الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاصله في كل الصور التي قد ذكرها كما لا يخفى وهذا لمن لا يقصد الصلاة فيها، وأما القاصد فاسمع ما نقله الفقيه ابن حجر الهيتمي في كتابه «الزواجر»:
هذا وقد أفادت الأحاديث السابقة تحريم بناء المساجد على القبور أيضا وهي مسألة أخرى تكلمنا عليها في «التعليقات الجياد» وذكرنا فيه أقوال العلماء في النهي عن ذلك ولعلنا نذكرها في «أحكام المساجد» من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
[الثمر المستطاب (1/ 373)].
تحريم الصلاة إلى القبور
قال الإمام في تلخيص الصفة فقرة 23:
ولا تجوز الصلاة إلى القبور مطلقا، سواء كانت قبورا للأنبياء أو غيرهم.
وقال في أصل الصفة:
وكان ينهى عن الصلاة تجاه القبر؛ فيقول: «لا تجلسوا على القبور، ولا تُصَلُّوا إليها» .
قوله: لا تجلسوا: فيه دلالة على تحريم القعود على القبور؛ لأنه الأصل في النهي، وهو مذهب الجمهور فيما حكاه الصنعاني في «سبل السلام» «2/ 157» ، والشوكاني في «النيل» «4/ 75» ، والصواب أن مذهبهم الكراهة - كما نقله النووي في «المجموع» «5/ 312»
عنهم، وابن الجوزي فيما ذكره الحافظ في «الفتح» «3/ 174» -، والحق: إنه حرام؛ لما ذكرنا من أن أصل النهي التحريم، ولم يرد شيء يخرجه منه إلى الكراهة، بل جاء ما يؤكده؛ وهو: ما رواه أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده؛ خير له من أن يجلس على قبر» .
أخرجه مسلم «3/ 62» ، وأبو داود «2/ 71» ، والنسائي «1/ 287» ، وابن ماجه «1/ 1/474» ، وأحمد «2/ 311 و 389 و 444» .
وما رواه عقبة بن عامر مرفوعاً: «لأن أمشي على جمرة، أو سيف، أو أَخْصِفَ نعلي برِجْلي؛ أحب إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسَطَ القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق» ! .
أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح.
وقد أغرب بعض الأئمة؛ فَأَوَّلَ الجلوس على القبر بالجلوس لغائط أو بول! وهو تأويل ضعيف أو باطل - كما قال النووي -، وقد بين بطلان ذلك ابن حزم في «المحلى» «5/ 136» من وجوه؛ فراجعها فيه.
وقال الشافعي في «الأم» «246» : «وأكرهُ وطْء القبر والجلوس والاتكاء عليه، إلا أن لا يجد الرجلُ السبيلَ إلى قبر ميِّتِه إلا بأن يطأه؛ فذلك ضرورة، فأرجو حينئذٍ أن يسعه إن شاء الله» .
قلت: إن كان القصد من الوصول إلى قبر الميت لأجل الزيارة فقط؛ فليس ذلك بضرورة يُستحل بها ما تقدم من الوعيد الشديد؛ لأن الزيارة تتحقق من بعيد، وليس من شرطها الوصول إلى القبر نفسه؛ ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله:«لا يوطأ القبر إلا لضرورة، ويزار من بعيد، ولا يَقْعُد، وإن فعل؛ يكره» .
كذا في «رد المحتار» «1/ 846» نقلاً عن «خزانة الفتاوى» .
وظاهر قوله: «يكره» : أنه كراهة تحريم؛ لأنها المراد عند الإطلاق، وهو الموافق لما سبق من الأحاديث. والله أعلم. وللبحث تتمة؛ يراجع في «التعليقات الجياد» .
