الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التسليم
(1)
مثل: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}
(2)
(3)
، وهذا قد تقدم عن إمام الحرمين.
وقد وصلت الأقسام بزيادات أبي عاصم وإمام الحرمين والقسم الذي ذكره الهندي إلى اثنين وعشرين
(4)
.
قال:
(الثانية: أنها حقيقة في الوجوب مجاز في البواقي
. وقال أبو هاشم: إنه للندب. وقيل: للإباحة. وقيل: مشترك بين الوجوب والندب. وقيل: للقدر المشترك بينهما. وقيل: لأحدهما ولا نعرفه، وهو قول الحجة. وقيل: مشترك بين الثلاثة. وقيل: بين الخمسة).
أجمعوا على أن صيغة "افعل" ليست حقيقةً في جميع المعاني التي أوردناها، وإنما الخلاف في بعضها، وقد اختلفوا فيه على مذاهب:
أحدها: أنها
(5)
حقيقة في الوجوب فقط، مجاز في البواقي. وهو المحكي عن الشافعي رضي الله عنه، وقال إمام الحرمين في "التلخيص" المختصر من التقريب
(1)
وسماه البعض: الاستبسال. انظر: البحر المحيط 3/ 282.
(2)
سورة طه: الآية 72.
(3)
انظر: شرح الكوكب 3/ 32.
(4)
انظر: معاني صيغة "افعل" في: المحصول 1/ ق 2/ 57، التحصيل 1/ 272، الحاصل 1/ 398 - 402، نهاية الوصول 3/ 846، نهاية السول 2/ 245، السراج الوهاج 1/ 445، البرهان 1/ 314 ، المحلي على جمع الجوامع 1/ 372 ، البحر المحيط 3/ 275، شرح الكوكب 3/ 17، كشف الأسرار 1/ 107، فواتح الرحموت 1/ 372.
(5)
في (ص): "أنه". فبالتأنيث على تقدير: صيغة افعل، وبالتذكير على تقدير: لفظ افعل.
والإرشاد: أما الشافعي فقد ادعى كلٌ مِنْ أهل المذاهب أنه على وِفَاقه، وتمسكوا بعبارات متفرقة له في كتبه، حتى اعتصم القاضي بألفاظٍ له من كتبه، واستنبط منها مصيره إلى الوقف. وهذا عدول عن سَنَن الإنصاف، فإن الظاهر والمأثور من مذهبه حمل مطلق الأمر على الوجوب
(1)
. انتهى. ونقله الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" وابن برهان في "الوجيز" عن الفقهاء
(2)
، واختاره الإمام وأتباعه
(3)
منهم المصنف. قال الشيخ أبو إسحاق: "وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على أصحاب أبي إسحاق يعني المروزي
(4)
ببغداد"
(5)
. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب (في أنَّ اقتضاءها الوجوب
(6)
هو بوضع اللغة أم بالشرع؟ على مذهبين)
(7)
، وصحح الشيخ أبو إسحاق أنه بوضع اللغة
(8)
، ونقله إمام
(1)
انظر: التلخيص 1/ 264.
(2)
انظر: شرح اللمع 1/ 206، الوصول إلى الأصول 1/ 133 - 134.
(3)
انظر: المحصول 1/ ق 2/ 66، التحصيل 1/ 274، الحاصل 1/ 404، نهاية الوصول 3/ 914.
(4)
هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المَرْوَزِيّ، صاحب أبي العبَّاس بن سُرَيج، وأكبر تلامذته، شرح المذهب ولَّخصه، وانتهت إليه رئاسة المذهب. أقام ببغداد دهرًا طويلًا يدرِّس ويفتي ثم انتقل في آخر عمره إلى مصر، فأدركه أجله بها سنة 340 هـ، ودفن عند قبر الشافعي رضي الله عنه. انظر: سير 15/ 429، تاريخ بغداد 6/ 11.
(5)
انظر: شرح اللمع 1/ 206.
(6)
في (غ)، و (ك):"للوجوب".
(7)
سقطت من (ت).
(8)
انظر: شرح اللمع 1/ 206.
الحرمين عن الشافعي
(1)
.
والثاني
(2)
: أنها حقيقة في الندب. قال الغزالي: "ومنهم مَنْ نقله عن الشافعي"
(3)
، وقد نقله في الكتاب عن أبي، هاشم، والغزالي نقله عن كثير من المتكلمين دهماؤهم المعتزلة
(4)
، أي: دهماء الكثير من المتكلمين، وجماعة من الفقهاء
(5)
. قال الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" الذي يَحْكى الفقهاء عن المعتزلة أنها تقتضي الندب، وليس هذا مذهبهم على الإطلاق، بل ذلك بواسطة أن الأمر عندهم يقتضي الإرادة، والحكيم
(6)
لا يريد إلا الحسن، والحسن ينقسم إلى واجب ومندوب، فيحمل على المحقَّق من الاسم وهو الندب. فليست الصيغة عندهم مقتضية للندب إلا على هذا التقدير
(7)
(8)
.
(1)
انظر: البرهان 1/ 216، نهاية السول 2/ 251، فواتح الرحموت 1/ 377.
