الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لفظة "غير" غلط فأسقطها، ولاسيما إن كان اغترَّ
(1)
بالأثر الضعيف المروي عن الليث، وهذا هو الظاهر، فإن إسقاط الكلمة للاستشكال كثير جدًّا. وأما زيادة "غير" في مثل هذا الموضع فلا يُظنّ زيادتها غلطًا، ثم تتفق عليها النسخُ المختلفة أو أكثرها
(2)
.
5 -
باب ما يُنَجّس الماءَ
5/ 58 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء، وما ينوبه من الدوابّ والسباع؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا كان الماءُ قُلّتين لم يحمل الخَبَثَ".
6/ 59 - وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الماء يكون في الفلاة؟ فذكر معناه.
7/ 60 - وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء قُلَّتين فإنه لا يَنْجُس".
وأخرجه الترمذي والنسائيّ وابن ماجه
(3)
.
وسئل يحيى بن معين عن حديث حماد بن سلمة، حديث عاصم بن المنذر؟ فقال: هذا جيد الإسناد. فقيل له: فإن ابن عُليّة لم يرفعه. قال يحيى: وإن
(1)
زاد في ط. الفقي: "قد اغتر".
(2)
بعده في الأصل بياض بمقدار سطر وزيادة مع أن سياق الكلام تام.
(3)
أخرجه أبو داود (63 - 65)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، وابن ماجه (517).
لم يحفظه ابن عُلية فالحديث حديث جيّد الإسناد
(1)
.
وقال أبو بكر البيهقي: وهذا إسناد صحيح موصول.
قال ابن القيم رحمه الله: ورواه الحاكم في "المستدرك"
(2)
وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وصحَّحه الطحاوي
(3)
.
رواه الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. هكذا رواه إسحاق بن راهويه وجماعة، عن أبي أسامة، عن الوليد
(4)
.
(1)
كذا ساقه المنذري، ومصدره "معرفة السنن والآثار":(1/ 329 - 330) للبيهقي. فقد ساقه بسنده إلى عباس الدوري بنحوه. أقول: وهو في "تاريخه": (4/ 240) ولفظه ــ وهو أتم وأوضح ــ: "سمعت يحيى يقول ــ وسئل عن حماد بن سلمة ــ: حديث عاصم بن المنذر بن الزبير، عن أبي بكر عبيد الله بن عبد الله بن عمر هذا خير الإسناد، أو قال يحيى: هذا جيّد الإسناد. قيل له: فإن ابن علية لم يرفعه، قال يحيى: وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيِّد الإسناد، وهو أحسن من حديث الوليد بن كثير. يعني يحيى في قصة: الماء لا ينجِّسه شيء".
(2)
(1/ 132).
(3)
يفهم تصحيحه من سياقه في "شرح المشكل": (7/ 64 - 67)، وفي "شرح المعاني":(1/ 15 - 16). ونقل تصحيحَ الطحاوي ابنُ الملقن في "البدر المنير": (1/ 413). وكذلك صححه الخطابي، وعبد الحق، وابن الملقن، وحسَّنه النووي. انظر "البدر المنير":(1/ 407 - 409).
(4)
أخرج هذه الطريق أبو داود (63)، والدارقطني:(1/ 13 - 15)، والحاكم:(1/ 132)، والبيهقي:(1/ 260).
ورواه الحُميدي عن أبي أسامة، نا الوليد، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله، عن أبيه
(1)
. فهذان وجهان.
قال الدارقطني في هاتين الروايتين
(2)
: فلما اخْتُلِف على أبي أسامة اخترنا
(3)
أن نعلم مَن أتى بالصواب، فنظرنا في ذلك، فإذا شعيب بن أيوب قد رواه
(4)
عن أبي أسامة، [عن الوليد بن كثير، على الوجهين جميعًا: عن محمد بن جعفر بن الزّبير، ثم أتْبَعَه عن محمد بن عبّاد بن جعفر. فصحَّ القولان جميعًا عن أبي أسامة]
(5)
، وصحَّ أن الوليد بن كثير رواه عنهما جميعًا، وكان أبو أسامة مرَّةً يحدِّث به عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، ومرَّة يحدِّث به عن الوليد، عن محمد بن عَبّاد بن جعفر
(6)
.
ورواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. رواه جماعةٌ عن ابن إسحاق
(7)
.
(1)
أخرج هذه الطريق أبو داود: (1/ 51 - 52) ورجَّحها، والدارقطني:(1/ 15 - 17)، والحاكم:(1/ 133)، والبيهقي:(1/ 260).
(2)
في "السنن": (1/ 17 - 18)، ونقله البيهقي:(1/ 260) والمؤلف صادر عنه. وانظر نحوه في "العلل"(2872) للدارقطني.
(3)
عند الدارقطني والمصادر الناقلة عنه: "أحببنا".
(4)
الأصل: "روى"، والمثبت من "السنن".
(5)
ما بين المعكوفين سقط من الأصل، وهو انتقال نظر، والإكمال من "سنن الدارقطني" والبيهقي.
(6)
هنا انتهى كلام الدارقطني في "السنن".
(7)
أخرجه أبو داود (64)، وابن ماجه (517)، والدارقطني:(16 - 20)، والبيهقي:(1/ 261).
وكذلك رواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه
(1)
. وفيه تقوية
(2)
لحديث ابن إسحاق.
فهذه أربعة أوجه.
ووجه خامس: محمد بن كثير المِصّيصي، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ووجه سادس: معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر. قولَه
(4)
.
قال البيهقي
(5)
: وهو الصواب، يعني حديث مجاهد.
ووجه سابع: بالشكّ في قُلّتين أو ثلاث، ذكرها يزيد بن هارون، وكامل بن طلحة، وإبراهيم بن الحجاج، وهُدْبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر بن الزبير، قال: دخلتُ مع عبيد الله بن عبد الله بن [ق 11] عمر بستانًا فيه مَقْراةُ ماءٍ، فيه جلد بعير ميّت، فتوضأ منه، فقلت: أتتوضأ منه وفيه جلد بعيرٍ ميّت؟ فحدَّثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
أخرجه أبو داود (65)، وابن ماجه (518)، والدارقطني:(21)، والبيهقي:(1/ 262).
(2)
رسمها في الأصل: "يفوته"! والصواب ما أثبت، وانظر "سنن الدارقطني":(1/ 21).
(3)
أخرجه الدارقطني: (29)، ومن طريقه البيهقي:(1/ 262).
(4)
أخرجه الدارقطني: (30)، ومن طريقه البيهقي:(1/ 262).
(5)
في "السنن": (1/ 262). والكلام في أصله للدارقطني نقله عنه البيهقي. قال الدارقطني: "ورواه معاوية بن عمرو، عن زائدة موقوفًا، وهو الصواب".
"إذا بلغ الماء قَدْر قُلّتين أو ثلاث لم ينجّسه شيء"
(1)
.
ورواه أبو بكر النيسابوري: حدثني أبو حميد المِصّيصي، ثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني لوط، عن أبي
(2)
إسحاق، عن مجاهد: أن ابن عباس قال: "إذا كان الماء قُلّتين فصاعدًا لم ينجّسه شيء"
(3)
.
ورواه أبو بكر بن عيّاش، عن أَبَان، عن أبي يحيى، عن ابن عباس، كذلك موقوفًا
(4)
.
وروى أبو أحمد بن عدي
(5)
من حديث القاسم العُمَري، عن محمد بن المُنكَدِر، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماءُ أربعين قُلّة لا يحمل الخبث". تفرّد به القاسم العمري هكذا، وهو ضعيف، وقد نُسِبَ إلى الغلط فيه. وقد ضعّف القاسمَ أحمدُ والبخاريُّ ويحيى بن معين وغيرُهم.
قال البيهقي
(6)
: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا علي
(1)
أخرجه من طريقهم الدارقطني: (22 - 23)، وانظر "سنن البيهقي":(1/ 262) وقال: "ورواية الجماعة الذين لم يشكّوا أولى".
والمَقْراة: الحوض يجتمع فيه الماء. "النهاية": (4/ 82).
(2)
ط. الفقي: "ابن" خطأ.
(3)
أخرجه الدارقطني: (32)، والبيهقي:(1/ 262).
(4)
ذكره البيهقي: (1/ 262).
(5)
في "الكامل": (6/ 34). وقال عَقِبه: "وهذا بهذا الإسناد بهذا المتن لا أعلم يرويه غير القاسم عن ابن المنكدر، وله عن ابن المنكدر غير هذا من المناكير".
(6)
في "السنن": (1/ 262). وتتمة كلامه: "وبمعناه قاله لي أبو بكر بن الحارث الفقيه عن أبي الحسن الدارقطني الحافظ "السنن 1: 26" قال: ووهم فيه القاسم، وكان ضعيفًا كثير الخطأ".
الحافظ يقول: حديث محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا بلغ الماء أربعين قُلّة" خطأ، والصحيح عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عَمرو
(1)
قولَه.
قلت: كذلك رواه عبد الرزاق، أنا الثوري ومعمر، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قولَه
(2)
.
وروى ابنُ لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، عن أبيه قال: "إذا كان الماء فيه
(3)
أربعين قُلّة لم يحمل خبثًا"
(4)
.
وخالفه غيرُ واحدٍ، فرووه عن أبي هريرة، فقالوا:"أربعين غَرْبًا". ومنهم من قال: "دلوًا"، قاله الدارقطني
(5)
.
