الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأَولى التمسك بما درج عليه السالفون من الصحابة والتابعين، فإنهم استدلوا بأكثر العمومات المخصوصة من غير نكير، بل لو صح ما ذكروه - لانسد باب التمسك باللفظ العام؛ إذ ما مِنْ عامٍّ في حكمٍ شرعيٍّ إلا وهو مخصوص، وعلى ما قالوه يمتنع الاستدلال به
(1)
.
قال:
(السادسة: يُستدل بالعامِّ ما لم يظهر مخصِّصٌ. وابن سريج أوجب طلبه أوَّلًا)
.
هل يجوز أن يُستدل بالعام قبل البحث عن المخصِّص؟ فيه مذهبان:
أحدهما: الجواز. وهو قول الصيرفي وإليه مال الإمام
(2)
.
والثاني: المنع. وهو قول أبي العباس بن سريج
(3)
.
(1)
انظر حكم الاحتجاج بالعام بعد التخصيص في: المحصول 1/ ق 3/ 22، الحاصل 1/ 532، التحصيل 1/ 370، نهاية الوصول 4/ 1484، نهاية السول 2/ 400، السراج الوهاج 1/ 531، الإحكام 2/ 232، المحلي على الجمع 2/ 6، البحر المحيط 4/ 357، المعتمد 1/ 265، الوصول إلى الأصول 1/ 233، شرح تنقيح الفصول ص 227، بيان المختصر 2/ 141، تيسير التحرير 1/ 313، فواتح الرحموت 1/ 308، شرح الكوكب 3/ 161، نزهة الخاطر 2/ 150.
(2)
انظر: المحصول 1/ ق 3/ 29 - 32، اللمع ص 28، واختاره صاحب الحاصل 1/ 534، وصاحب التحصيل 1/ 372، وهو مذهب جمهور الحنفية والحنابلة، ورواية عن أحمد رضي الله عنه، وهو مذهب ابن حزم رحمه الله تعالى، وجميع الظاهرية. انظر: العدة 2/ 525 التمهيد 2/ 65، نزهة الخاطر 2/ 157، شرح الكوكب 3/ 456، أصول السرخسي 1/ 132، فواتح الرحموت 1/ 267، الإحكام لابن حزم 3/ 361.
(3)
وجمهور الشافعية منهم: أبو سعيد الإصطخري، وأبو إسحاق المروزي، وأبو إسحاق الشيرازي، والجويني، والغزالي، وصفي الدين الهندي، وغيرهم، وهو مذهب =
واعلم أن إثبات الخلاف في هذه المسألة على هذا الوجه هو إيراد الإمام وجمهور أتباعه. وادَّعى جمع من المتأخرين أن ذلك غير معروف بل باطل، محتجين بأن الذي قاله الغزالي فَمَنْ بَعْدَه كالآمدي وغيرِه: أنه لا يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصِّص إجماعًا
(1)
. ثم اختلفوا:
فمِنْ قائل: يبحث إلى أن يَغْلب على الظن عدمُ المخصِّص
(2)
.
= المالكية، وبعض الحنفية كابن الهمام، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب والمجد ابن تيمية، ورواية عن أحمد رضي الله عنه، بل قال المجد:"ألفاظ أحمد كالصريحة بالرواية التي نصرها أبو الخطاب، لكن إنما هو فيمن لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم". المسودة ص 110. انظر: اللمع ص 28، شرح اللمع 1/ 326، التبصرة ص 119، البرهان 1/ 406، المستصفى 3/ 370 (2/ 157)، نهاية الوصول 4/ 1499، المحلي على الجمع 2/ 8، سلاسل الذهب ص 220، الإحكام 3/ 50، إحكام الفصول ص 242، نفائس الأصول 5/ 1961، بيان المختصر 2/ 412، تيسير التحرير 1/ 230، المسودة ص 11، 109، شرح الكوكب 3/ 456، إرشاد الفحول ص 139.
(1)
انظر: المستصفى 3/ 370 (2/ 157)، الإحكام 3/ 50، وكذا حكاه ابن الحاجب. انظر: بيان المختصر 2/ 412، وأقر هذا الإجماع الكمال بن الهمام رحمه الله تعالى، واعتبر خلاف الصيرفي غير معتبر؛ لأنه كما قال إمام الحرمين: ليس هذا القول من مباحث العقلاء، بل صدر عن غباوة وعناد.
