الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا المذهب - وهو وجوب المخالفة بين طرفي الثوب - هو الأقوى من حيث الدليل والبرهان، وإليه مال البخاري - كما يدل تصرفه في «صحيحه» -؛ كما قال الحافظ، قال:«وهو اختيار ابن المنذر وتقي الدين السبكي من الشافعية» .
قلت: وإليه ذهب الشوكاني في «نيل الأوطار» «2/ 59 - 61» .
وأما بطلان الصلاة بترك ذلك؛ فالحديث لا يدل إلا على بعض القواعد؛ وبها نظر. والله أعلم.
واحتج الجمهور بحجة أخرى، وهي صلاته صلى الله عليه وسلم وبعض ثوبه على زوجه، كما يأتي ذلك قريباً، وسنذكر هناك وجه الاستدلال بذلك، والجواب عنه إن شاء الله تعالى.
[أصل صفة الصلاة (1/ 157)]
الأمر بالالتحاف مقيَّد بالثوب الواسع
وقيد ذلك بالثوب الواسع؛ فقال: «إذا صلَّيتَ وعليك ثوبٌ واحد، فإن كان واسعاً؛ فالتحف به، وإن كان ضيقاً؛ فاتزر به» .
والحديث نص واضح في التفريق بين الثوب الواسع والضيق؛ فيجب الالتحاف بالأول - لظاهر الأمر- دون الثاني؛ فيجوز الائتزار به بدون كراهة. وهو مذهب أحمد وغيره من السلف، وهو الحق إن شاء الله تعالى -كما سبق بيانه فيما تقدم قريباً -.
[أصل صفة الصلاة (1/ 160)]
الصلاة في الثوب الواحد لمن لم يجد ثوبين
وقال له رجل: أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال: «أَوَ كلكم يجد ثوبين؟ !
».
وقال النووي: ومعنى الحديث: أن الثوبين لا يقدر عليهما كل واحد، فلو وجبا؛ لعجز من لا يقدر عليهما عن الصلاة، وفي ذلك حرج، وقد قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في ثوب واحد؛ ففي وقت كان لعدم ثوب آخر، وفي وقت -كان مع وجوده- لبيان الجواز؛ كما قال جابر: ليراني الجهال.
وإلا؛ فالثوبان أفضل؛ لما سبق. انتهى.
وقال أبو زرعة في «طرح التثريب» «2/ 239» : «واستُدل به على أن الصلاة في ثوبين أفضل لمن قدر على ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن المعنى في ذلك ضِيْقُ الحال، وعجز بعض الناس عن ثوبين؛ فدلَّ على أن الأكمل ثوبان؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم؛ فأوسعوا. ولا خلاف في ذلك - كما صرح به القاضي عياض وغيره -» .
«فائدة» : قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «الترمذي» «2/ 168 - 169» - بعد ذكر هذا الحديث، وحديث جابر المتقدم -:«وقد فرَّع الفقهاء هنا فروعاً كثيرة، وتجد العلماء ينكرون على من يصلي في بعض ثيابه ويدع بعضها، وخصوصاً من يصلي مكشوف الرأس؛ يزعمون الكراهة! ولا دليل لهم على هذا. ومن البديهي أن من يصلي في ثوب واحد - يشتمل به أو يتزر -؛ لا يكون على رأسه عمامة، ولم يرد أي حديث - فيما نعلم - يدل على كراهة الصلاة مكشوف الرأس» .
قلت: ذكر الشعراني في «كشف الغمة» «1/ 70» : وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بستر الرأس في الصلاة بالعمامة أو القلنسوة، وينهى عن كشف الرأس في الصلاة، ويقول:«إذا أتيتم المساجد؛ فأتوها معصّبين» . والعصابة هي: العمامة. اهـ.
وهذه أخبار غريبة لم نجد لها أصلاً في شيء من الكتب التي عندنا! وكتاب الشعراني هذا مليء بمثل هذه الأخبار الغريبة، وبالأحاديث الضعيفة الواهية؛ فقد جمع فيه ما صح وما لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال في سيرته صلى الله عليه وسلم! لكن ما ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر من نفي كراهة كشف الرأس في الصلاة، واستدلاله
بجواز الصلاة في الثوب الواحد؛ غير سديد؛ وذلك لأنا قد بَيَّنَّا - فيما سبق - أن الصلاة في الثوبين أفضل لمن وجد ذلك، فمن لم يفعل وصلى في ثوب واحد؛ فقد ارتكب الكراهة، فحديث أبي هريرة يفيد جوازاً مرجوحاً بالشرط المذكور، فكذلك من صلى مكشوف الرأس وعنده ما يستره؛ فهو مكروه، ومن لا؛ فلا.
هذا يقال فيما إذا كانت الأخبار الواردة في الصلاة في الثوب الواحد تشمل حتى صلاة مكشوف الرأس كما يريد الشيخ المذكور أن يفهم ذلك منها. ونحن نخالفه في ذلك، ونزعم أن تلك الأحاديث لا تتعرض لكشف الرأس مطلقاً؛ بل لستر ما دونه من البدن؛ وذلك لأن المعهود من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعمم، أو يَتَقَلْنَسُ، وكذلك كان أصحابه، فلو أنه صلى الله عليه وسلم حينما صلى في الثوب الواحد صلى مكشوف الرأس؛ لذكر ذلك من روى صلاته تلك، لا سيما وهم جمع غفير - كما سبق - فعدم روايتهم لذلك دليل على أنه صلى صلاته المعتادة؛ إلا فيما ذكروه من اقتصاره صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد لبدنه.
ومثل هذا الأمر لا يقال فيه: إن الأصل العدم، فمن ادعى الثبوت؛ فعليه الإثبات! لأننا بيَّنا أن المعتاد منه صلى الله عليه وسلم ستر الرأس؛ فالأصل هنا ثابت، فمن ادعى خلافه؛ فعليه الدليل ولو كان نافياً، وليس مَن نفى لا يطالب بالدليل دائماً - كما هو مقرر في موضعه -، فثبت بذلك أن هديه صلى الله عليه وسلم الصلاةُ مستورَ الرأس.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
فأقل ما يستفاد من مجموع الفعل والأمر الاستحباب، وعكسه الكراهة، ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بالصلاة في النعلين مخالفةً لليهود - كما سبق في محله -، فالقياس، وعموم النصوص الناهية عن التشبه بالكفار - لا سيما في عبادتهم -، كل ذلك يقتضي كراهة الصلاة حاسر الرأس؛ لأن ذلك من التشبّه بالنصارى حينما يقومون في عبادتهم حاسرين - كما هو مشهور عنهم -، فهل المخالفة في الأرجل أقوى، أم في الرؤوس؟ ! هذا ما ظهر لي في هذا المقام. والله تعالى هو الموفق.
[أصل صفة الصلاة (1/ 162)]