والاحتجاجُ بحديث القُلّتين مبنيّ على ثبوت عدّة مقامات:
الأول: صحة سنده.
الثاني: ثبوت وصله، وأن إرساله غير قادح فيه.
(1)
في الأصل: "بن عمر" خطأ، وسيأتي على الصواب قريبًا.
(2)
أخرجه من طريق عبد الرزاق: الدارقطني (41 - 42)، والبيهقي:(1/ 262).
(3)
كذا في الأصل، والذي في مصادر الحديث "قدر". وأُسقطت في ط. الفقي.
(4)
أخرجه الدارقطني (44)، وذكره البيهقي:(1/ 262 - 263) من طريق الدارقطني.
(5)
في "السنن" عقب حديث رقم (44).
الثالث: ثبوت رفعه، وأن وَقْف مَن وقَفَه ليس بعلَّة.
الرابع: أن الاضطراب الذي وقع في سنده لا يُوهِنه.
الخامس: أن القُلَّتين مقدَّرتان بقلال هَجَر.
السادس: أن قلال هَجَر متساوية المقدار ليس فيها كبار وصغار.
السابع: أن القلة مقدّرة بقربتين حجازيَّتين، وأن قِرَب الحجاز لا تتفاوت.
الثامن: أن المفهومَ حجَّة.
التاسع: أنه مُقَدَّم على العموم.
العاشر: أنه مقدَّم على القياس الجليّ.
الحادي عشر: أن المفهوم عامّ في سائر صور المسكوت.
الثاني عشر: أن ذِكر العدد خرج مَخْرج التحديد والتقييد.
الثالث عشر: الجواب عن المعارض.
ومَن جعلهما خمسمائة رطل احتاج إلى:
مقام رابع عشر: وهو أنه يُجعل الشيء نصفًا احتياطًا.
ومقام خامس عشر: أن ما وجب به الاحتياط صار فرضًا.
قال المحدّدون: الجواب عما ذكرتم:
* أما صِحّة سنده فقد وُجِدت؛ لأن رواته ثقات، ليس فيهم مجروح ولا متَّهم، وقد سمع بعضهم من بعض؛ ولهذا صححه ابنُ خزيمة والحاكم
والطحاوي وغيرهم
(1)
.
* وأما وَصْله، فالذين وصلوه ثقات، وهم أكثر من الذين أرسلوه، فهي زيادة من ثقة، ومعها الترجيح.
* وأما رفعه، فكذلك. وإنما وقَفَه مجاهدٌ على ابن عمر، فإذا كان مجاهد قد سمعه منه موقوفًا لم يمنع ذلك سماعَ عُبيد الله وعبد الله له من ابن عمر مرفوعًا.
فإن قلنا: الرفع زيادة، وقد أتى بها ثقةٌ، فلا كلام.
وإن قلنا: هي اختلاف وتعارض، فعبيد الله أولى في أبيه من مجاهد، لملازمته له وعلمه بحديثه، ومتابعة عبد الله
(2)
له.
* وأما قولكم: إنه مضطرب، فمثل هذا الاضطراب لا يقدح فيه؛ إذ لا مانع من سماع الوليد بن كثير له عن
(3)
محمد بن عَبّاد ومحمد بن جعفر، كما قال الدارقطني: قد صحّ أن الوليد بن كثير رواه عنهما جميعًا، فحدَّث به أبو أسامة عن الوليد على الوجهين. وكذلك لا مانع من رواية عبيد الله وعبد الله له جميعًا عن أبيهما، فرواه المحمَّدان عن هذا تارةً وعن هذا تارة.
* وأما تقدير القلّتين بقلال هَجَر، فقد قال الشافعي: نا مسلم بن خالد، عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانَ
(1)
انظر ما سبق (ص 44).
(2)
ط. الفقي: "أخيه عبد الله" وليست في الأصل.
(3)
ط. الفقي: "من".
الماءُ قُلّتين لم يحمل خَبَثًا". وقال في الحديث: "بقلال هَجَر"
(1)
.
وقال ابن جريج: أخبرني محمد، عن
(2)
يحيى بن عقيل أخبره، أن يحيى بن يَعْمَر أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماءُ قُلّتين لم يحمل نَجَسًا ولا بأسًا". قال: فقلت ليحيى بن عقيل: قِلال هَجَر؟ قال: قِلال هَجَر، قال: فأظنّ أن كلّ قُلّةٍ تأخذ قِرْبتين
(3)
.
قال ابنُ عديّ
(4)
: محمد هذا هو محمد بن يحيى، يحدِّث عن يحيى بن أبي كثير ويحيى بن عقيل
(5)
.
قالوا: وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها لهم في حديث المعراج، وقال في سِدْرة المنتهى:"فإذا نَبِقها مثل قِلال هَجَر"
(6)
.
(1)
أخرجه الشافعي في "الأم": (2/ 10 - 11)، وهو في "مسنده"(37).
(2)
كذا في الأصل، وفي مصادر الحديث:"أن".
(3)
هذا هو الإسناد الذي لم يحضر الشافعيَّ ذكرُه. أخرجه الدارقطني: (32)، ومن طريقه البيهقي:(1/ 263). وعند الدارقطني وإحدى روايات البيهقي: "فرقين"، وفي رواية للبيهقي:"قربتين" ثم قال: "كذا في كتاب شيخي: قربتين".
(4)
كذا في الأصل، وهو وهم. فإن المصنف لما رأى البيهقي:(1/ 264) نقل هذا القول عن "أبي أحمد الحافظ" ظنه أبا أحمد بن عدي الجرجاني الحافظ صاحب "الكامل". وليس كذلك، فالمقصود هنا هو الحافظ أبو أحمد الحاكم النيسابوري صاحب كتاب "الكنى". وقد صرّح بذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص":(1/ 29). ويدل عليه عادة البيهقي في النقل عن الحافظين.
(5)
علّق ابنُ حجر في "التلخيص": (1/ 30) فقال: "قلت: وكيفما كان فهو مجهول".
(6)
أخرجه البخاري (3207) من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه. وهو في مسلم (164) دون هذه اللفظة.
فدلّ على أنها معلومة عندهم. وقد قال يحيى بن آدم ووكيع وابن إسحاق: القُلّة: الجَرَّة. وكذلك قال مجاهد: القُلّتان: الجَرَّتان
(1)
.
* وأما كونها متساويةَ المقدار، فقد قال الخطابي في "معالمه"
(2)
: "قلال هجر مشهورة الصَّنْعة معلومة المقدار، لا تختلف كما لا تختلف المكاييل والصيعان". وهو حُجَّة في اللغة.
* وأما [ق 12] تقديرها بِقِرَب الحجاز، فقد قال ابن جُريج: رأيت القُلَّة تَسَع قربتين
(3)
. وابنُ جُريج حجازيّ، إنما أخبر عن قرب الحجاز، لا العراق ولا الشام ولا غيرهما.
* وأما كونها لا تتفاوت، فقال الخطابي: "القرب المنسوبة إلى البلدان المحذوَّة
(4)
على مثال واحد"، يريد: أن قِرَب كلّ بلد على قَدْرٍ واحد لا تختلف. قال: "والحدّ لا يقع بالمجهول".
* وأما كون المفهوم حُجّة، فله طريقان:
أحدهما: التخصيص.
والثاني: التعليل.
أما التخصيص، فهو أن يقال: تخصيصُ الحُكْم بهذا الوصف والعدد
(1)
ذكر هذه الآثار البيهقي: (1/ 264)، وانظر "الأوسط":(1/ 262) لابن المنذر، و"التلخيص الحبير":(1/ 31).
(2)
(1/ 57 - بهامش المختصر).
(3)
ذكره عنه الشافعي في "الأم": (2/ 11).
(4)
كذا في الأصل، وفي عدة مطبوعات للمعالم:"المحدودة".
لا بدَّ له من فائدة، وهي نفي الحكم عمّا عدا المنطوق.
وأما التعليل فيختصّ بمفهوم الصفة، وهو أن تعليق الحكم بهذا الوصف المناسب يدلّ على أنه علّة له، فينتفي الحكم بانتفائها.
فإن كان المفهوم مفهوم شرط، فهو قويّ؛ لأن المشروط عدمٌ عند عدم شرطه وإلا لم يكن شرطًا له.
* وأما تقديمه على العموم، فلأن دلالته خاصّة، فلو قُدِّم العمومُ عليه بطلَتْ دلالتُه جملةً، وإذا خُصّ به العموم عُمِل بالعموم فيما عدا المفهوم، والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما.
كيف وقد تأيَّد المفهومُ بحديث الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإراقته
(1)
، وبحديث النهي عن غَمْس اليد في الإناء قبل غسلها عند القيام من نوم الليل
(2)
؟
* وأما تقديمه على القياس الجليّ فواضح؛ لأن القياس عمومٌ معنويّ، فإذا ثبت تقديمه على العموم اللفظي فتقديمه على المعنويّ بطريق الأَوْلى، ويكون خروج صور المفهوم من مقتضى القياس، كخروجها من مقتضى لفظ
(1)
الأمر بالغسل متفق عليه، أخرجه البخاري (172)، ومسلم (279) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والأمر بالإراقة عند مسلم (279/ 89) من طريق علي بن مُسهر، أخبرنا الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار". قال النسائي في "السنن": (1/ 53): "لا أعلم أحدًا تابع عليَّ بن مسهر على زيادة (فليرقه) ". وقال حمزة الكناني: إنها غير محفوظة. وانظر "فتح الباري": (1/ 330 - 331).