انظر: تيسير التحرير 1/ 230 - 231، وقد رد أمير بادشاه على الكمال في الشرح، وكذا الأنصاري في "الفواتح" 1/ 267.
(2)
وإليه ذهب ابن سريج، وإمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، وصفي الدين الهندي، وابن الحاجب، والكمال ابن الهمام، وأكثر الأصوليين.
ومِنْ قائل: لا يكفي الظن، ولا يُشْترط القطع، بل لا بد من اعتقادٍ جازم تسكن النفس إليه
(1)
.
ومِنْ قائل: لا بد من القطع
(2)
، وعليه القاضي. قال: ويحصل ذلك بتكرير النظر والبحث، واشتهار كلام الأئمة
(3)
.
قالوا: وليس خلاف الصيرفي إلا في اعتقادٍ عمومه قبل دخول وقت العمل به، وإذا ظهر مُخَصِّص تغير الاعتقاد. هكذا نقله عنه إمام الحرمين، ثم الآمدي وغيره
(4)
.
واشْتَهَرت هذه المقالةُ حتى تولَّعت الألسنُ: بأن هذا المكان من غَلَطات الإمام.
= انظر: المستصفى 3/ 373، 374، البرهان 1/ 407، 408، نهاية الوصول 4/ 1499، بيان المختصر 2/ 412، تيسير التحرير 1/ 231، الإحكام 3/ 51.
(1)
أي: لا بد من اعتقاد جازم بأن لا مخصِّص، وعلامة هذا الجزم سكون النفس إليه، سواء كان مصيبًا عند الله تعالى أو ليس مصيبًا. أما إذا كان يشعر بجواز دليل يشذ عنه، ويحيك في صدره إمكانه - فلا. انظر: المستصفى 3/ 371.
(2)
أي: من القطع بعدم المخصِّص في الواقع ونفس الأمر؛ لأن اعتقادَ الجزمِ من غير دليلٍ قاطعٍ سلامةُ قلبٍ وجهلٌ، بل العالم الكامل تشعر نفسه بالاحتمال حيث لا قاطع ولا تسكن نفسه إذ ذاك. انظر: المستصفى 3/ 371.
(3)
لأن المسألة التي طال خوض العلماء فيها، وكثر بحثهم عنها، يستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم وجود مخصِّص لو وجد، فهذا يفيد القطع بعدم الوجود. انظر: المستصفى 3/ 372، نهاية الوصول 4/ 1498 - 1499، تيسير التحرير 1/ 231.
(4)
انظر: البرهان 1/ 406، الإحكام 3/ 50.
وأنا أقول: قد سبق الإمامَ بهذا النقل الثقةُ الثبتُ الشيخُ أبو إسحاق الشيرازي فقال في "شرح اللمع" ما نصه: إذا وَرَدت هذه الألفاظ الموضوعة للعموم هل يجب اعتقاد عمومها (عند سماعها، والمبادرة إلى العمل بمقتضاها، أو يتوقف فيها؟ اختلف
(1)
أصحابنا، فقال أبو بكر الصيرفي: يجب اعتقاد عمومها)
(2)
في الحال (عند سماعها)
(3)
، والعمل بموجبها
(4)
. انتهى. وكذلك الأستاذ أبو إسحاق في "أصوله" الذي انتخبه والدي أيده الله، ولفظه: قيل: يلزم. وقيل: لا يلزم. ويُعرض على الأصول الممهدة
(5)
؛ لجواز أن يكون فيها ما يخصِّصه. وأفاد الأستاذ في هذه المسألة فائدةً جليلةً: وهي أن الخلاف ليس إلا فيما إذا ورد الخطاب العَامُّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا ورد في عهده وجبت المبادرة إلى الفعل على عمومه؛ لأن أصول الشريعة لم تكن متقررة
(6)
.
وقد بان لك بهذين النقلين أنَّ ما نقله الإمام غير مستنكر، وهو أولى وأوجه من القول بإيجاب اعتقاد العموم على جزمٍ، ثم حين ظهور المخصِّص
(1)
في (ت): "وقد اختلف". والمثبت موافق لما في "شرح اللمع".
(2)
سقطت من (ص).
(3)
سقطت من (غ)، و (ك).
(4)
انظر: شرح اللمع 1/ 326.
(5)
المراد بها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
(6)
انظر: تيسير التحرير 1/ 231، فواتح الرحموت 1/ 267، المحلي على الجمع 2/ 8، المسودة ص 110، البحر المحيط 4/ 53 - 58.