قوله: ولا تصلوا إليها: أي: مستقبلين إليها. لما فيه من التعظيم البالغ؛ لأنه من مرتبة المعبود، فجمع بين النهي عن الاستخفاف بالتعظيم، والتعظيم البليغ. كذا في «الفيض» للمناوي. ثم قال في موضع آخر:«فإن ذلك مكروه. فإن قصد إنسان التبرك بالصلاة في تلك البقعة؛ فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، والمراد كراهة التنزيه» .
قال النووي: «كذا قال أصحابنا. ولو قيل بتحريمه - لظاهره - لم يبعد، ويؤخذ من الحديث النهي عن الصلاة في المقبرة؛ فهي مكروهة كراهة تحريم» . اهـ. وفي «الأم» «1/ 246» : «وأكره أن يُبنى على القبر مسجد، وأن يُسَوَّى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه» .
قال: وإن صلى إليه؛ أجزأه، وقد أساء، أخبرنا مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
والحديث الذي ذكره عن مالك مُعضَلاً حديث صحيح جداً؛ جاء في «الصحيحين» وغيرهما عن جمع من الصحابة؛ منهم: عائشة، وابن عباس، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسامة بن زيد.
وفي الباب عن: عائشة أيضاً، وجندب بن عبد الله البجلي، وابن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وعطاء بن يسار مرسلاً.
وقد خرجتُ أحاديثهم، وسقت ألفاظهم في «التعليقات الجياد» ، وبينت فيه ما يستفاد منها من المسائل المهمة التي غفل عنها أكثر المسلمين؛ فوقعوا في الغلو في الأولياء والصالحين، وتعظيمهم تعظيماً خارجاً عن حدود الشرع والدين، وقد قال ابن حجر الهيتمي الفقيه في «الزواجر عن اقتراف الكبائر» «ص 121»: «قال بعض الحنابلة: قَصْدُ الرجل الصلاةَ عند القبر متبركاً بها عَيْنُ المحاداة لله ولرسوله،
وإبداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها، ثم إجماعاً؛ فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها. والقول بالكراهة محمول على غير ذلك؛ إذ لا يُظَنُّ بالعلماء تجويزُ فعلٍ تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لَعْنُ فاعِلِهِ، ويجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أُسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره». انتهى ما في «الزواجر» .
فأفاد كلام المناوي والحنبلي أن قصد الصلاة إلى القبر وعنده محرم، وأنه تشريع لم يأذن به الله، ومع ذلك ترى كثيراً من الناس - حتى بعض المشايخ - يقصدون مقامات الأولياء والصالحين للصلاة عندها، والتبرك بها، وإذا قيل لهم في ذلك؛ قالوا: إنما الأعمال بالنيات، ونياتنا طيبة، وعقائدنا سليمة! ولئن صدقوا في ذلك؛ فما هو بمنجيهم من المؤاخذة عند الشارع الحكيم؛ لأنه إنما بنى الأحكام على الظواهر، والله يتولى السرائر.
ولقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خاطبه بقوله: ما شاء الله وشئت يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: «جعلتني لله نداً؟ ! قل: ما شاء الله وحده» .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن ذلك الرجل ما قصد أن يجعله شريكاً مع الله، وهو رضي الله عنه ما آمن به صلى الله عليه وسلم إلا فراراً من الشرك؛ فكيف يجعله شريكاً لله؟ ! كان صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك منه، وإنما أنكر عليه ما سمعه من لسانه حتى يُقَوِّمَهُ مرة؛ فلا يتكلم مرة أخرى بما يوهم الشرك والضلال.
فمالهؤلاء الناس يأتون أعمالاً منكرة، ظاهرها شرك وضلال، ثم يبررون ذلك بقصدهم الحسن في زعمهم؟ ! والله يعلم أن كثيراً من هؤلاء قد فسدت عقائدهم، وداخَلَها الشرك من حيث يشعرون أو لا يشعرون؛ ذلك جزاؤهم بما كسبوا، وجعلوا أحاديثه عليه الصلاة والسلام وراءهم ظهرياً.