(2)
أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
العموم.
* وأما كون المفهوم عامًّا؛ فلأنه إنما دل على نفي الحكم عمّا عدا المنطوق بطريق سكوته عنه، ومعلوم أن نسبة السكوت إلى جميع الصور واحدة، فلا يجوز نفي الحكم عن بعضها دون بعض للتحكّم، ولا إثبات حُكْم المنطوق لها لإبطال فائدة التخصيص، فتعين نَفْيه
(1)
عن جميعها.
* وأما قولكم: إن العدد خرج مخرج التحديد؛ فلأنه عددٌ صدر من الشارع، فكان تحديدًا وتقييدًا، كالخمسة الأوسق، والأربعين من الغَنَم، والخَمْس من الإبل، والثلاثين من البقر، وغير ذلك، إذ لا بدّ للعدد من فائدة، ولا فائدة له إلا التحديد.
* وأما الجواب عن المعارض، فليس معكم إلا عموم لفظيّ، أو عموم معنويّ وهو القياس، وقد بينّا
(2)
تقديم المفهوم عليهما.
* وأما جَعْل الشيء نصفًا؛ فلأنه قد شُكّ فيه، فجعلناه نصفًا احتياطًا
(3)
، والظاهر أنه لا يكون أكثر منه، ويحتمل النصف فما دون، فتقديره بالنصف أولى.
* وأما كون ما وجب به الاحتياط يصير فرضًا؛ لأن هذا حقيقة الاحتياط، كإمساكِ جزءٍ من الليل مع النهار، وغَسل جزء من الرأس مع الوجه.
(1)
غير محررة في الأصل، وفي (ش):"بقيد". والصواب ما أثبتنا.
(2)
رسمها في الأصل: "تبنا".
(3)
في المطبوعتين: "احتياطيًّا" خلافًا للأصل.
فهذا تمام تقرير هذا الحديث سندًا ومتنًا، ووجه الاحتجاج به.
* قال المانعون من التحديد بالقُلّتين:
- أما قولكم: إنه قد صحَّ سندُه، فلا يفيد الحكم بصحته؛ لأنَّ صحّةَ السندِ شرطٌ أو جُزءُ سببٍ للعلم بالصحة لا موجِبٌ تامّ، فلا يلزم من مجرّد صحة السند صحةُ الحديث ما لم ينتفِ عنه الشذوذُ والعلة، ولم ينتفيا عن هذا الحديث.
- أما الشذوذ، فإنّ هذا حديث فاصل بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، وهو في المياه كالأوسُق في الزكاة، والنُّصُب في الزكاة، فكيف لا يكون مشهورًا شائعًا بين الصحابة ينقله خلفٌ عن سلف، لشدة حاجة الأمة إليه أعظمَ من حاجتهم إلى نُصُب الزكاة؟ فإنَّ أكثر الناس لا تجب عليهم زكاة، والوضوء بالماء الطاهر فرض على كلِّ مسلم، فيكون الواجب نقل هذا الحديث، كنقل نجاسة البول ووجوب غسله، ونقل عدد الركعات، ونظائر ذلك.
ومن المعلوم أنّ هذا لم يروه غير ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير عبيد الله وعبد الله، فأين نافع، وسالم، وأيوب
(1)
، وسعيد بن جُبير؟ وأين أهل المدينة وعلماؤهم عن هذه السُّنة التي مَخْرجها من عندهم، وهم إليها أحْوَج الخلق، لعزَّة الماء عندهم؟
(1)
كذا في الأصل، و"أيوب" إذا أُطلق في طبقة التابعين فهو ابن أبي تميمة السَّخْتياني (ت 131) من صغار التابعين، لم يُدرك ابن عمر ولا أرسل عنه. فلعله ذكره ــ إن لم يكن وهمًا ــ لأنه كان أطلبَ الناس لحديث نافع، ومِن أوثق مَن روى عنه.
ومن البعيد جدًّا أن تكون هذه السُّنّة عند ابن عمر وتَخْفى على علماء أصحابه وأهل بلدته، ولا يذهب إليها أحدٌ منهم، ولا يروونها ويديرونها بينهم. ومَنْ أنصفَ لم يخفَ عليه امتناع هذا، فلو كانت هذه السنة العظيمة المقدار عند ابن عمر لكان أصحابه وأهل المدينة أقْوَل الناس بها وأرواهم لها. فأيُّ شذوذٍ أبلغ من هذا؟
وحيث لم يقل بهذا التحديد أحدٌ من أصحاب ابن عمر عُلِم أنه لم يكن فيه عنده سُنّة من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجه شذوذه.
- وأما عِلَّته فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: وَقْف مجاهد له على ابن عمر، واختُلِف فيه عليه، واختُلِف فيه على عبيد الله أيضًا رفعًا ووقفًا. ورجَّح شيخا الإسلام أبو الحجَّاج المِزِّي، وأبو العباس ابن تيمية وَقْفه
(1)
، ورجح البيهقي في "سننه"
(2)
وَقْفه من طريق مجاهد، وجعله هو الصواب.
قال شيخنا أبو العباس: وهذا كلّه يدلُّ على أن ابن عمر لم يكن يحدِّث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سُئل عن ذلك فأجاب بحضرة ابنه، فنقل ابنُه ذلك عنه.
قلت: [ق 13] ويدلّ على وقفه أيضًا: أن مجاهدًا ــ وهو العَلَم المشهور
(1)
انظر "مجموع الفتاوى": (21/ 35). لكنه سئل في موضع آخر (21/ 41) عنه فقال: "وأما حديث القلتين فأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به، وقد أجابوا عن كلام من طعن فيه، وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءًا رد فيه ما ذكره ابن عبد البر وغيره".
(2)
(1/ 262).
الثَّبْت ــ إنما رواه عنه موقوفًا. واخْتُلف فيه على عبيد الله وقفًا ورفعًا.
العلة الثانية: اضطرابُ سنده، كما تقدم.
العلة الثالثة: اضطراب متنه، فإنه في بعض ألفاظه:"إذا كان الماء قلتين". وفي بعضها: "إذا بلغ الماء قَدْر قلّتين أو ثلاث". والذين زادوا هذه اللفظة ليسوا بدون من سكت عنها كما تقدّم.
قالوا: وأما تصحيح من صَحَّحه من الحُفّاظ، فمُعارَض بتضعيف من ضعَّفه، وممن ضَعّفه حافظُ المغرب أبو عمر بن عبد البر
(1)
وغيره؛ ولهذا أعرض عنه أصحابُ "الصحيح" جملةً.
قالوا: وأما تقدير القُلّتين بقلال هَجَر، فلم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء أصلًا. وأما ما ذكره الشافعيّ فمنقطع. وليس قوله:"بقلال هجر" فيه من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أضافه الراوي إليه، وقد صرَّح في الحديث أن التفسير بها من كلام يحيى بن عقيل. فكيف يكون بيان هذا الحكم العظيم، والحدّ الفاصل بين الحلال والحرام، الذي تحتاج إليه جميع الأمة= لا يوجد إلا
(1)
في "التمهيد": (1/ 329) وأعله بالاضطراب. وضعَّفه تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" قال: "هذا الحديث قد صحح بعضُهم إسنادَ بعضِ طرقه، وهو أيضًا صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه وإن كان حديثًا مضطرب الإسناد، مختلفًا فيه في بعض ألفاظه ــ وهي علة عند المحدثين، إلا أن يجاب عنها بجواب صحيح ــ فإنه يمكن أن يجمع بين الروايات، ويجاب عن بعضها بطريق أصولي، وينسب إلى التصحيح، ولكن تركته ــ (يعني) في "الإلمام" ــ لأنه لم يثبت عندنا الآن بطريق استقلال ــ يجب الرجوع إليه شرعًا ــ تعيينٌ لمقدار القلتين". نقله ابن الملقن في "البدر المنير": (1/ 413).
بلفظ شاذٍّ بإسناد منقطع؟ وذلك اللفظ ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم!
قالوا: وأما ذِكْرها في حديث المعراج، فمن العجب أن يُحال هذا الحدّ الفاصل على تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم نَبْق السِّدْرة بها! وما الرابط بين الحُكْمين؟ وأي ملازمة بينهما؟ فلكونها
(1)
معلومةً عندهم معروفةً لهم مَثَّل لهم بها. وهذا من عجيب حَمْل المطلق على المقيد. والتقييد بها في حديث المعراج لبيان الواقع، فكيف يُحْمَل إطلاق حديث القلتين عليه؟
وكونها معلومةً لهم لا يوجب أن ينصرف الإطلاق إليها حيث أُطلِقَت القُلّة
(2)
، فإنهم كانوا يعرفونها ويعرفون غيرها.
والظاهر أن الإطلاق في حديث القلتين إنما ينصرف إلى قلال البلد التي هي أعرف عندهم، وهم لها أعظم ملابسةً من غيرها، فالإطلاق إنما ينصرف إليها، كما ينصرف إطلاق النقد إلى نقد البلد دون غيره، هذا هو الظاهر، وإنما مَثَّل النبيّ صلى الله عليه وسلم بقلال هجر؛ لأنه هو الواقع في نفس الأمر، كما مَثَّل بعض أشجار الجنة بشجرة بالشام تدعى الجوزة
(3)
، دون النخل وغيره من
(1)
ط. الفقي: "ألكونها"، وفي سياق العبارة شيءٌ، ولعل ما أثبته أقرب إلى صحة السياق.