يتغير الاعتقاد، فإنه مذهب في غاية السقوط، لا وجه له، ولا حاصل تحته.
وقال إمام الحرمين: إنه عنده غيره معدود من مباحث العقلاء، ومضطرب العلماء. قال: وإنما هو قولٌ صَدَر عن غباوة، واستمرارٍ في عناد
(1)
. انتهى. وهذا بخلاف القولِ بالعمل بالعام ابتداءً، فإنه ذو وَجْهٍ ظاهرٍ وجيه.
قال: (لنا: لو وجب - لوجب طلبُ المجاز للتحرز عن الخطأ. واللازم منتف. قال: عارَضَ دلالتَه احتمالُ المخَصِّص. قلنا: الأصل يدفعه).
هذا دليل على ما اختاره من وجوب العمل بالعام ابتداءً، وتقريره: لو وجب طلب المخصِّص والبحثُ عنه قبل التمسك بالعام - لوجب طلبُ المجاز عند استعمال اللفظ في حقيقته. واللازمُ منتفٍ، فالملزومُ مثله.
أما وجه الملازمة - فلأن الطلب في الصورة الأولى إنما هو للاحتراز عن المفسدة، واحتمالِ ضررِ الخطأ، وهذا المعنى موجودٌ في الحقيقة.
وأما انتفاء اللازم - فظاهرٌ؛ إذ لم يزل
(2)
العلماء خلفًا عن سلف - على ممر الدهور وتعاقب الأزمنة - يحملون اللفظَ على حقيقته، من غير بحثٍ عن المجاز. ومنهم من ادعى الإجماعَ على أنَّه لا يجب طلب المجاز، ولكن فيه نظر، فقد نُقِلَ التفات ابنِ سريجٍ إلى
(1)
انظر: البرهان 1/ 406 - 407.
(2)
في (ت): "لم تزل".
وجوبه، وصَرَّح القرافي بأنَّ المسألتين على السواء
(1)
.
وعلى تقدير صحة الإِجماع فالفرقُ واضح؛ وذلك لأن احتمال وجودِ المخصِّص أقوى
(2)
؛ إذ ما من عام إلا وقد تطرق إليه التخصيص، كما قاله إمام الحرمين
(3)
. قال والدي فسح الله في مدته
(4)
: ويوضح هذا التفريق أن في العام دلالتين: إحديهما على أصل المعنى وهي نص، والأخرى على استغراق الأفراد وهي ظاهرة
(5)
. واحتمال المجاز حاصل في الأولى، وفي كل
(1)
أي: على السواء في الخلاف. وعبارته في نفائس الأصول 5/ 1961: "والمسألتان سواء، ولا يجوز الاعتماد على شيء من الحقائق إلا بعد الفحص عن المجاز، ولا شيء من النصوص إلا بعد الفحص عن الناسخ، ولا شيء من الأقيسة إلا بعد الفحص عن المانع من اعتبار ذلك القياس من الفوارق أو النصوص أو غيرها، بل جميع مدارك الشرع كذلك، لا يجوز التمسك بشيء منه إلا بعد بذل الجهد في نفي المُعَارض، وهل له مُعَارِض يُقَدَّم عليه أم لا؟ ".
(2)
أي: أقوى من احتمال وجود المجاز، فقياس العام على الحقيقة في عدم البحث عن المُعَارض - قياسٌ مع الفارق.
(3)
انظر: البرهان 1/ 411، وعبارته:". . . جميع الألفاظ المتعلقة بالأحكام من الكتاب والسنة يتطرق إليها الخصوص، وإن استوعب الطالب عمره مُكِبًا على الطلب الحثيث - فلا يطلع على عام شرعي لا يتطرق إليه الخصوص".
(4)
هكذا في جميع النسخ، ما عدا (ص)، وقد نبهت قبل هذا على أن ناسخ (ص) أو مَنْ نقل عنه تصرف في مثل هذا، واستبدله بـ:"رحمه الله" ومثل هذه العبارة تدل قطعًا على أن التاج رحمه الله تعالى أكمل شرح والده في حياته.
(5)
أي: دلالة اللفظ على أنه عام ليس بخاص قطعية، ودلالته على أنه مستغرق لأفراد عمومه ظاهرة ظنية، فالعام قطعي الحقيقة، ظني الاستغراق.
