الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث من المخصصات المنفصلة: الدليل السمعي
.
وفيه مسائل:
الأولى: في بناء العام على الخاص
. اعلم أنه إذا ورد عامٌّ وخاصٌّ يدل كلُّ واحدٍ منهما على خلاف ما يدل عليه الآخر - فرَأْيُ الشافعي رضي الله عنه أن الخاصَّ يخصِّص العام، سواء عُلم أن الخاصَّ متأخرٌ عن العام أم لم يُعلم
(1)
(2)
، أم علم تأخره عن الخاص
(3)
. وبه قال أبو الحسين، واختاره الإمام وأتباعه منهم المصنف، واختاره ابن الحاجب
(4)
.
وذهب أبو حنيفة إلى الأخذ بالمتأخِّر سواء كان هو الخاص أم العام. فعلى هذا إنْ تأخر الخاص نَسَخ من العام بقدر ما دلَّ
(5)
عليه
(6)
، وإن تأخَّر
(1)
في (غ): "نعلمه".
(2)
يستثنى من هذا صورة واحدة، وهي إذا تأخر الخاص عن العام بعد حضور وقت العمل به - فإنه يكون نسخًا بالاتفاق، ولا يكون تخصيصًا؛ لأن تأخير البيان عن وقت العمل غير جائزٍ قطعًا. انظر: البحر المحيط 4/ 540، التلخيص 2/ 208.
(3)
هذا هو قول الجمهور من الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وبعض الحنفية، وابن حزم من الظاهرية. انظر: اللمع ص 35، شرح اللمع 1/ 363، إحكام الفصول ص 255، العضد على ابن الحاجب 2/ 147، شرح الكوكب 3/ 382، فواتح الرحموت 1/ 345، تيسير التحرير 1/ 272، كشف الأسرار 3/ 109، الأحكام لابن حزم 1/ 162.
(4)
انظر: المعتمد 1/ 256، المحصول 1/ ق 3/ 161، التحصيل 1/ 397، الحاصل 1/ 568، نهاية الوصول 4/ 1644 - 1650، العضد على ابن الحاجب 2/ 147.
(5)
في (ص): "يدل".
(6)
أما إذا تأخر الخاص وكان موصولًا بالعام - فإنه يخصِّصه. أو تأخر الخاص وكان متراخيًا عن العام الذي خُصَّ بمقارنٍ قبل ذلك - فإنه يخصِّصه أيضًا عندهم. انظر: كشف الأسرار 3/ 109.
العامُّ نَسَخ الخاص، وإن جُهِلَ وَجَب التوقفُ
(1)
، إلا أن يترجح أحدهما على الآخر بمرجِّح
(2)
(3)
.
وذهب ابن العارض إلى التوقف في المسألة
(4)
. وابن العارض هذا بالعين المهملة بعدها ألف ثم راء ثم ضاد معجمة
(5)
، واسمه الحسين
(6)
بن عيسى، معتزلي قدري، له كتاب في أصول الفقه سماه "النكت"،
(1)
أي: في مَوْرد الخاص؛ لأنه هو محل التعارض، أما ما سواه من أفراد العام فلا توقف فيها.
(2)
انظر: فتح الغفار 1/ 87، تيسير التحرير 1/ 271، فواتح الرحموت 1/ 345، كشف الأسرار 3/ 109، 1/ 291.
(3)
قال السرخسي مبينًا منشأ الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما: "وإنما يُبْتنى هذا الخلاف على الأصل الذي قلنا: إن مطلق العام عندنا يوجب الحكم فيما يتناوله قطعًا كالخاص، وعند الشافعي يوجب الحكم على احتمال الخصوص بمنزلة العام الذي ثبت خصوصه بالدليل، فيكون دليل الخصوص على مذهبه فيهما بيان التفسير لا بيان التغيير؛ فيصح موصولًا ومفصولًا. وعندنا لما كان العام المطلق موجبًا للحكم قطعًا - فدليل الخصوص فيه يكون مغيِّرًا لهذا الحكم، فإن العام الذي دخله خصوص لا يكون حكمه عندنا مثل حكم العام الذي لم يدخله خصوص، وبيان التغيير إنما يكون موصولًا لا مفصولًا". أصول السرخسي 2/ 29 - 30، وانظر: أصول البزدوي مع كشف الأسرار 3/ 109.
(4)
وإليه ذهب بعض أهل الظاهر، والباقلاني، والدقاق. انظر: شرح اللمع 1/ 363، اللمع ص 35، التبصرة ص 151، التلخيص 2/ 109 - 110، 147، إحكام الفصول ص 256، نهاية الوصول 4/ 1650.
(5)
هكذا ذكره الإمام في المحصول 1/ ق 3/ 165، وصاحب التحصيل 1/ 398، وصفي الدين الهندي في نهاية الوصول 4/ 1650، والزركشي في البحر المحيط 4/ 541.
(6)
في (ت)، و (ك)، و (غ):"الحسن".
ورأيتُ عبارته تشابه عبارة "المحصول"، فعلمتُ أن الإمام كان كثير المراجعة له. وقد انتخب ابن الصلاح هذا الكتاب
(1)
، ووقفت عليه بخط ابن الصلاح
(2)
، وكتبت منه فوائد.
وقد وَهِم
(3)
القرافي فظن أنَّ ابن العارض وقع في "المحصول" مُصَحَّفًا
(4)
. قال: "وإنما هو ابن القاصّ، بالقاف والصاد المهملة المشددة، وهو الشيخ أبو العباس أحد أئمة أصحاب الشافعي". هذا كلام القرافي
(5)
، وهو وَهَمٌ
(6)
(7)
.