(2)
الأصل والمطبوعات: "العلة" تصحيف، والصواب ما أثبت.
(3)
أخرجه أحمد (17642)، والطبراني في "الكبير":(17/ 126 - 127)، وابن حبان (6450) وغيرهم من حديث عتبة السلمي في حديث طويل في وصف الجنة. قال الهيثمي في "المجمع":(10/ 417): "رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأحمد باختصار عنهما، وفيه عامر بن زيد البكالي، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات". وعامر ذكره ابن حبان في "الثقات": (5/ 191) وخرج له في صحيحه.
أشجارهم؛ لأنه هو الواقع، لا لكون الجوز أعرف الأشجار عندهم. وهكذا التمثيل بقلال هجر؛ لأنه هو الواقع، لا لكونها أعرف القلال عندهم. هذا بحمد الله واضح
(1)
.
وأما قولكم: إنها متساوية المقدار. فهذا إنما قاله الخطابي، بناءً على أنّ ذِكْرَهما تحديد، والتحديد إنما يقع بالمقادير المتساوية. وهذا دَورٌ باطل، وهو لم ينقله عن أهل اللغة ــ وهو الثقة في نقله ــ ولا أخبر به عن عِيان
(2)
.
ثم إن الواقع بخلافه، فإن القِلال فيها الكبار والصِّغار في العُرْف العام أو الغالب، ولا تُعمل بقالَبٍ واحد. ولهذا قال أكثر السلف: القُلّة: الجَرّة. وقال عاصم بن المنذر ــ أحد رواة الحديث ــ: القلالُ: الخوابي العظام
(3)
.
(1)
قال الحافظ في "التلخيص الحبير": (1/ 30): "فإن قيل: أي ملازمة بين هذا التشبيه وبين ذكر القلة في حد الماء؟ فالجواب: أن التقييد بها في حديث المعراج دال على أنها كانت معلومة عندهم بحيث يضرب بها المثل في الكِبَر، كما أن التقييد إذا أطلق إنما ينصرف إلى التقييد المعهود. وقال الأزهري: القلال مختلفة في قرى العرب وقلال هجر أكبرها. وقال الخطابي: قلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار .. والقلة لفظ مشترك، وبعد صَرْفها إلى أحد معلوماتها وهي الأواني تبقى مترددة بين الكبار والصغار، والدليل على أنها من الكبار: جعل الشارع الحد مقدّرًا بعدد، فدلّ على أنه أشار إلى أكبرها؛ لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة. والله أعلم" اهـ.
(2)
"عن" سقطت من ط. الفقي، وفي الأصل:"عنان".
(3)
أخرجه الدارقطني: (31)، والبيهقي:(1/ 264).
وأما تقديرها بِقِرَب الحجاز، فلا ننازعكم فيه، ولكن الواقع أنه قَدّر قُلَّةً من القلال بقِرْبتين من القِرَب فرآها تَسَعُهما، فهل يلزم من هذا أنَّ كلَّ قُلَّة من قلال هَجَر تأخذ كلّ
(1)
قِربتين من قرب الحجاز؟ وأن قِرَب الحجاز كلّها على قَدْر واحد، ليس فيها صغار وكبار؟
ومَن جعلها متساويةً فإنما مستنده أن قال: التحديد لا يقع بالمجهول، فيا سبحان الله! هذا إنما يتمّ أن لو كان التحديدُ مستندًا إلى صاحب الشرع، فأمّا والتقدير بقلال هَجَر وقِرَب الحجاز تحديدُ يحيى بن عقيل وابن جُريج، فكان ماذا؟!
وأما تقرير كون المفهوم حجَّة، فلا تنفعكم مساعدتنا عليه، إذ المساعدة على مقدّمة من مقدمات الدليل لا تستلزم المساعدة على الدليل.
وأما تقديمكم له على العموم فممنوع، وهي مسألة نزاع بين الأصوليين والفقهاء، وفيها قولان معروفان
(2)
. ومنشأ النزاع: تعارض خصوص المفهوم وعموم النّطق
(3)
، فالخصوص يقتضي التقديم، والنّطق يقتضي الترجيح. فإن رجّحتم المفهومَ بخصوصه، رجّح منازعوكم العموم بمنطوقه. ثم الترجيح معهم هاهنا للعموم من وجوه:
أحدها: أن حديثه أصح.
الثاني: أنه موافق للقياس الصحيح.
(1)
سقطت من ط. الفقي.
(2)
انظر "المسودة"(ص 142 - 144) و"إرشاد الفحول": (2/ 694 - 696).
(3)
ط. الفقي: "المنطوق" في الموضعين، خلافًا للأصل.
الثالث: أنه موافقٌ لعمل أهل المدينة قديمًا وحديثًا، فإنه لا يُعرف عن أحدٍ منهم أنه حدّ
(1)
الماء بقُلَّتين. وعملهم بترك التحديد في المياه عمل نقليّ
(2)
خلفًا عن سلف، فجرى مجرى نقلهم الصاعَ والمُدَّ والأحباس
(3)
وتركَ أخذِ الزكاة من الخضروات. وهذا هو الصحيح المحتجّ به من إجماعهم، دون ما طريقُه الاجتهاد والاستدلال، فإنّهم وغيرهم فيه سواء، وربما تَرَجّح غيرُهم عليهم، وتَرجَّحوا هم على غيرهم. فتأمل هذا الموضع.
فإن قيل: ما ذكرتم من الترجيح فمَعَنا من الترجيح ما يقابله، وهو أن المفهوم هنا قد تأيَّد بحديث النهي عن البول في الماء الرَّاكد
(4)
، والأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلبُ، والأمرُ بغسل اليد من نوم الليل
(5)
. فإنّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الماء يتأثر بهذه الأشياء وإن لم يتغيَّر، ولا سبيل إلى تأثر كلِّ ماءٍ بها، بل لا بدّ من تقديره، فتقديره بالقُلّتين أولى من تقديره بغيرهما؛ لأنّ التقديرَ [ق 14] بالحركة والأذرع المعينة وما يمكن نَزْحُه وما لا يمكن= تحكّمات
(6)
باطلة لا أصل لها، وهي غير منضبطة في نفسها، فرُبَّ حركةٍ تُحرِّك غديرًا عظيمًا من الماء، وأخرى تحرِّك مقدارًا يسيرًا منه،
(1)
ط. الفقي: "حدد" خلافًا للأصل.
(2)
في الأصل والمطبوعات: "عملًا نقليًّا" والوجه ما أثبت.
(3)
ط. الفقي: "والأجناس" خطأ. والأحباس هي الأوقاف. ينظر: "مجموع الفتاوى": (20/ 306).
(4)
أخرجه البخاري (239)، ومسلم (282) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
تقدم تخريجهما (ص 53 - 54).
(6)
ط. الفقي: "تقديرات" خلافًا للأصل.
بحَسَب المحرِّك والمتحرِّك. وكذا
(1)
التقدير بالأذرع تحَكُّمٌ محضٌ لا سنّةٌ ولا قياس، وكذا التقدير بالنّزْح الممكن مع عدم انضباطه، فإن عشرة آلاف مثلًا يمكنهم نَزْح ما لا ينزحه عشرة
(2)
، فلا ضابط له.
وإذا بطلت هذه التقديرات ــ ولا بدّ من تقدير ــ، فالتقدير بالقلَّتين أولى لثبوته، إما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما عن الصحابة
(3)
.
قيل: هذا السؤال مبنيّ على مقامات:
أحدها: أنَّ النهي في هذه الأحاديث مستلزم لنجاسة الماء بالمنهي عنه.
والثاني: أنّ هذا التنجيس لا يعمّ كلّ ماء، بل يختص ببعض المقادير
(4)
دون بعض.
والثالث: أنه إذا تعيّن التقدير، كان تقديره بالقُلَّتين هو المتعيّن.
فأما المقام الأول فنقول: ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجُس بمجرَّد ملاقاة البول، والولوغ، وغَمْس اليد فيه. أما النهي عن البول فيه، فليس فيه دلالة على أن الماء كلَّه ينجس بمجرَّد ملاقاة البول لبعضه، بل قد يكون ذلك لأن البول سببٌ لتنجيسه، فإنّ الأبوال متى كثرت في المياه الدائمة أفسدَتْها، ولو كانت قلالًا عظيمة. فلا يجوز أن يُخصّ نهيه بما دون
(1)
ط. الفقي: "وهذا" خلافًا للأصل.
(2)
رسمه في الأصل هنا والموضع السابق يشبه: "غيره"، فأثبته في ط. الفقي هنا:"غيرهم".
(3)
في المطبوعتين زيادة: "رضي الله تعالى عنهم" ولا وجود لها في الأصل.
(4)
ط. الفقي: "المياه" تصحيف.
القلَّتين، فيجوز للناس أن يبولوا في القلَّتين فصاعدًا، وحاشى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون نهيه خرج على ما دون القلتين، ويكون قد جَوَّز للناس البولَ في كلّ ما
(1)
بلغ القلتين أو زاد عليهما، وهل هذا إلا إلغاز في الخطاب أن يقول:"لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري"، ومراده من هذا اللفظ العام: أربعمائة رطل بالعراقيِّ أو خمسمائة، مع ما يتضمَّنه التجويز من الفساد العام وإفساد موارد الناس ومياههم عليهم؟
وكذلك حَمْله على ما لا يمكن نزحُه، أو ما لا يتحرَّك أحدُ طرفيه بحركةِ طرفه الآخر. وكلّ هذا خلاف مدلول الحديث، وخلاف ما عليه الناس وأهل العلم قاطبة، فإنهم ينهون عن البول في هذه المياه وإن كان مجرَّد البول لا ينجّسها، سدًّا للذريعة. فإنه إذا مُكِّن الناسُ من الأبوال في هذه المياه وإن كانت كبيرة عظيمة لم تلبث أن تتغيّر وتفسد على الناس، كما رأينا من تغيّر الأنهار الجارية بكثرة الأبوال.