(2)
في (ت) و (غ)، و (ك):"الثاني".
(3)
انظر: المستصفى 3/ 140.
(4)
في اللسان 12/ 212، مادة (دهم): ودهماء الناس: جماعتهم وكثرتهم. اهـ. فأكثر المتكلمين هم المعتزلة.
(5)
عبارته في المستصفى 3/ 140: "وقد ذهب إليه كثير من المتكلمين - وهم المعتزلة - وجماعة من الفقهاء".
(6)
في (ص): "والحاكم". وهو خطأ. ومرادهم بالحكيم هو الله عز وجل، كما هو مُصَرَّح به في شرح اللمع.
(7)
انظر: شرح اللمع 1/ 206، والنقل بتصرف من الشارح، كما هو حال كثير من نقولاته.
(8)
أي: على تقدير أن الأمر يقتضي الإرادة، والحكيم لا يريد إلا الحسن. أما أن الصيغة بمجردها تقتضي عندهم الندب فليس كذلك، ولذلك قالوا: إنْ صدر الأمر من غير حكيم لم يقتضي أكثر من الإرادة. انظر: شرح اللمع 1/ 206، المعتمد 1/ 51.
قلت: ويلزمهم أو أكثرهم -على هذا التقدير - القولُ بالإباحة؛ وإن المباح عند أكثرهم حسن، كما سبق في أوائل الكتاب.
الثالث: أنها حقيقة في الإباحة التي هي أدنى المراتب.
الرابع: أنها مشتركة بالاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب. وهو المَحْكي عن المرتضى من الشيعة، وقال الغزالي:"صَرَّح الشافعي في كتاب "أحكام القرآن" بتردد الأمر بين الوجوب والندب"
(1)
.
الخامس: أنها حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب، فيكون متواطئًا
(2)
. وهو رأي الإمام أبي منصور الماتريدي
(3)
(4)
.
(1)
المستصفى 3/ 140.
(2)
فصيغة افعل حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب، فهي تدل على الطلب، والطلب له فردان: الوجوب والندب. فالطلب كلي متواطئ يدل على كلا الفردين دلالة متساوية، كما هو الحال في الكلي المتواطئ. والفرق بين هذا القول والذي قبله أن صيغة "افعل" هنا موضوعة للطلب لا لخصوص الوجوب والندب، وإنما الوجوب والندب فردان للطلب، فاللفظ يدل عليهما حقيقة من حيث كونهما طلبًا، لا من حيث كون كل واحد واجبًا أو مندوبًا، فهذا هو الاشتراك المعنوي وهو الذي يعبر عنه بالكلي المتواطئ، بخلاف الاشتراك للفظي فهو يدل على الواجب من حيث كونه واجبًا، وعلى الندب من حيث كونه ندبًا، فالوجوب والندب موضوعان حقيقة لصيغة "افعل". وانظر: شرح المحلي مع حاشية البناني 1/ 376.
(3)
وعزي أيضًا إلى مشايخ سمرقند من الحنفية. انظر: تيسير التحرير 1/ 341، فواتح الرحموت 1/ 373.
(4)
هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريديّ - نسبة إلى ماتُرِيد مَحَلَّة بسمرقند - الحنفيّ، كان من كبار العلماء. قال أبو الحسنات اللكنوي رحمه الله: "صنف =
السادس: حقيقه إما في الوجوب، وإما في الندب، وإما فيهما جميعًا بالاشتراك اللفظي، لكنا لا ندري ما هو الواقع من هذه الأقسام الثلاثة، ويُعْرف أن لا رابع وهذا محكي عن طائفةٍ من الواقفية كالشيخ والقاضي
(1)
، واختاره الغزالي والآمدي
(2)
.
هذا هو تحرير هذا المذهب، وقول المصنف في حكايته:"وقيل: لأحدهما ولا نعرفه" غير مرضي لوجهين:
أحدهما: تصريحه بتردد هذا المذهب بين شيئين، وليس كذلك، بل بين ثلاثة كما سقناه.
وثانيهما: أنه على تقدير صحة هذا، بأن يكون بعض الناس ذهب إلى تردده بين شيئين، فليس قولَ الغزالي، إنما اختار الغزالي ما أوردناه، وهذه عبارة المستصفى: وقد ذهب ذاهبون إلى أن وضعه للوجوب. وقال قوم: بل للندب. وقال قوم: يتوقف فيه. ثم منهم من قال: هو مشترك كلفظ
= التصانيف الجليلة، وردَّ أكاذيب أقوال أصحاب العقائد الباطلة. له كتاب التوحيد، وكتاب المقالات، وكتاب أوهام المعتزلة. . . وغير ذلك. مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة". انظر: الجواهر المضية 3/ 360، الفوائد البهية ص 195.
(1)
عبارة القاضي كما في التلخيص 1/ 261 ، 262: وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس نحو قول القائل: "افعل" فمترددة بين الدلالة على الوجوب والندب والإباحة والتهديد، فيتوقف فيها حتى يثبت بقيود المقال أو قرائن الحال تخصصها ببعض المقتضيات، فهذا ما نرتضيه من المذاهب. اهـ. وانظر: البحر المحيط 3/ 291 - 293، نهاية السول 2/ 253.