حقيقة يدل اللفظ فيها على معنى مُفْرد، والدلالة الإفرادية عليه قطعية؛ فلذلك لم يطلب المجاز
(1)
. واحتمال التخصيص إنما هو في الثانية
(2)
. قال: ومن تأمل هذا الكلام عَلِم أنَّ إيرادَ الحقيقة على العام ساقط؛ لأن في العام حقيقة ومجازًا يشارك
(3)
فيهما غيرَه لا يُتَوقف فيهما، وفيه تخصيص ينفرد به لا يوجد مثله في الحقيقة
(4)
. قال: وهذا نفيسٌ جدًا.
قلت: ونظيره على العكس قولنا: "لا رجلَ" بالفتح نَصٌّ في الاستغراق، وإنْ كان يحتمل
(5)
المجاز؛ لإرادة: لا غلامَ
(1)
أي: الدلالة الأولى الإفرادية: التي هي دلالة اللفظ على أصل معنى العموم (أي: كونه عامًا ليس بخاص) - قطعية، ولذلك لا تحتمل هذه الدلالة المجاز، فلا يُطلب ولا يُبحث عنه.
(2)
أي: الدلالة الثانية للعام: وهي الدلالة على استغراقه لأفراده كلها - ظاهرة ظنية تحتمل المجاز، أي: تحتمل أن تكون لغير معنى الاستغراق فلا تشمل جميع الأفراد، ومن ثَمَّ يدخلها التخصيص.
(3)
في (ص): "شارك".
(4)
المعنى: أن قياس العام على الحقيقة غير صحيح؛ لأن شرط القياس التساوي في العلة، والعام لا يساوي الحقيقة، وبيان ذلك أن العام فيه حقيقة ومجاز كما سبق بيانه، وهو من هذه الجهة كغيره من الألفاظ المشتملة على الحقيقة والمجاز، ولكن الذي ينفرد به العام ولا يوجد في غيره من الألفاظ هو تخصيصه ببعض أفراده، لأن غير العام لا يدل على أفرادٍ متعددة بالشمول، وعلى هذا فإلحاق حكم العام في العمل به قبل البحث عن المخصص، بحكم الحقيقة في العمل بها قبل البحث عن المجاز - غير سديد؛ لاختلافهما في الوصف.
(5)
في (ص): "محتمل".
رجلٍ
(1)
.
ولا رجلٌ: بالرفع ظاهر
(2)
في الاستغراق لا نصٌّ. فهذا نظير العام، والأول نظير الحقيقة
(3)
.
وإنما قلنا: على العكس؛ لأن نصية الاستغراق في الأول لا في الثاني، فلا رجلَ بالفتح: عمومه نَصٌّ مقطوعٌ به، وحقيقته ظاهرة، عكس العام.
ولا رجلٌ بالرفع: عمومه ظاهر، وحقيقته محتملة للمجاز، كغيرها من الحقائق. (والله الموفق)
(4)
.
قوله: "قال عارض" أي: احتج ابن سُرَيجٍ على مذهبه: بأنَّ العام وإنْ
(1)
فالقطعية هنا في الاستغراق، والظنية في الحقيقة، عكس العام، فقوله: لا رجل، يحتمل أن يريد بحقيقة الرجل المجاز، وهو: غلام رجل.
(2)
في (ت)، و (ص):"ظاهرة".
(3)
أي: قوله: "لا رجلَ" بالفتح نظير الحقيقة في احتمالِ الماهيةِ المجاز. وإنما كان قوله: "لا رجلَ" بالفتح نصًا في الاستغراق؛ لأن "لا" في حالة الفتح تتعين لنفي الجنس، ونفيه في العرف واللغة لا يكون إلا بنفي جميع الأفراد. وأما في حالة الرفع "لا رجلٌ" فإن "لا" تعمل عمل ليس، ويحتمل أن تكون لنفي الجنس، وأن تكون لنفي الوحدة؛ لأن النكرة المنونة تدل على الجنس مع الوحدة، فالنفي فيه يحتمل أن يتوجه إلى صفة الوحدة فلا ينتفي الجنس، بل يتحقق في ضمن الكثرة، فيصح: لا فيها رجلٌ بل رجلان أو رجال. ويحتمل أن يتوجه إلى الجنس فيفيد العموم. وهذا الاحتمال هو الأرجح. انظر: فتح الغفار 1/ 100، فواتح الرحموت 1/ 260، المحلي على الجمع 1/ 414، شرح الكوكب 3/ 138، شرح التنقيح ص 182، نفائس الأصول 4/ 1796، البحر المحيط 4/ 149 - 154، نشر البنود 1/ 217.
(4)
سقطت من (ص).