(1)
أي: اختصره وانتقى أجوده. وفي اللسان 1/ 751 - 752، مادة (نخب):"انتخَبَ الشيءَ: اختاره. والنُّخْبة: ما اختاره منه. ونُخْبة القوم ونُخَبَتُهم: خيارهم. قال الأصمعي: يقال هم نُخَبة القوم، بضم النون وفتح الخاء. قال أبو منصور وغيره: يقال نُخْبة، بإسكان الخاء، واللغة الجيدة ما اختاره الأصمعي. . . والانتخاب: الاختيار والانتقاء".
(2)
في هذا فائدة مهمة في التحقيق، وهو أنه من المهم معرفة خطوط العلماء؛ ليُتَحقق من صحة نسبة أن هذا الكتاب بخط يده.
(3)
أي: غَلط. وفي اللسان 12/ 643، مادة (وهم):"وَهِمْتُ في كذا وكذا، أي: غَلِطتُ. ثعلب: وأوهمتُ الشيءَ تركتُه كلَّه أُوهِمُ. . . الأصمعي: أَوْهَمَ إذا أسقط، وَوَهِمَ إذا غَلِطَ. وفي الحديث: أنه سجد للوَهَمِ وهو جالس، أي: للغلط".
(4)
في المصباح 1/ 358، مادة (صحف):"التصحيف: تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المراد من الموضع، وأصله الخطأ، يقال: صَحَّفه فتصحف، أي: غَيَّره فتغيَّر حتى التبس".
(5)
انظر: نفائس الأصول 5/ 2123
(6)
في المصباح 2/ 352، مادة (وهم):"وَهِم في الحساب يَوْهم وَهَما: مثل غَلِط يَغْلَط غَلَطًا، وزنًا ومعنى".
(7)
وتبعه على هذا الوَهَم محقِّق "المحصول" الدكتور طه العلواني. انظر: المحصول 1/ ق 3/ 165.
وحجتنا: أن العام والخاص قد اجتمعا، فإما أن يُعمل بهما، أوْ لا يُعمل بواحدٍ منهما، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو بالعكس. والأقسام الثلاثة الأُول باطلة؛ فتعين
(1)
الرابع.
أما الأول والثاني - فلاستحالة الجمع بين النقيضين، ولاستحالة الخلو عنهما
(2)
. ويزداد الثاني أنه يستلزم ترك الدليلين من غير ضرورة
(3)
وهو باطل.
وأما الثالث - فلأَنه يستلزم إبطال أحدهما بالكلية، بخلاف عكسه فإنه لا يستلزم إبطال العام بالكلية بل من وجه؛ فكان العمل به متعيَّنًا؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إبطال أحدهما بالكلية.
واحتج أصحابنا أيضًا
(4)
بأن الخاص أقوى دلالةً على ما يتناوله مِنَ العام.
واحتج أبو حنيفة بما رُوي: أن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم"
(5)
.
(1)
في (ت): "فيتعين".
(2)
فالعام والخاص المتعارضان نقيضان، لا يجتمعان، ولا يرتفعان.
(3)
أي: من غير أن يتعذر الجمع بين الدليلين من كل الوجوه؛ لأنه إذا تعذر الجمع بين الدليلين من كل الوجوه ولم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لزم ترك الدليلين.
(4)
سقطت من (ص).
(5)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 294، في كتاب الصيام، باب ما جاء في الصيام في السفر، رقم 21، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيد، ثم أفطر، فأفطر =
وأجيب: بأنه يجب حمل الأحدث على غير صورة النزاع، جمعًا بين الدليلين. والله أعلم.
ولا يخفى عليك أن الخاص المتأخر إنما يكون مخصِّصًا للعام المتقدم إذا ورد وَقْتَ العمل بالعام أو قبله، أما إذا ورد بعده - فكذلك عند مَنْ يُجَوِّز
= الناس. وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأخرجه مسلم 2/ 784 - 785، في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان، رقم 1113، ولفظه: "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَّبِعون الأحدثَ فالأحدثَ من أمره". وفي رواية أخرى روى مسلم هذه المقولة عن الزهري: "قال الزهري: وكان الفطرُ آخِرَ الأمرين، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخِرِ فالآخِر". وفي رواية أخرى:"قال ابن شهاب: فكانوا يتبعون الأحدثَ فالأحدثَ مِنْ أمره، ويرونه الناسِخَ المُحْكَم". وروى مسلم عن سفيان رضي الله عنه قال: "لا أدري مِنْ قول مَنْ هو؟ يعني: وكان يؤخذ بالآخِرِ مِنْ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأخرج البخاري 2/ 686، في الصوم، باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر، رقم 1842، حديث ابن عباس رضي الله عنهما من غير هذه الزيادة الأخيرة. ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 4/ 181: قال الزهري: "وإنما يُؤخذ بالآخِرِ فالآخِرِ مِنْ أمره صلى الله عليه وسلم". وهذه الزيادة التي في آخره مِنْ قول الزهري، وقعت مُدْرَجَةً عند مسلم من طريق الليث عن الزهري، ولفظه: "حتى بلغ الكديد أفطر، قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. وأخرجه من طريق سفيان عن الزهري قال مثله. قال سفيان: لا أدرى مِنْ قول مَن هو؟ ثم أخرجه من طريق مَعْمر ومن طريق يونس كلاهما عن الزهري، وبَيَّنَا أنه من قول الزهري، وبذلك جزم البخاري في الجهاد، وظاهره أن الزهري ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ، ولم يُوافق على ذلك، كما سيأتي قريبًا. اهـ. وانظر: المصنف لعبد الرزاق 4/ 269، رقم الحديث 7762، شرح الزرقاني على الموطأ 2/ 167.