(2)
انظر: المستصفى 1/ 423، نهاية السول 2/ 252، الإحكام 2/ 145.
العين. ومنهم من قال: لا ندري أيضًا أنه مشترك أو وضع لأحدهما، واسْتُعْمل في الثاني مجازًا. والمختار أنه يُتوقف فيه
(1)
. انتهى.
وقد حكى الشيخ صفي الدين
(2)
الهندي عن الشيخ والقاضي وإمام الحرمين والغزالي: التوقفَ في أنه حقيقة في الوجوب فقط، أو الندب فقط، أو فيهما بالاشتراك اللفظي، أو المعنوي
(3)
(4)
. وهذا مغاير لهذا الذي سقناه عن الغزالي لتردده بين أربعة لا ثلاثة، والذي في المستصفى ما رأيته، (وأما الشيخ والقاضي)
(5)
فقد ذكرنا النقل عنهما في أول هذا الفصل من كلام إمام الحرمين، وأما إمام الحرمين فالذي صرح باختياره ما نصه: "مَنْ أنكر أن العرب ما فصلت بين قول القائل: افعل، وبين قوله: لا تفعل - فليس من التحقيق في شيء؛ فإنا على اضطرار نَعْلم الفصل في ذلك
(6)
، كما نعلم الفصل بين قول القائل: فعل، وبين قوله: ما فعل، ولا معنى لبسط ذلك مع وضوحه. (فإذا سقط هذا)
(7)
(8)
رَدَدْنا القول إلى الإباحة التي هي تخييرٌ، ولا اقتضاءَ فيها ولا طلب،
(1)
انظر: المستصفى 1/ 423.
(2)
لم ترد "صفي الدين" في (ص).
(3)
قوله: "أو المعنوي" أي: هو حقيقة في الطلب، كما سبق بيانه.
(4)
انظر: نهاية الوصول 3/ 856.
(5)
في (ت): "وأما القاضي والشيخ".
(6)
أي: بين افعل، ولا تفعل.
(7)
في (غ): "فإذ أسقطنا هذا".
(8)
أي: سقط عدم الفرق.
(وقلنا)
(1)
: لا شك في فَصْلِ العرب بين قول من يقول: لا حرج عليك فعلتَ أو تركتَ، وبين قوله: افعل؛ فإن الصيغة الأخيرة مقتضاها طلب لا محالة، وليس في الإباحة من الطلب شيء. فقد لاح سقوط الإباحة عن متضمَّن الصيغة، ولم يبق إلا الندب، والندب من ضرورةِ معناه التخييرُ في الترك، وليس في قول القائل: افعل - تخييرٌ في الترك أصلًا.
وقد تعين الآن أن نبوح بالغرض الحق، ونقول:"افعل" طلبٌ محضٌ لا مساغ له لتقدير الترك، فهذا مقتضى اللفظ المجرد عن القرائن.
فإن قيل: فهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه وأتباعه، وهو المصير إلى اقتضاء اللفظ إيجابًا.
قلنا: ليس كذلك؛ فإن الوجوب عندنا لا يعقل دون التقييد بالوعيد على الترك، وليس ذلك مقتضى تمحيض الطلب. فإذًا الصيغة لتمحيض الطلب، والوجوب مستدرك
(2)
من الوعيد
(3)
. هذا لفظه ثم قال: "وأنا أبني على منتهى الكلام شيئًا يُقَرِّبُ ما اخترتُه من مذهب الشافعي، فأقول: ثبت في موضوع الشرع أن التمحض
(4)
في الطلب مُتَوَعَّد
(5)
على تركه، وكلما يكون كذلك فلا يكون إلا واجبًا"
(6)
انتهى.
(1)
سقطت من (ت).
(2)
في (غ): "يستدرك".
(3)
أي: مُحَصَّل من الوعيد.
(4)
في البرهان 1/ 223: "التمحيض".
(5)
في (ت)، و (ص)، و (غ):"مُوَعَّد". والمثبت من (ك)، وهو موافق لما في البرهان 1/ 223.
(6)
البرهان 1/ 223.
وحاصل هذا الذي اختاره حَمْلُ الصيغة على الاقتضاء والطلب، وقصار المستفاد منها من جهة اللسان الطلب الجازم، وكون هذا الطلب مُوَعَّدًا عليه شيءٌ آخر ثابتٌ في أوامر الشرع بالدليل الخارجي، فالوجوب مستفاد بهذا التركيب من
(1)
اللغة والشرع. فقد وافق القائلين بالوجوب، وإنْ كان قد خالفهم في هذا التركيب. ونقل المازَري
(2)
في "شرح البرهان" هذا الذي اختاره إمام الحرمين عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني وقال
(3)
: "إنه صَرَّح به وسبقه إلى اختياره، فأشار إلى أن الأمر يقتضي حصر المأمور على الفعل، فاقتضاه منه اقتضاءً جزمًا، ولكن إذا ثبت هذا مِنْ جهة اللسان ثبت بعده الوعيد".
