الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اقتداء المأمومين بالإمام إذا صلى جالسًا
وصلّى صلى الله عليه وسلم في مرضِ موته جالساً، وصلاها كذلكَ مرةً أخرى قبل هذه؛ حينَ اشتكى، وصلّى الناسُ وراءَهُ قياماً؛ فأشارَ إليهم أنِ اجْلِسُوا؛ فجلسوا، فلما انصرفَ؛ قال:«إن كِدْتُم آنفاً لتفعلون فِعْلَ فارسَ والروم: يقومون على مُلوكهم وهم قُعود، فلا تفعلوا؛ إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به؛ فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا رفع؛ فارفعوا، وإذا صلى جالساً؛ فصلُّوا جلوساً [أجمعون]» .
واعلم أَن في هذه الأحاديث دلالة على أن الإمام إذا صلى جالساً لمرض به؛ صلى مَن وراءه جالسين؛ ولو كانوا قادرين على القيام، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اتباع الإمام في الجلوس من طاعة الأئمة الواجبة بكتاب الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم:«من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن عصاني؛ فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير؛ فقد أطاعني، ومن عصى الأمير؛ فقد عصاني، إنما الإمام جنة، فإن صلى قاعداً؛ فصلوا قعوداً، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: اللهم ربنا! ولك الحمد. فإذا وافق قول أهل الأرض قولَ أهل السماء؛ غفر له ما مضى من ذنبه» .
قال الترمذي - بعد أن ساق حديث أنس المذكور آنفاً -: «وقد ذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحديث؛ منهم: جابر بن عبد الله، وأُسَيد بن حُضير، وأبو هريرة، وغيرهم. وبهذا الحديث يقول أحمد وإسحاق» .
قال الحافظ «2/ 140» : «وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية؛ كابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان» . اهـ.
وقد نقل الزيلعي في «نصب الراية» «2/ 49» كلام ابن حبان في ذلك، وهاك نصَّه: قال في «صحيحه» : وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلى قاعداً؛ كان على المأمومين أن يصلوا قعوداً. وأفتى به من الصحابة: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن قَهْد «بفتح القاف وسكون الهاء» . ولم يُروَ عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكان إجماعاً، والإجماع
عندنا إجماع الصحابة. وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد، ولم يُروَ عن غيرهِ من التابعين خلافه بإسناد صحيح ولا واهٍ؛ فكان إجماعاً من التابعين أيضاً. وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مِقْسَم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة، ثم عنه أصحابه. وأعلى حديث احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي عن الشعبي: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يَؤُمَّنَّ أحد بعدي جالساً» .
وهذا لو صح إسناده؛ لكان مرسلاً، والمرسل عندنا وما لم يُروَ سيان، لأنا لو قبلنا إرسال تابعي - وإن كان ثقة -؛ لَلَزِمَنَا قبول مثله عن أتباع التابعين، وإذا قبلنا؛ لَزِمَنَا قبوله من أتباع أتباع التابعين، ويؤدي ذلك إليه أن يقبل من كل أحد إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! وفي هذا نقض الشريعة، والعجب أن أبا حنيفة يجرح جابراً الجعفي ويكذبه، ثم لما اضطره الأمر؛ جعل يحتج بحديثه. وذلك كما أخبرنا به.
قلت: فساق إسناده إلى أبي يحيى الحماني: «سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي؛ وما أتيته بشيء من رأي قط إلا جاءني فيه بحديث. اهـ. ما في نصب الراية ببعض اختصار» .
وحديث جابر هذا أخرجه الإمام محمد في «الموطأ» «113» ، واحتج به على نسخ قوله عليه الصلاة والسلام:«إذا صلى الإمام جالساً؛ فصلوا جلوساً أجمعين» . وقد علمت ما فيه.
وقد احتجوا بحجة أخرى على النسخ؛ وهي ما تقدم من صلاته في مرض موته بالناس قاعداً وهم قائمون خلفه، ولم يأمرهم بالقعود.
ثانيهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً؛ لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا؛ كما في الأحاديث التي في مرض موت
النبي صلى الله عليه وسلم، فان تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ بالصلاة بهم قائماً، فصلوا معه قياماً؛ بخلاف الحالة الأولى؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالساً، فلما صلوا خلفه قياماً؛ أنكر عليهم.
ويقوي هذا الجمعَ أن الأصل عدم النسخ؛ لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعداً، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك يقتضي وقوع النسخ مرتين، وهو بعيد. اهـ.
وللمانعين لدعوى النسخ أجوبة كثيرة تراجع في المطولات، وقد لخصها المحقق السندي في «حاشيته على البخاري» ، ثم قال: ومما يدل على بقاء الحكم المذكور: أنه قد جعل قعود المقتدي عند قعود الإمام من جملة الاقتداء بالإمام، والإجماع على بقاء الاقتداء به؛ فالظاهر بقاء ما هو من جملة الاقتداء. وكذا يدل على بقاء الحكم: أنه قد عَلّلَ في بعض الروايات حكم القعود؛ بأن القيام عند قعود الإمام من أفعال أهل فارس بعظمائها - يعني: أنه يشبه تعظيم المخلوق فيما وُضعَ لتعظيم الخالق من الصلاة -، ولا يخفى بقاء هذه العلة، والأصل بقاء الحكم عند دوام العلة.
وللطرفين ها هنا كلمات، وما ذكرنا فيه كفاية في بيان أن دعوى النسخ لا يخلو عن نظر. اهـ.
ويَرُدُّ هذه الدعوى أيضاً حديثا أبي هريرة وابن عمر المُصَدَّرُ بهما هذا البحث؛ فقد جعل صلى الله عليه وسلم الصلاة وراء الإمام الجالس جلوساً من طاعة الأئمة، التي هي من طاعته صلى الله عليه وسلم، وغير معقول أن ينسخ شيء منها. والله أعلم.
[أصل صفة الصلاة (1/ 85)]