وهذا كما نهى عن إفساد ظِلالهم عليهم بالتخلِّي فيها، وإفساد طرقاتهم بذلك
(2)
. فالتعليل بهذا أقرب إلى ظاهر لفظه ومقصوده، وحِكْمته بنهيه، ومراعاته مصالحَ العباد، وحمايتهم مما يفسد عليهم ما يحتاجون إليه من مواردهم وطرقاتهم وظِلالهم، كما نهى عن إفساد ما يحتاج إليه الجنّ من طعامهم وعَلَف دوابّهم
(3)
.
فهذه علّة معقولة تشهد لها العقول والفِطَر، ويدلّ عليها تصرّف الشرع
(1)
ط. الفقي: "ماء". وهو محتمل.
(2)
أخرجه مسلم (269) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (450) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
في موارده ومصادره، ويقبلها كلّ عقل سليم، ويشهد لها بالصحَّة.
وأما تعليل ذلك بمائة وثمانية أرطال بالدمشقي، أو بما يتحرّك أو لا يتحرّك، أو بعشرين ذراعًا مُكسَّرة
(1)
، أو بما لا يمكن نزحُه فأقوالٌ كلٌّ منها بكلٍّ مُعَارَضٌ، وكلٌّ بكلٍّ مُناقَض، لا يُشَمّ منها رائحة الحكمة، ولا يُشام منها بوارق المصلحة، ولا يَتَعطَّل بها المفسدة المَخُوفة.
فإنّ الرجل إذا علم أن النهي إنما تناول هذا المقدار من الماء، لم يبق عنده وازع ولا زاجر عن البول فيما هو أكثر منه. وهذا يرجع على مقصود صاحب الشرع بالإبطال. وكلّ شرط أو علة أو ضابط رجع
(2)
على مقصود الشارع بالإبطال كان هو الباطل المحال.
ومما يدلّ على هذا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر في النهي وصفًا يدلّ على أنه هو المعتبر في النهي، وهو كون الماء "دائمًا لا يجري" ولم يقتصر على قوله:"الدائم" حتى نَبّه على العلة بقوله: "لا يجري"، فتقف النجاسة فيه، فلا يذهب بها. ومعلومٌ أنَّ هذه العلة موجودة في القلتين وفيما زاد عليهما.
والعجب من مناقضة المحدّدين بالقلتين لهذا المعنى، حيث اعتبروا القلتين حتى في الجاري، وقالوا: إن كانت الجَرْية قُلّتين فصاعدًا لم تتأثر بالنجاسة، وإن كانت دون القُلّتين تأثرت، وأَلْغَوا كون الماء جاريًا أو واقفًا،
(1)
في الأصل و ط. المعارف: "مكثّرة"، وفي ش:"بكثرة"، وأثبتها الفقي في طبعته بالسين على الصواب. ومعنى "عشرين ذراعًا مكسّرة" أي: عشرين ذراعًا في عشرين ذراعًا. فهي عبارة يستعملها الحُسّاب في ضرب عددٍ في مثله. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 267).
(2)
في ط: "يرجع" والرسم في الأصل محتمل، والمثبت موافق لما في (ش).
وهو الوصف الذي اعتبره الشارع. واعتبروا في الجاري والواقف القلتين، والشارع لم يعتبره، بل اعتبر الوقوف والجَرَيان.
فإن قيل: فإذا لم تخصصوا الحديثَ ولم تقيِّدوه بماء دون ماء، لزمكم المحال، وهو أن يُنهى عن البول في البحر، لأنه دائم لا يجري.
قيل: ذِكره صلى الله عليه وسلم الماءَ الدائم الذي لا يجري تنبيهٌ على أن حِكْمة النهي إنما هي ما يُخشَى من إفساد مياه الناس عليهم، وأن النهي إنما تعلَّق بالمياه الدائمة التي من شأنها أن يُفسدها الأبوال. فأما الأنهار العِظام والبحار فلم يدل نهي النبي صلى الله عليه وسلم[عليها]
(1)
بوجه، بل لمَّا دلَّ كلامُه بمفهومه على جواز البول في الأنهار العظام كالنيل والفرات، فجواز البول في البحار أولى وأحرى.
[ق 15] ولو قُدِّر أن هذا تخصيص لعموم كلامه، فلا يستريب عاقل أنه أولى من تخصيصه بالقُلّتين، أو ما لا يمكن نزحُه، أو ما لا تبلغ الحركةُ طرفيه؛ لأنّ المفسدة المنهيّ لأجلها لا تزول في هذه المياه، بخلاف ماء البحر فإنه لا مفسدة في البول فيه. وصار هذا بمنزلة نهيه عن التخلِّي في الظل
(2)
، وبوله صلى الله عليه وسلم في ظلِّ الشجرتين
(3)
، واستتاره بجِذْم الحائط
(4)
، فإنه
(1)
زيادة يستقيم بها المعنى.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (3012) ضمن حديث طويل من حديث جابر رضي الله عنه.
(4)
ولفظه: عن أبي موسى قال: إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دَمِثًا في أصل جدار فبال، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أراد أحدكم أن يبول فلْيَرْتد لبوله موضعًا". أخرجه أبو داود (3)، والحاكم:(3/ 465 - 466)، والبيهقي:(1/ 93) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وصحّحه الحاكم. وقال المنذري في "مختصره": (1/ 15): فيه مجهول.
وجِذْم الحائط: أصله وأساسه. "المصباح المنير"(ص 36 - 37).
نهى عن التخلِّي في الظل النافع، وتخلَّى مستترًا
(1)
بالشجرتين والحائط، حيث لم ينتفع أحدٌ بظلِّهما، فلم يُفسد ذلك الظلَّ على أحد.
وبهذا الطريق يُعْلَم أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البول في الماء الدائم، مع أنه قد يحتاج إليه، فَلَأنْ ينهى عن البول في إناء ثم صبّه فيه بطريق الأولى.
ولا يستريب في هذا مَن عَلِم حكمةَ الشريعة، وما اشتملت عليه مِن مصالح العباد ونصائحهم. ودع الظاهريةَ البحتةَ، فإنها تقسّي القلوب، وتحجبها عن رُؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحِكَم والمصالح، والعدل والرحمة.
وهذه الطريق التي جاءتك عفوًا تنظر إليها نَظَر مُتّكئ على أريكته قد تَقَطَّعَت في مفاوزها أعناقُ المَطي، لا يسلكها في العالَم إلا الفرد بعد الفرد، ولا يعرف مقدارَها إلَّا
(2)
من أقْرَحَت قلبَه الأقوالُ المختلفة، والاحتمالات المتعدِّدة، والتقديرات المستبعدة. فإن علت هِمّتُه جعل مذهبَه عُرضةً للأحاديث النبوية، وخِدْمته بها، وجعله أصلًا محكمًا يردّ إليه متشابهها، فما
(1)
في الأصل: "مشيرًا" خطأ.
(2)
كذا في الأصل، وأسقطت (إلا) من المطبوعات. ويكون المعنى بإثباتها: أنه لا يعرف مقدار هذه الطرق إلا من تعب في النظر في الأقوال المختلفة، والاحتمالات
…
فلما وجد هذه الطريق عرف قيمتها. لكن يشكل عليه بقية الكلام: "فإن علت همته
…
"، فإنه لا يستقيم المعنى إلا بحذف "إلا"، أي: أنه لا يعرف مقدار هذه الطريق من فسد قلبه لامتلائه بكثرة الاحتمالات والتأويلات البعيدة .. إلخ.
وافقه منها قَبِلَه، وما خالفه تكلَّفَ له وجوهًا لردّ
(1)
الجميل، فما أتعبه من شقاء، وما أقلّ فائدته!
ومما يُفْسِد قولَ المحدِّدين بقُلّتين: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل البائل فيه بعد البول. هكذا لفظ "الصحيحين": "لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه"
(2)
. وأنتم تجوِّزون أن يُغتسل في ماءٍ دائمٍ قدر القُلَّتين بعدما بال فيه. وهذا خلافٌ صريح للحديث. فإن منعتم الغسل فيه، نقضتم أصلكم، وإن جَوَّزتموه خالفتم الحديثَ. فإن جَوَّزتم البولَ والغُسل خالفتم الحديث من الوجهين جميعًا.
ولا يقال: فهذا بعينه وارد عليكم، لأنه إذا بال في الماء اليسير ولم يتغيَّر جوَّزتم له الغُسْل فيه؛ لأنا لم نُعلّل النهيَ بالتنجيس، وإنما عللناه بإفضائه إلى التنجيس، كما تقدم، فلا يَرِد علينا هذا.
وأما إذا كان الماء كثيرًا، فبال في ناحيةٍ ثم اغتسل في ناحية أخرى لم يَصِل إليها البول، لم
(3)
يدخل في الحديث؛ لأنه لم يغتسل في الماء الذي بال فيه، وإلا لزم إذا بال في ناحية من البحر أن لا يغتسل فيه أبدًا، وهو فاسد.