وهذا الذي اختاره الشيخ أبو حامد وإمام الحرمين هو المختار عندنا
(4)
، فإن الوعيد لا يستفاد من اللفظ بل هو أمر
(5)
خارجي عنه،
(1)
في (غ)، و (ك):"بين".
(2)
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميميّ المازَرِيّ - نسبة لمازَر: بُليدة من جزيرة صِقِلِّيَّة، بفتح الزاي وقد تكسر، وصِقِلِّيَّة: جزيرة من جزر بحر المغرب مقابلة إفريقية - المالكيّ، الشيخ العلَّامة، والبحر المتفنِّن. قال القاضي عياض رحمه الله:"لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه منه، ولا أقْوَمُ بمذهبهم. . .". من مصنفاته: المُعْلِم بفوائد شرح مسلم، وشرح "البرهان" لأبي المعالي الجويني، وشرح "التلقين" لعبد الوهاب المالكي، وليس للمالكية كتاب مثله، كذا قال ابن فرحون، وغيرها. توفي رحمه الله. بمدينة المهديَّة من إفريقية سنة 536 هـ. انظر: سير 20/ 104، الديباج المذهب 2/ 250.
(3)
في (غ): "قال".
(4)
وكذا اختاره الزركشي في البحر 3/ 288، 289، وانظر: شرح المحلي مع البناني 1/ 376، 377.
(5)
سقطت من (غ).
ولكنا نقول: المنقول عن الشافعي أن الصيغة تقتضي الوجوب، ومراده الصيغة الواردة في الشرع؛ إذْ لا غرض له في الكلام في شيءٍ غيرها، ولم يصرح الشافعي بأن اقتضاءها للوجوب مستفادٌ منها، فلعله يرتضي هذا التركيب ويقول به، ويكون ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد وإمام الحرمين هو الذي ذهب
(1)
إليه إمامهما رضي الله عنه.
واعلم أن هذا المذهب المختار مغايرٌ للمذهبين اللذين حكيناهما عند حكاية القول بالوجوب: في أن ذلك هل هو بالشرع أو اللغة؟ فتصير المذاهب أربعة: الوجوب بالشرع، والوجوب باللغة، والوجوب بضم الشرع إلى اللغة، وعدمُ الوجوب.
فإن قلت: كيف يقال: بأن الوجوب مستفاد مِنْ وضع اللغة؟
قلت: هو بعيد، كما أشرنا إليه، ولكنه هو مذهب مُصَرَّح به، كما عرفت. وممن ذكره الشيخ أبو إسحاق
(2)
، والقاضي أبو بكر في "مختصر التقريب" لإمام الحرمين وقال:"إن الأكثرين من القائلين بأن الصيغة تقتضي الوجوب عليه، وأنه كذلك بأصل الوضع؛ لأنه قد ثبت في إطلاق أهل اللغة تسمية مَنْ خالف مطلق الأمر عاصيًا، وتقريعه وتوبيخه بالعصيان عند مجرد ذِكْر الأمر، ولا يستوجب التوبيخ إلا بترك واجب، فاقتضى ذلك دلالة الأمر المطلقِ على الوجوب"
(3)
.
(1)
سقطت من (ت).
(2)
وصححه، كما سبق بيانه. انظر: شرح اللمع 1/ 206.
(3)
انظر: التلخيص 1/ 269، بتصرف واختصار من الشارح.
وقال المازَري: "صَرَّح بعض أصحابنا بأن الوعيد مستفاد من اللفظ، كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم"، فقد ثبت هذا المذهب إلا أنه عندنا ساقط.
قال القاضي في "مختصر التقريب": "ولسنا نسلم أن
(1)
في إطلاق اللغة ما يقتضي أن مخالف الصيغة المطلقة المُعَرَّاة عن القرائن يُسَمَّى عاصيًا، ويستوجب التوبيخ. ونقول لهم: بمَ تنكرون على مَنْ يزعم أنهم وإن وَبَّخوا تارك الامتثال بسمة العصيان، فإنما وبخوه عند تركه امتثالَ أمرٍ شاهِدُ قرائنِ أحوالِ الأمر به - دالةٌ على اقتضاء الوجوب. فليس يمكنكم أن تزعموا أنهم يوبخون بالعصيان في الأمر المجرد عن القرائن". قال:"واسم الأمر يصدق على المجرد والمقتَرِن، فمن أين لكم أنَّ ما أطلقوه ينصَرف إلى الصيغة المطلقة؟ "
(2)
. قال: "ثم نقول على وجه التنزل: لسنا نسلِّم أن تثبيت
(3)
سمةِ العصيانِ وصفُ ذمٍ على الإطلاق؛ إذ قد يرد ذلك
(4)
في غير موضع استحقاق الذم، فإنك تقول: أشرتُ على فلانٍ بكذا فعصاني، وعصى مشورتي، و (إن لم تكن بمشورتك)
(5)
موجِبًا على من أشرت عليه"
(6)
.
(1)
سقطت من (غ).
(2)
أي: التي بدون القرائن.
(3)
في (ص)، و (ك)، و (غ):"يَثْبُت". والمثبت من (ت)، والتلخيص 1/ 270.
