هذا لفظ مسلم.
قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد أنه ذكر عند الشعبي قول عمر هذا: «حفظت أم نسيت؟» ، فقال الشعبي: امرأة من قريش ذات عقل ورأي
(1)
من أوائل مَن ذكره من الأصوليين: أبو زيد الدَّبوسي الحنفي (ت 430) في «تقويم الأدلة» (ص 183)، وأبو الحسين البصري المعتزلي (ت 436) في «المعتمد» (2/ 594)، ثم تتابع الأصوليون بعدهما، كأبي إسحاق الشيرازي والبزدوي والسرخسي والغزالي والرازي والآمدي في آخرين، على ذكره في مؤلفاتهم الأصولية، في مبحث نسخ المتواتر بالآحاد، أو في مبحث قبول خبر الواحد.
ولهذا الغلط أصل في بعض كتب الرواية:
- رواه أبو يوسف في كتاب «الآثار» (608) من طريق أبي حنيفة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر باللفظ المذكور. ولا يصحّ، فإن من دون إبراهيم فيهم لين، ولفظه منكر مخالف لرواية مغيرة الضبّي ــ وهو ثقة متقن ــ عن إبراهيم بلفظ:«لا ندري أحفظت أم نسيت» ، أخرجه الترمذي (1180).
- رواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 67) من طريق آخر بلفظ: «لا ندري لعلها كذبت» ، وهو عند مسلم من نفس الطريق بلفظ:«لعلها حفظت أو نسيت» ، فالغلط إما من الطحاوي أو شيخه أبي بكرة بكّار بن قتيبة القاضي.
(2)
في الأصل: «أم» ، ولعله تصحيف ما أثبته من «صحيح مسلم» (1480/ 46).
تنسى قضاء قضي به عليها؟ قال: وكان الشعبي يأخذ بقولها
(1)
.
وقال ميمون بن مهران ــ لسعيد بن المسيب لمّا قال
(2)
: تلك امرأة فتنت الناس ــ: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتنت الناس، وإن لنا في رسول الله أسوة حسنة
(3)
.
ثم ردُّ خبرها بأنها امرأة مما لا يقول به أحد، وقد أخذ الناس برواية من هو دون فاطمة، وبخبر الفُرَيعة
(4)
وهي امرأة، وبحديث النساء كأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من الصحابة.
بل قد احتج العلماء بحديث فاطمة هذا بعينه في أحكام كثيرة:
منها: نظر المرأة إلى الرجل، ووضعها ثيابها في الخلوة، وجواز الخطبة على خطبة الغير إذا لم تُجبه المرأة ولم تسكن إليه، وجواز نكاح القرشية لغير القرشي، ونصيحة الرجل لمن استشاره في أمرٍ يعيب من استشاره فيه وأن ذلك ليس بغِيبة.
ومنها: الإرسال بالطلاق في الغَيبة.
ومنها: التعريض بخطبة المعتدة البائن بقوله: لا تفوّتيني بنفسك.
(1)
علّقه البيهقي في «معرفة السنن» (11/ 290) بتمامه، ورواه سعيد بن منصور في «السنن» (1/ 321) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (6/ 9) دون قوله:«قال: وكان الشعبي يأخذ بقولها» .
(2)
«لمّا قال» ساقط من ط. الفقي، فاختل المعنى.
(3)
رواه ابن عبد البر في «التمهيد» (19/ 147).
(4)
سيأتي في الباب القادم.
ومنها: احتجاج الأكثرين به على سقوط النفقة للمبتوتة التي ليست بحامل.
فما بال حديثها محتجًّا به في هذه الأحكام دون سقوط السكنى؟! فإن كانت حفظته فهو حجة في الجميع، وإن لم يكن محفوظًا لم يَجُز أن يحتج به في شيء. والله أعلم.
وقال الشافعي في القديم
(1)
: فإن قال قائل: فإن عمر بن الخطاب اتهم حديث فاطمة بنت قيس وقال: «لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة» . قلنا: لا نعرف أن عمر اتهمها، وما كان في حديثها ما تُتَّهم له، ما حدَّثتْ إلا بما يجب، وهي امرأة من المهاجرين لها شرف وعقل وفضل. ولو رُدَّ شيء من حديثها كان إنما يرد منه أنه أمرَها بالخروج من بيت زوجها، فلم تذكر هي: لِمَ أُمرتْ بذلك؟ وإنما أمرت به لأنها استطالت على أحمائها، فأُمرت بالتحول عنهم للشر بينها وبينهم، فكأنهم أحبّوا لها ذكر السبب الذي له أُخرجت، لئلا يذهب ذاهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن تعتد المبتوتة حيث شاءت في غير بيت زوجها.
وهذا الذي ذكره الشافعي هو تأويل عائشة بعينه، وبه أجابت مروان لما احتج عليها بالحديث، كما تقدم. ولكن هذا التأويل مما لا يصلح دفعُ الحديث به من وجوه:
أحدها: أنه ليس بمذكور في القصة، ولا عُلِّق عليه الحكم قط، لا باللفظ ولا بالمفهوم، وإن كان واقعًا فتعليق الحكم به تعليقٌ على وصفٍ لم
(1)
نقله البيهقي في «معرفة السنن» (11/ 290 - 291).
يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في لفظه قط ما يدل على إسقاط السكنى به؛ وتركٌ لتعليق الحكم بالوصف الذي اعتبره وعَلَّق به الحكمَ، وهو عدم ثبوت الرجعة.
الثاني: أنكم لا تقولون به، فإن المرأة ولو استطالت، ولو عصت بما عسى أن تعصي به، لم يسقط حقها من السكنى، كما لو كانت حاملًا، بل كان يُستكرَى لها من حقها في مال زوجها وتسكن ناحية.
وقد أعاذ الله فاطمة بنت قيس من ظلمها وتعديها إلى هذا الحد. كيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنّفها بذلك، ولا نهاها عنه، ولا قال لها: إنما أُخرِجتِ من بيتك بظلمك لأحمائك، بل قال لها:«إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» ، وهذا هو:
الوجه الثالث: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لها السبب الذي من أجله سقط حقها من السكنى، وهو سقوط حق الزوج من الرجعة؛ وجعَل هذا قضاء عامًّا لها ولغيرها. فكيف يُعدل عن هذا الوصف إلى وصفٍ لو كان واقعًا لم يكن له تأثير في الحكم أصلًا؟
وقد روى الحميدي في «مسنده»
(1)
هذا الحديث وقال فيه: «يا ابنة قيس إنما السكنى والنفقة ما كان لزوجك عليك الرجعة» ، ورواه الأثرم. فأين التعليل بسلاطة اللسان مع هذا البيان؟
ثم لو كان ذلك صحيحًا لما احتاج عمر في رده إلى قوله: «لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة» ، بل كان يقول: لم يُخرِجها من السكنى إلا لبذائها وسَلَطِها،
(1)
برقم (367) من طريق مجالد عن الشعبي عن فاطمة بنحوه، ولعل اللفظ المذكور لأثرم، وقريب منه لفظ الطبراني في «المعجم الكبير» (24/ 379) من طريق مجالد به. والمؤلف صادر عن «المغني» (11/ 302).