وأيضًا فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الغسل فيه بعد البول، لما يُفْضي إليه من إصابة البول له.
ونظير هذا: نهيه أن يبول الرجل في مستحمِّه. وذلك لما يفضي إليه من تطاير رشاش الماء الذي يصيب البول، فيقع في الوسواس، كما في
(1)
ط. الفقي: "بالرد غير الجميل" خلافًا للأصل.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في المطبوعتين: "فلا" خلاف الأصل.
الحديث: "فإنّ عامّة الوَسْواس منه"
(1)
. حتى
(2)
لو كان المكان مبلّطًا لا تستقر فيه البولة، بل تذهب مع الماء، لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء.
ونظيرُ هذا: منع البائل أن يستجمر أو يستنجي موضع بوله، لما يفضي إليه من التلوث بالبول.
ولم يُرِد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنهيه الإخبارَ عن نجاسة الماء الدائم بالبول، فلا يجوز تعليل كلامه بعلة عامة تتناول ما لم ينه عنه.
والذي يدلّ على ذلك: أنه قيل له في بئر بُضاعة: أنتوضأ منها وهي بئر يُلقى فيها الحِيَض ولحوم الكلاب وعَذِر الناس؟ فقال: "الماء طهور لا ينجّسه شيء"
(3)
. فهذا نصّ صحيح صريح على أن الماء لا يَنجُس بملاقاة النجاسة، مع كونه واقفًا، فإن بئر بُضاعة كانت واقفة، ولم يكن على عهده بالمدينة ماء جارٍ أصلًا. فلا يجوز تحريم ما أباحه وفَعَله قياسًا على ما نَهى عنه، ويُعارَضَ أحدهما بالآخر، بل يستعمل هذا وهذا؛ هذا
(4)
في موضعه، وهذا في موضعه. ولا تُضرب سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض.
فوضوؤه من بئر بضاعة ــ وحالُها ما ذكروه له ــ دليلٌ على أن الماء لا يتنجَّس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغيَّر. ونهيُه عن الغسل في الماء الدائم بعد
(1)
أخرجه أبو داود (27)، والترمذي (21)، والنسائي (36)، وابن ماجه (304)، وأحمد (20569) وغيرهم من حديث عبد الله بن مغفّل. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الأشعث بن عبد الله، وصححه ابن حبان والحاكم، إلا أن قوله:"فإن عامة الوسواس منه" موقوف لا يصح رفعه.
(2)
كذا في الأصل، والسياق يقتضي:"لكن".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
عليها علامة التصحيح في الأصل، لئلا يُظن أن "هذا" مكررة.
البول فيه، لِمَا ذكرنا من إفضائه إلى تلوثه بالبول، كما ذكرنا عنه التعليلَ بنظيره، فاستعملنا السننَ على وجوهها.
وهذا أولى من حَمْل حديث بئر بُضاعة على أنه كان أكثر من قُلّتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلل بذلك، ولا أشار إليه، ولا دلّ كلامه عليه بوجه. وإنما علل بطهورية الماء، وهذه عِلّة مُطَّردة في كلّ ماء، قلّ أو كثر. ولا يَرِدُ المتغيِّر؛ لأن ظهور النجاسة فيه يدلّ على تنجّسه بها، فلا يدخل في الحديث، على أنه محل وفاق فلا يُناقض به.
وأيضًا: فلو أراد صلى الله عليه وسلم النهي عن استعمال الماء الدائم اليسير إذا وقعت فيه أيُّ نجاسةٍ كانت، لأتى بلفظٍ يدلّ عليه. ونهيه عن الغسل فيه بعد البول لا يدلّ على مقدارٍ ولا تنجيس، فلا يُحمَّل ما لا يحتمله.
ثم إنّ كل مَن قَدَّر الماءَ المتنجِّس بقَدْرٍ خالف [ق 16] ظاهر الحديث
(1)
، فأصحاب الحركة خالفوه بأن قدَّروه بما لا يتحرَّك طرفاه، وأصحاب النزح خصّوه بما لا يمكن نزحُه، وأصحاب القلتين خصّوه بمقدار القلتين.
وأسعد الناس بالحديث مَن حَمَله على ظاهره ولم يخصّه ولم يقيّده، بل إن كان تواتر الأبوال فيه يفضي إلى إفساده منع من جوازهما، وإلا منع من اغتساله في موضع بوله كالبحر، ولم يمنع من بوله في مكان واغتساله في غيره.
وكلّ من استدلّ بظاهر هذا الحديث على نجاسة الماء الدائم لوقوع النجاسة فيه، فقد ترك مِن ظاهر الحديث ما هو أَبْيَن دلالة مما قال به، وقال بشيءٍ لا يدلّ عليه لفظ الحديث؛ لأنه إن عمَّم النهيَ في كلِّ ماءٍ بطل
(1)
يعني: حديث النهي عن البول في الماء الدائم ثم الاغتسال فيه.
استدلاله بالحديث، وإن خصَّه بقَدْرٍ خالف ظاهره وقال ما لا دليل عليه، ولزمه أن يُجوِّز البولَ فيما عدا ذلك القَدْر، وهذا لا يقوله أحد. فظهر بطلان الاستدلال بهذا الحديث على التنجيس بمجرَّد الملاقاة على كلِّ تقدير.
وأما مَن قدّره بالحركة، فيدلّ على بطلان قوله أن الحركة مختلفة اختلافًا لا ينضبط، والبول قد يكون قليلًا وكثيرًا، ووصول النجاسة إلى الماء أمر حِسّي، وليس تقديره بحركة الطهارة الصغرى أو الكبرى أولى من سائر أنواع الحركات.
فيا لله للعجب! حركة الطهارة ميزان وعيار على وصول النجاسة وسَرَيانها، مع شدة اختلافها! ونحن نعلم بالضرورة أن حركة المغتسل تصل إلى موضع لا تصل إليه القطرة من البول، ونعلم أن البولة الكبيرة تصل إلى مكان لا تصل إليه الحركة الضعيفة، وما كان هكذا لم يجز أن يُجْعَل حدًّا فاصلًا بين الحلال والحرام.
والذين قدَّروه بالنَّزْح أيضًا قولهم باطل، فإن العسكر العظيم يمكنهم نزح ما لا يمكن الجماعة القليلة نزحُه.
وأما حديث ولوغ الكلب، فقالوا: لا يمكنكم أن تحتجوا به علينا، فإنه ما منكم إلا من خالفه أو قَيَّده أو خصَّصه فخالف ظاهره. فإن احتجَّ به علينا من لا يوجب التسبيع ولا التراب كان احتجاجه باطلًا، فإن الحديث إن كان حجة له في التنجيس بالملاقاة، فهو حجة عليه في العدد والتراب. فأما أن يكون حجة له فيما وافق مذهبه، ولا يكون حجة عليه فيما خالفه، فكلَّا.
ثم هم يخصّونه بالماء الذي لا تبلغ الحركة طرفيه، وأين في الحديث ما يدل على هذا التخصيص؟!
ثم يظهر تناقضهم من وجه آخر، وهو أنه إذا كان الماء رقيقًا جدًّا، وهو منبسط انبساطًا لا تبلغه الحركة: أن يكون طاهرًا ولا يؤثر الولوغ فيه، وإذا كان عميقًا جدًّا وهو متضايق، بحيث تبلغ الحركة طرفيه: أن يكون نجسًا، ولو كان أضعافَ أضعافِ الأول. وهذا تناقض بيِّن لا محيدَ عنه.
قالوا: وإن احتجّ به من يقول بالقلتين فإنه يخصِّصه بما دون القلتين، ويحمل الأمر بغسله وإراقته على هذا المقدار، ومعلومٌ أنه ليس في اللفظ ما يُشْعر بهذا بوجه ولا يدل عليه بواحدة من الدلالات الثلاث.
وإذا كان لا بدَّ لهم من تقييد الحديث، وتخصيصه، ومخالفة ظاهره = كان أسعدُ الناس به من حَمَله على الولوغ المعتاد في الآنية المعتادة التي يمكن إراقتها، وهو ولوغ متتابع في آنية صغار، يتحلل مِن فم الكلب في كلِّ مرة ريق ولعاب نجس يخالط الماء، ولا يخالف لونُه لونَه فيظهرَ فيه التغير، فتكون أعيان النجاسة قائمةً بالماء وإن لم تُرَ، فأمر بإراقته وغسل الإناء.
فهذا المعنى أقرب إلى الحديث وأَلْصَق به، وليس في حَمْله عليه ما يخالف ظاهره، بل الظاهر أنه إنما أراد الآنية المعتادة التي تُتّخذ للاستعمال فيَلَغ فيها الكلاب. فإن كان حمله على هذا موافَقةً للظاهر فهو المقصود. وإن كان مخالفةً للظاهر، فلا ريب أنه أقلّ مخالفة مِن حَمْله على الأقوال المتقدمة. فيكون أولى على التقديرين.