(4)
أي: إثبات سمة العصيان.
(5)
في (ص)"وإن لم يكن لمشورتك".
(6)
انظر: التلخيص 1/ 269، 270، مع تصرف من الشارح.
المذْهب السابع: أنها مشتركة بين الثلاثة، أعني: الوجوب، والندب، والإباحة. واختلف القائلون به: فقالت طائفة: بالاشتراك اللفظي، وقال آخرون: بالمعنوي، وكلام المصنف محتمل للأمرين.
الثامن: أنها مشتركة بين
(1)
الخمسة، أعني: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. وهو المشار إليه بقول المصنف:"وقيل: بين الخمسة" ومراده الأحكام الخمسة، فإن الإمام في "المحصول" هكذا حكاه
(2)
. هذه المذاهب المذكورة في الكتاب.
والتاسع: أنه
(3)
مشترك بين
(4)
الوجوب، والندب، والإباحة، والإرشاد، والتهديد. حكاه الغزالي
(5)
.
(1)
في (ص): "من". وهو خطأ.
(2)
انظر: المحصول 1/ ق 2/ 62، نهاية السول 2/ 252.
(3)
في (ص): "أنه أمر".
(4)
في (ت): "في".
(5)
انظر: المستصفى 3/ 132. ملاحظة: عبارة "المستصفى" المحال عليه: "فالوجوب، والندب، والإرشاد، والإباحة، والتهديد، خمسة وجوه محصَّلة. . . قال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر، كلفظ العين والقرء". والعبارة في نسخة المستصفى المطبوعة مع فواتح الرحموت 1/ 419:"فالوجوب والندب والإرشاد والإباحة أربعة وجوه محصلة. . . . وقال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر كلفظ العين والقرء". ويلاحظ أن النسخة الأولى - التي حققها الدكتور حمزة حافظ - سليمة من جهة ذكر الوجوه الخمسة، أي: ذِكْر الوجه الخامس وهو "التهديد" الذي سقط في النسخة القديمة، لكن كلا النسختين وقعتا في خطأ وهو عبارة:"قال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر. . ."؛ إذ الصواب: بين هذه الوجوه الخمسة. واسم الإشارة "هذه" إشارة إلى الخمسة المذكورة قريبًا، لا إلى الخمسة =
والعاشر
(1)
: أن أمر الله تعالى للوجوب، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للندب، إلا ما كان موافقًا لنصٍّ، أو مبينًا لمجمل. حكاه القاضي عبد الوهاب
(2)
في "الملخص" عن شيخه أبي بكر الأبهري، وكذلك حكاه عنه المازَري في "شرح البرهان"، وقال: "إن النقل اخْتَلَف عنه، فَرُوي عنه هذا، ورُوِي
= عشر وجهًا التي سبق ذكرها بعيدًا، والعبارة وردت في نهاية السول 2/ 252:". . . والغزالي في المستصفى فقال ما نصه: فالوجوب، والندب، والإرشاد، والإباحة، والتهديد، خمسة وجوه محصلة - ثم قال - فقال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة كلفظ العين والقرء. هذا لفظه وترتيبه"، ويوافق الإسنوي ابن السبكي في إحالته على الغزالي هذا القول، إذ لو لم نحذف كلمة "عشر" من مقولة الغزالي هذه، فليس هناك موطن آخر في المستصفى لإحالة هذا القول عليه، وهذا يؤكد أن لفظة "عشر" زائدة، وأن الصواب:"الوجوه الخمسة". وإنما نبهت على هذا الخطأ حتى لا يَعْترض معترض بأنَّ ما في المستصفى مخالف لما هنا، والله تعالى أعلم.
(1)
في (ت): "والعاشر أنها حقيقة في الطلب، مجازًا فيما سواه، قال الآمدي: وهو الأصح. الحادي عشر. . ." وهذه الزيادة خطأ، ولذلك لم ترد في باقي النسخ، وقد شطب عليها ناسخ (غ): واكتفى بالعبارة التي أثبتناها. وفيها مع الخطأ خلل، أما الخلل فلأنها سبقت في القول الخامس وهو الاشتراك المعنوي الذي يقول به أبو منصور الماتريدي. وأما الخطأ: لأن الآمدي رجح مذهب الواقفية كما سبق بيانه في القول السادس، فكيف يقول هنا عنه: إنه الأصح! انظر: الإحكام 2/ 145.
(2)
هو القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمد البغداديّ المالكيّ، الفقيه الحجة النظار المتفنن، الأديب الشاعر، من أعيان علماء الإسلام. ولد سنة 363 هـ. قال الخطيب:"وكان ثقةً ولم نلقَ من المالكيين أحدًا أفقه منه". من مصنفاته: النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، المعونة لمذهب عالم المدينة، الأدلة، الإفادة، التلخيص، وغيرها. توفي بمصر سنة 422 هـ. انظر: الديباج المذهب 2/ 26، تاريخ بغداد 11/ 31، حسن المحاضرة 1/ 314، شجرة النور الزكية ص 103، سير 17/ 429.
عنه موافقة مَنْ قال: إنه للندب على الإطلاق".
هذا ما حضرنا من المذاهب في هذه المسألة، وقد ادعى الإمام - إذ حكى الاتفاقَ على أن صيغة "افعل" ليست حقيقة في جميع المحامل المتقدمة - أن الخلافَ إنما وقع في أمور خمسة: الوجوب، والندب، والإباحة، والتنزيه، والتحريم
(1)
.
وأنت إذا تأملت ما حكيناه من المذاهب علمتَ أنَّ حَصْر الخلافِ في ذلك ليس بجيد.
قال: (لنا وجوه: الأول: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، ذُمَّ على ترك المأمور فيكون واجبًا).
استدل على ما ذهب إليه مِنْ أنَّ صيغة "افعل" حقيقةٌ في الوجوب بوجوه خمسة
(2)
:
الأول: قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}
(3)
ووجه الحجة منه: أن الصيغة وإنْ كانت صيغة استفهام، لكن الاستفهام غير مراد منها؛ لاستحالته على مَنْ يستحيل عليه الجهل، بل المراد منها الذم والتوبيخ، وأنه لا عذر له، في الإخلال بالسجود بَعْدَ ورود الأمر به، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما حسن الذم والتوبيخ.
(1)
انظر: المحصول 1/ ق 2/ 61، 62.
(2)
سقطت من (غ).
(3)
سورة الأعراف: الآية 12.
ورَدَّ الآمدي هذا الدليل: بأنه لا يلزم من كون هذا الأمر اقتضى الوجوب، أن يكون كلُ أمرٍ كذلك.
والجواب: أنه لا قائل بالفصل.
واعلم أن الشيخ أبا إسحاق في "شرح اللمع" أورد من جهة المعتزلة: أن ما ذكرتموه من الآيات يدل على أن أوامر الله ورسوله يدلان على الوجوب، ونحن لا ننازع في ذلك، إنما ننازع في مقتضى اللفظ لغةً.
وأجاب: بأنهم متى سَلَّموا ذلك حصل المقصود؛ إذِ المطلوب معرفةُ مقتضى أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وغرضنا من إيراد هذا السؤال: أنه قد يؤخذ منه أن المعتزلة، أو أن الشيخ أبا إسحاق اعتقد أنهم لا يخالفون في أن
(1)
أوامر الله وأوامر رسوله عليه الصلاة والسلام تقتضي الوجوب، وذلك عجيب؛ فإن النقل [عنهم]
(2)
بخلاف ذلك مُشْتَهر.
(1)
سقطت من (ت).
(2)
في جميع النسخ: "عنه"، والصواب ما أثبتناه؛ لأن المراد بيان خطأ هذا الاعتقاد، وأن النقل عن المعتزلة ومخالفتهم في ذلك مشتهرة، كما سبق بيان رأيهم وأنهم يحملون أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم -عند التجرد عن القرائن - على الندب. على أن الشيخ أبا إسحاق - رحمه الله تعالى - أجاب عن سؤال المعتزلة هذا بثلاثة أجوبة: الأول منها: ذكره الشارح رحمه الله تعالى. والثاني: قال فيه: "وجواب آخر: أن هذا ليس مذهبهم، فإن مَنْ يقول بالوقف يقول: إن الأمر لا يقتضي في الشرع ندبًا ولا إيجابًا، وإنما يُحْمل على أحدهما بدليل يتصل به. والمعتزلة تقول: إنه يقتضي في =
قال: (الثاني: {ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}. قيل: ذَمَّ على التكذيب. قلنا: (الظاهر أنه)
(1)
للترك، والويل للتكذيب. قيل: لعل قرينةً أوجبت. قلنا: رَتَّب الذمَّ على تَرْكِ مجرد افعل).
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}
(2)
، ووجه التمسك: أنه تعالى ذَمَّ أقوامًا على تَرْك ما قيل لهم فيه: "افعلوا"؛ إذ الآية بسياقها تدل على الذم، فلو لم تكن الصيغة للوجوب لما حَسُن ذلك.
وإنما قلنا: إن سياق الآية يدل على الذم؛ لأنه ليس المراد من قوله: {لَا يَرْكَعُونَ} الإعلام والإخبار؛ لأن ترك الركوع من المكذبين معلومٌ لكل أحد
(3)
، فيكون ذمًا لهم.
واعتُرض عليه بوجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أن الذم على ترك مقتضي الأمر، بل على تكذيب الرسل، ويؤيده قوله تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
(4)
.
= الشرع الندب، فأما الوجوب فلا يقتضيه وإنما يُحمل عليه. فلا يصح منهم هذا السؤال". انظر: شرح اللمع 1/ 208. فتبين بالجواب الثاني أن أبا إسحاق - رحمه الله تعالى - لا يعتقد هذا الاعتقاد الذي ذكره الشارح رحمه الله تعالى، وأعْجَبُ كيف فات على الشارح قراءة الجواب الثاني الذي فيه بيان معرفة أبي إسحاق أن هذا السؤال لا يصح من المعتزلة؛ إذ هو مخالف لمذهبهم، وإنما جوابه الأول على سبيل التنزل والتسليم، والسهو لا يكاد يسلم منه أحد.