قالوا: وأما حديث النهي عن غمس اليد في الإناء عند القيام من النوم، فالاستدلال به أضعف من هذا كلّه، فإنه ليس في الحديث ما يدل على
نجاسة الماء، وجمهور الأمة على طهارته، والقول بنجاسته من أشذّ الشاذّ، وكذا القول بصيرورته مستعملًا ضعيف أيضًا، وإن كان إحدى الروايتين عن أحمد، واختيارَ القاضي وأتباعه، واختيار أبي بكر وأصحاب أحمد، فإنه ليس في الحديث دليل على فساد الماء. وقد بينّا أن النهي عن البول فيه لا يدلّ على فساده بمجرَّد البول، فكيف بغَمْس اليد فيه من
(1)
النوم؟
وقد اختلف في النهي عنه، فقيل: تعبُّد. ويَردّ هذا القول: أنه معلَّل في الحديث بقوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده".
وقيل: معلَّل باحتمال النجاسة، كبَثْرة في يديه، أو مباشرة اليد لمحل الاستجمار. وهو ضعيف أيضًا، لأن النهي عام للمستنجي والمستجمرِ، والصحيحِ وصاحبِ البثرات، فيلزمكم أن تخصوا النهي بالمستجمرِ، وصاحبِ البثور! وهذا لم يقله أحد.
وقيل ــ وهو الصحيح ــ: إنه مُعلّل بخشية مبيت الشيطان على يده، أو مبيتها عليه. وهذه العلة نظير تعليل صاحب الشرع [ق 17] الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم، فإنه قال:"إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمِنْخَريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه" متفق عليه
(2)
. وقال هنا: "فإن أحدَكم لا يدري أين باتت يده"، فعلّل بعدم الدراية بمحلّ المبيت. وهذا السبب ثابت في مبيت الشيطان على الخيشوم، فإنّ اليد إذا باتت
(1)
غير محررة في الأصل وتحتمل "حين" أو ما أثبتّ، وفي المطبوعتين: "فيه بعد القيام من
…
" خلافًا للأصل.
(2)
أخرجه البخاري (3295) بنحوه وذكره بلفظه معلقًا في أحد تبويباته (3/ 31)، ومسلم (237) بلفظه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ملابِسةً للشيطان لم يَدْر صاحبها أين باتت. وفي مبيت الشيطان على الخيشوم وملابسته لليد سرٌّ يعرفه من عرف أحكام الأرواح، واقتران الشياطين بالمحالِّ التي تُلابسها، فإنّ الشيطان خبيث يناسبه الخبائث، فإذا نام العبد لم يُرَ في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه، فيستوطنه في المبيت.
وأما ملابسته ليده، فلأنها أعمّ الجوارح كسبًا وتصرّفًا ومباشرةً لِمَا يأمر به الشيطان من المعصية، فصاحبها كثير التصرّف والعمل بها، ولهذا سميت: جارحة؛ لأنه يجرح بها، أي يكسب. وهذه العلة لا يعرفها أكثر الفقهاء، وهي كما ترى وضوحًا وبيانًا. وحسبك شهادة النصّ لها بالاعتبار. والمقصود أنه لا دليل لكم في الحديث بوجه ما، والله أعلم.
وقد تبين بهذا جواب المقام الثاني والثالث. فلنرجع إلى الجواب عن تمام الوجوه الخمسة عشر
(1)
، فنقول:
* وأما تقديمكم للمفهوم من حديث القلتين على القياس الجلي، فمما يخالفكم فيه كثير من الفقهاء والأصوليين، ويقولون: القياس الجلي مقدَّم عليه، وإذا كانوا يقدمون القياس على العموم الذي هو حجة بالاتفاق، فَلَأن يقدّم على المفهوم المختَلَف في الاحتجاج به أولى.
ثم لو سلّمنا تقديم المفهوم على القياس في صورةٍ ما، فتقديم القياس هاهنا متعيّن لقُوَّته، ولتأيُّده بالعمومات، ولسلامته من التناقض اللازم لمن قَدَّم المفهوم، كما سنذكره، ولموافقته لأدلة الشرع الدالّة على عدم التحديد بالقُلّتين. فالمصير إليه أولى لو كان وحده، فكيف بما معه من الأدلة؟
(1)
انظر هذه المقامات (ص 49 - 50)، والجواب عنها من (ص 50 فما بعدها).
وهل يُعارِض مفهومٌ واحد لهذه الأدلة من الكتاب والسنة والقياس الجلي واستصحاب الحال وعمل أكثر الأمة، مع اضطراب أصل منطوقه وعدم براءته من العلة والشذوذ؟
قالوا: وأما دعواكم أن المفهوم عامّ في جميع الصور المسكوت عنها، فدعوى لا دليل عليها، فإن الاحتجاج بالمفهوم يرجع إلى حرفين: التخصيص، والتعليل، كما تقدم. ومعلوم أنه إذا ظهر للتخصيص فائدة بدون العموم بقيت دعوى العموم باطلة، لأنها دعوى مجرَّدة، ولا لفظ معنا يدلّ عليها. وإذا عُلِم ذلك فلا يلزم من انتفاء حكم المنطوق انتفاؤه عن كُلّ فردٍ فردٍ من أفراد المسكوت، لجواز أن يكون فيه تفصيل، فينتفي عن بعضها ويثبت لبعضها، ويجوز أن يكون ثابتًا لجميعها بشرطٍ ليس في المنطوق، فتكون فائدة التخصيص به الدلالةَ على ثبوت الحكم له مطلقًا، وثبوتِه للمفهوم بشرط، فيكون المنفيّ عنه الثبوتَ المطلق، لا مطلقَ الثبوتِ. فمن أين جاء العموم للمفهوم، وهو من عوارض الألفاظ؟
وعلى هذا عامة المفهومات؛ فقوله تعالى: {لَا
(1)
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] لا يدلّ المفهوم على أن بمجرَّد نكاحها الزوج الثاني تحلّ له. وكذا قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] لا يدل على عدم الكتابة عند عدم هذا الشرط مطلقًا. وكذا قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]. ونظائره أكثر من أن تُحصى.
وكذلك إن سلكت طريقة التعليل، لم يلزم العموم أيضًا، فإنه يلزم من
(1)
كذا في الأصل، والتّلاوة: "فلا
…
".
انتفاء العلة انتفاء معلولها، ولا يلزم انتفاء الحكم مطلقًا، لجواز ثبوته بوصفٍ آخر.
وإذا ثبت هذا، فمنطوق حديث القُلّتين لا ننازعكم
(1)
فيه، ومفهومه لا عموم له. فبطل الاحتجاج به منطوقًا ومفهومًا.
وأما قولكم: إنَّ العدد خرج مخرج التحديد والتقييد ــ كنُصُب الزكوات ــ فهذا باطل من وجوه:
أحدُها: أنه لو كان هذا مقدارًا فاصلًا بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، لوجبَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بيانُه بيانًا عامًّا متتابعًا تعرفه الأمة، كما بيَّن نُصُب الزكوات، وعدد الجَلْد في الحدود، ومقدار ما يستحقّه الوارث، فإن هذا أمر يعمّ الابتلاء به كلَّ الأمة. فكيف لا يبينه حتى يتفق سؤالُ سائلٍ له عن قضية جُزئية فيجيبه بهذا، ويكون ذلك حدًّا عامًّا للأمة كلها لا يسع أحدًا جهله، ولا تتناقله الأمة، ولا يكون شائعًا بينهم، بل يُحالون فيه على مفهوم ضعيف، شأنه ما ذكرناه، قد خالفَتْه العموماتُ والأدلةُ الكثيرة، ولا يعرفه أهل بلدته، ولا أحد منهم يذهب إليه؟
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] فلو كان الماء الذي لم يتغيّر بالنجاسة [ق 18] منه ما هو حلال ومنه ما هو حرام، لم يكن في هذا الحديث بيان للأمة ما يتقون، ولا كان قد فَصَّل لهم ما حَرَّم عليهم. فإن المنطوقَ من حديث القُلّتين
(1)
الأصل: "لا يثار علم" تحريف.
لا دليل فيه، والمسكوتَ عنه كثيرٌ من أهل العلم يقولون: لا يدلّ على شيء، فلم يحصل لهم بيان ولا فَصْلُ الحلال من الحرام.
والآخرون يقولون: لا بدّ من مخالفة المسكوت للمنطوق، ومعلومٌ أن مطلق المخالفة لا يستلزم المخالفة المطلقة الثابتة لكلِّ فردٍ فردٍ من المسكوت عنه، فكيف يكون هذا حدًّا فاصلًا؟ فتبيّن أنه ليس في المنطوق ولا في المسكوت فصلٌ ولا حدّ.
الثالث: أن القائلين بالمفهوم إنما قالوا به إذا لم يكن هناك سبب اقتضى التخصيصَ بالمنطوق، فلو ظهر سبب يقتضي التخصيص به لم يكن المفهوم معتبرًا، كقوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فذكر هذا القيد لحاجةِ المخاطَبين إليه، إذ هو الحامل لهم على قتلهم، لا لاختصاص الحكم به. ونظيره: {لَا
(1)
تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] ونظائره كثيرة.
وعلى هذا فيحتمل أن يكون ذِكْر القلّتين وقع في الجواب لحاجة السائل إلى ذلك، ولا يمكن الجزم بدفع هذا الاحتمال. نعم لو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ ابتداءً من غير سؤال اندفع
(2)
هذا الاحتمال.
الرابع: أن حاجة الأمة ــ حَضَرِها وبَدْوها، على اختلاف أصنافها ــ إلى معرفة الفَرْق بين الطاهر والنجس ضرورية، فكيف يُحالون في ذلك على ما
(1)
الأصل: "ولا".
(2)
ط. الفقي: "لاندفع" خلاف الأصل.
لا سبيل لأكثرهم إلى معرفته؟ فإن الناس لا يكيلون
(1)
الماء، ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين ولا طولها، ولا عرضها، ولا عمقها! فإذا وقعت في الماء نجاسة فما يدريه أنه قلتان؟ وهل تكليف ذلك إلا من باب علم الغيب، وتكليف ما لا يُطاق!
فإن قيل: يستظهر حتى يغلب على ظنه أنه قُلّتان.
قيل: ليس هذا شأن الحدود الشرعية، فإنها مضبوطة لا يُزاد عليها ولا يُنْقَص منها، كعدد الجَلَدات، ونُصُب الزكوات، وعدد الركعات، وسائر الحدود الشرعية.
الخامس: أن خواصّ العلماء إلى اليوم لم يستقرّ لهم قَدَم على قولٍ واحد في القُلّتين؛ فمِنْ قائل: ألف رطل بالعراقي، ومِن قائل: ستمائة رطل، ومن قائل: خمسمائة، ومن قائل: أربعمائة.
وأعجب مِن هذا جَعْل هذا المقدار تحديدًا! فإذا كان العلماء قد أشكل عليهم قَدْر القُلّتين، واضطربت أقوالُهم في ذلك، فما الظنّ بسائر الأمة؟ ومعلوم أنّ الحدود الشرعية لا يكون هذا شأنها.
السادس: أن المُحدّدين يلزمهم لوازم باطلة شنيعة جدًّا:
منها: أن يكون ماء واحد إذا ولغ فيه الكلب يَنجُس! وإذا بال فيه لم ينجّسه!
ومنها: أن الشَّعْرة من الميتة إذا كانت نجسة فوقعت في قُلّتين إلا رطلًا مثلًا = أن يَنجُس الماء، ولو وقع رطل بول في قلتين لم ينجّسه! ومعلوم أن
(1)
في الطبعتين: "يكتالون" خلافًا للأصل.
تأثّر الماء بهذه النجاسة أضعافُ تأثره بالشعرة، فمحال أن يجيء شرعٌ بتنجُّس الأول وطهارة الثاني.
وكذلك ميتة كاملة تقع في قُلّتين لا تنجّسها، وشعرة منها تقع في قلتين إلا نصف رطل أو رطلًا فتنجِّسها! إلى غير ذلك من اللوازم التي يدلّ بطلانُها على بطلان ملزوماتها.
* وأما جعلكم الشيء نصفًا ففي غاية الضعف، فإنه شكٌّ من ابن جُريج. فيا سبحان الله! يكون شكّه حدًّا لازمًا للأمة، فاصلًا بين الحلال والحرام؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن لأمته الدِّين، وتركهم على
(1)
البيضاء ليلها كنهارها، فيمتنع أن يقدِّر لأمته حدًّا لا سبيل لهم إلى معرفته إلا شكٌّ حادثٌ بعد عصر الصحابة يُجعل نصفًا احتياطًا
(2)
! وهذا بَيِّن لمن أنصف.
والشكُّ الجزئي
(3)
الواقع من الأمة في طهورهم وصلاتهم قد بين لهم حكمه ليندفع عنهم باليقين، فكيف يجعل شكّهم حدًّا فاصلًا فارقًا بين الحلال والحرام؟
ثم جَعْلكم هذا احتياطًا باطل، لأن الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك المكلَّف منها عملًا لآخر احتياطًا. وأما
(4)
الأحكام الشرعية والإخبار
(1)
ط. الفقي زيادة "المحجّة"!
(2)
في الطبعتين: "احتياطيًّا" خلافًا للأصل.
(3)
رسمه في الأصل: "الجرى" وفي الطبعتين: "الجاري"، ولعل الأقرب للرسم والسياق ما أثبت.
(4)
في الأصل والطبعتين: "وإنما" والظاهر أنه تصحيف، بدليل وجود الفاء في جوابه: "فطريق
…
".
عن الله ورسوله، فطريق الاحتياط فيها أن لا يُخْبَر عنه إلا بما أخبر به، ولا يثبت إلا ما أثبته.
ثمّ إن الاحتياط في ترك هذا الاحتياط، فإن الرجل تحضره الصلاة وعنده قُلّة قد وقعت فيها شعرةُ مَيْتةٍ، فتَرْكُه الوضوءَ منه منافٍ للاحتياط
(1)
.
فهلّا أخذتم بهذا الأصل هنا، وقلتم: ما ثبت تنجيسُه بالدليل الشرعي نجّسناه، وما شكَكْنا فيه ردَدْناه إلى أصل الطهارة. لأن هذا لمّا كان طاهرًا قطعًا وقد شككنا هل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنجيسه أم لا، والأصل الطهارة.
وأيضًا: فأنتم لا تبيحون لمن شكّ في نجاسة الماء أن يعدل إلى التيمم، بل توجبون عليه الوضوء، فكيف تحرّمون عليه الوضوء هنا بالشك؟
وأيضًا: فإنكم إذا نجّستموه بالشكّ نجّستم ما يصيبه من الثياب والأبدان والآنية، وحرَّمتم شربَه والطبخَ به، وأَرَقْتم [ق 19] الأطعمةَ المتَّخَذةَ منه. وفي هذا تحريم لأنواع عظيمة من الحلال بمجرّد الشكّ، وهذا مناف لأصول الشريعة. والله أعلم.
6 -
باب النهي عن ذلك
(2)
8/ 74 - عن حُميد الحميري قال: لقيتُ رجلًا صَحِب النبيَّ صلى الله عليه وسلم أربعَ سنين، كما صحبه أبو هريرة، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأةُ بفضل الرجل، أو يغتسل الرجلُ بفضل المرأة. ــ زاد مُسدّد ــ: وليغترفا جميعًا".
وأخرجه النسائي
(3)
.
(1)
بعده في الأصل بياض قدر سطر.
(2)
قبله في "المختصر"(1/ 79): باب الوضوء بفضل المرأة.
(3)
أخرجه أبو داود (81)، والنسائي (238).
9/ 80 - وعن أبي حاجب، عن الحَكَم بن عَمرو ــ وهو الأقرع ــ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجلُ بفضل طهور المرأة".
وأخرجه الترمذي وابن ماجه
(1)
. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال البخاريّ: سَوادة بن عاصم ــ أبو حاجب العنزي ــ يُعدّ في البصريين، كَنّاه أحمد وغيره، يقال: الغفاريّ، ولا أراه يصح عن الحكم بن عمرو.
قال ابن القيم رحمه الله: وقال الترمذي في كتاب "العلل"
(2)
: "سألتُ أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ــ يعني حديث أبي حاجب، عن الحكم بن عَمرو؟ فقال: ليس بصحيح، قال: وحديث عبد الله بن سَرْجِس في هذا الباب، الصحيح هو موقوف، ومَن رَفَعه فهو خطأ". تم كلامُه.
وقال أبو عبيد
(3)
: نا عليّ بن معبد، عن عبيد الله بن عَمرو، عن مَعْمر، عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن سَرْجِس أنه قال: أترون هذا الشيخ ــ يعني نفسَه ــ فإنه قد رأى نبيَّكم صلى الله عليه وسلم وأكل معه، قال عاصم: فسمعته يقول: "لا بأس بأن يغتسل الرجلُ والمرأةُ من الجنابة من الإناء الواحد، فإن خَلَت به فلا تقرَبْه".
فهذا هو الذي رجَّحه البخاريُّ، ولعل بعضَ الرواة ظنَّ أن قوله:
(1)
أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، وابن ماجه (373).
(2)
(1/ 134).
(3)
في كتاب "الطهور"(194). وفي ط. الفقي زيادة: "في كتاب الطهور". وليست في الأصل ولا (ش).
"فسمعته يقول" من كلام عبد الله بن سرجس، فوهم فيه، وإنما هو مِن قول عاصم بن سليمان يحكيه عن عبد الله.
وقد اختلفَ الصحابةُ في ذلك؛ فقال أبو عبيد
(1)
: ثنا حَجَّاج، عن المسعودي، عن مهاجر أبي الحسن، قال: حدثني كُلثوم بن عامر بن الحارث
(2)
قال: "توضأَتْ جُويريةُ بنت الحارث ــ وهي عمَّته ــ قال: فأردتُ أن أتوضأ بفضل وضوئها، فجذَبَت الإناءَ ونَهَتْني وأمرتني أن أُهريقه، قال: فأهرقته".
وقال: ثنا الهيثم بن جميل، عن شَريك، عن مهاجر الصائغ، عن ابنٍ لعبد الرحمن بن عوف:"أنه دخل على أمِّ سلمة، ففعلت به مثل ذلك".
فهؤلاء ثلاثة: عبد الله بن سرجس، وجويرية، وأم سلمة. وخالفهم في ذلك ابن عباس، وابن عمر.
قال أبو عبيد
(3)
: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن أبي يزيد المديني، عن ابن عباس: أنه سئل عن سُؤْر المرأة فقال: "هي ألطف بنانًا، وأطيب ريحًا".
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان لا يرى بأسًا بسؤر المرأة، إلا أن تكون حائضًا أو جُنُبًا".
(1)
في كتاب "الطهور"(191، 192).
(2)
الأصل: "الحرب". ولعلها كانت "الحرث" بدون ألف كما في الرسم القديم فتصحفت، والتصويب من كتاب "الطهور" ومصادر ترجمته. ينظر "التاريخ الكبير":(7/ 226)، و"الثقات":(5/ 336) لابن حبان.
(3)
في "الطهور"(196، 197).