(1)
في (غ): "إنه ظاهر".
(2)
سورة المرسلات: الآية 48.
(3)
في (ك): "واحد".
(4)
سورة المرسلات: الآية 49. (وفي النسخ: "فويل" وهو خطأ).
أجاب عنه: بأن الظاهر أن الذم على ترك مقتضي الأمر؛ إذْ رتَّب (الذم على الترك، والترتيب يشعر بالعِلِّيَّة، والويل على التكذيب، فحينئذٍ إما)
(1)
أن يكون المكذبون هم التاركين - فلهم الويل بسبب التكذيب، ولهم العقاب بترك المأمور به؛ إذ الكفار مأمورون بالفروع. وإما أن يكونوا غيرهم - فيجوز أن يستحق قوم الويل بسبب التكذيب، وآخرون العقاب بسبب ترك المأمور به. هذا تقرير
(2)
الجواب.
واعترض النقشواني على الاستدلال بالآية من وجه آخر، فقال: لا نسلم أنه ذمهم على ترك الركوع فقط، بل ذمهم على كونهم بحيث لو قيل لهم:{ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} ، والمراد به أنهم غير قابلين للإنذار ونُصْحِ الأنبياء، وغير ملتفتين إلى دعوتهم، قد انطوت جِبِلَّتُهم على ما يمنعهم من ذلك، والرجل قد يتصف بهذه السجية قبل أن يقال له: اركع، فلا يركع، ونحن معترفون بأن هذه المَلَكة مما يوجب
(3)
العذاب.
هذا اعتراضه، وهو ضعيف، وجوابه: ما ذكرناه من أن الظاهر أن الذم على ترك مقتضى
(4)
مدلول قوله: {ارْكَعُوا} ، وما ذكره خروج عن حقيقة اللفظ مِنْ غير دليل.
(1)
سقطت من (ت).
(2)
في (غ): "تقدير".
(3)
في (غ): "توجب".
(4)
سقطت من (ص).
والوجه الثاني: (وهو يتوجَّه)
(1)
على الدليلين المذكورين، هذا الذي نحن فيه، والذي تقدم، وتوجيهه: سَلَّمنا أن الذم على الترك، لكن لعل الأمر اقترنت به قرينة تقتضي إيجابه، فإن الصيغة إذا اقترنت بها قرينة صرفتها إلى ما دلت عليه إجماعًا.
أجاب عنه: بأنه رتَّب الذم على مجرد ترك المأمور به، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعِلِّيَّة، فيكون نفس الترك علةً
(2)
، وما ادعيتم من القرينة - الأصلُ عَدَمُه.
فإن قلت: هذا الاحتمال وإنْ كان على خلاف الأصل - فهو قادح في القطع
(3)
، والمسألة قطعية
(4)
.
قلت: أما مَنْ قال: إن المسألة ظنية كأبي الحسين البصري وغيره
(5)
- فيجيب بمنع كونها قطعية. وأما مَنْ قال: بأنها قطعيةٌ - فيجيبُ بأن كل واحد مما يُذْكر من الأدلة وإنْ كان لا يفيد القطع، لكن المجموع يفيده.
قال: (الثالث: تارك المأمور به مخالفٌ له، كما أن الآتي به موافق، والمخالف على صدد العذاب؛ لقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(6)
. قيل:
(1)
في (ت): "والذي يتوجَّه"، وفي (ص):"وهو يتجه".
(2)
في (ت): "علية".
(3)
في (ت): "المقطوع". (أي: المقطوع به).
(4)
لأن مسائل الأصول قطعية. انظر: نفائس الأصول 3/ 1247.
(5)
كالإمام. انظر: المحصول 1/ ق 2/ 107، نفائس الأصول 3/ 1248.
(6)
سورة النور: الآية 63.
الموافقة: اعتقاد حَقِّيَّة
(1)
الأمر، والمخالفة: اعتقاد فساده. قلنا: ذلك لدليل الأمر لا له. قيل: الفاعل ضمير، و {الَّذِينَ} مفعول. قلنا: الإضمار خلاف الأصل، ومع هذا فلا بد له
(2)
من مرجع قيل: {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ}
(3)
. قلنا: هم المخالفون، فكيف يؤمرون بالحذر عن أنفسهم! وإنْ سُلِّم فيضيع قوله:{أَنْ تُصِيبَهُمْ} . قيل: {فَلْيَحْذَرِ} لا يوجب. قلنا: يحسن وهو دليل قيام المقتضِي. قيل: {عَنْ أَمْرِهِ} لا يعم. قلنا: عام لجواز الاستثناء).
الدليل الثالث: أن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، ومخالفُ ذلك الأمر على صدد العذاب، فتارك المأمور به
(4)
على صدد العذاب.
إنما قلنا: تارك المأمور به مخالف للأمر؛ لأن موافقة الأمر هي الإتيان
(5)
بمقتضى الأمر. والمخالفة ضد الموافقة، فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه. فثبت أن تارك المأمور به مخالف.
وإنما قلنا: مخالف الأمر على صدد العذاب؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أَمَر
(1)
في (ت): "حقيقة". وهو خطأ؛ لأن الحقيقة يقابلها المجاز.
(2)
سقطت من (ص).
(3)
سورة النور: الآية 63.
(4)
سقطت من (ت).
(5)
في (ص): "الإيمان". وهو تحريف.
مخالفَ الأمرِ بالحذر عن العذاب، والحذر عنه إنما يكون بعد قيام المقتضِي لوقوعه، بدليل أنه يقبح
(1)
الأمر بالحذر عن الشيء بدون وجود المقتضي له، ألا ترى أنه يقبح أن يقال لمَنْ جلس تحت سقفٍ قوي غيرِ مائلٍ: احذر أن يقع عليك. ولا يقبح أن يقال ذلك لمَنْ جلس تحت سقف مائلٍ في مَعْرِض الوقوع؛ وما ذلك إلا لأن المقتضِي للوقوع قائم فيه. فلو لم يكن تَرْك المأمور به مقتضيًا لوقوع العذاب - لما حسن الأمر بالحذر عن العقاب. ولا معنى لقولنا: إن الأمر يقتضي الوجوب إلا ذلك. وفي هذا التقرير نظر سيأتي إن شاء الله تعالى.
واعترض الخصم بأربعة أوجه:
أحدها: مَنْع المقدمة الأولى، أي: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه وإنما هي اعتقاد حَقِّيَّته. يعني: كونه حقًا، مستوجبَ القبول. فالمخالفة: هي إنكار حقيته، يعني: اعتقاد أنه فاسد.
قلنا: هذا ليس موافقة للأمر
(2)
، بل موافقة للدليل الدال على حقية ذلك الأمر، وهو المعجزة الدالة على صدق الرسول، فاعتقاد
(3)
حقية الأمر موافقة الدليل، لا موافقة الأمر، فإن موافقة الشيء: عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه. فإذا دل الدليل على حقية الأمر كان الاعتراف بحقيته مستلزمًا لتقرير مقتضى ذلك الدليل والأمر لما اقتضى دخول
(1)
في (ص): "يصح". وهو تحريف
(2)
في (ت): "الأمر".
(3)
في (ت): "فاعتقاده".
فعل المأمور به في الوجود - (كانت موافقته عبارة عما يُقَرِّر دخولَه، وإدخاله في الوجود)
(1)
(2)
يقرِّر دخولَه، فكانت موافقة الأمر عبارة عن: فعل مقتضاه.
وثانيها: مَنْع المقدمة الثانية، وتقريره: لا نُسَلِّم أنه تعالى أمر المخالِف بالحذر، بل أمر بالحذر عن المخالِف، فيكون فاعل:{فَلْيَحْذَرِ} ضميرًا، و {الَّذِينَ} في محل النصب بأنه مفعوله
(3)
.
أجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن الإضمار خلاف الأصل.
والثاني: أن الضمير لا بد له من اسمٍ ظاهر يعود إليه، وهو مفقود هنا.
قال الخصم: لِمَ لا يعود على {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ} ! والتقدير: فليحذر الذين يتسللون منكم لِواذًا عن الذين يخالفون عن أمره.
أجاب (المصنف عنه)
(4)
بوجهين:
أحدهما: أن الذين يتسللون هم المخالفون، وذلك أن المخالفين لما ثقل عليهم المقامُ في المسجد وسماعُ الخطة لاذوا بمَنْ يستأذن للخروج، حتى إذا أُذِن له خرجوا معه من غير إذْن، فنزل قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
(1)
سقطت من (غ).
(2)
أي: إيجاده بفعل فاعل.
(3)
في (ت): "مفعول".
(4)
في (غ): "عنه المصنف".
مِنْكُمْ لِوَاذًا}
(1)
، وإذا كان كذلك - فلو أُمِر المتسللون بالحذر عن المخالفين لكانوا قد أُمِروا بالحذر عن أنفسهم، وذلك غير ممكن.
الثاني: أنا لو سلمنا أن مرجع (الضمير: {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ})
(2)
، كما ادعوه - لكان أمرًا للمتسللين بالحذر عن المخالفين، ويصير تقدير الآية حينئذ: فليحذر الذين يتسللون منكم لواذًا الذين يخالفون عن أمره
(3)
، فيضيع إذ ذاك قوله:{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ؛ لأن فاعل {فَلْيَحْذَرِ} حينئذ الضمير، والذين مفعوله، والحذر لا يتعدى إلى مفعولين حتى يكون {أَنْ تُصِيبَهُمْ} مفعولًا ثانيًا له
(4)
، فيصير حينئذ ضائعًا لا تَعَلُّقَ له بما قبله ولا بما بعده
(5)
.
(1)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية: "قال مقاتل بن حيان: هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة - ويعني بالحديث الخطبة - فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بعد ما يأخذ في الخطبة، وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل؛ لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته". تفسير ابن كثير 3/ 307. قال ابن الجوزي في زاد المسير 6/ 68: التسلل: الخروج في خفية. واللِّواذ: أن يستتر بشيءٍ مخافة مَنْ يراه.
(2)
في (غ): "الضمير للذين يتسللون".
(3)
فقوله: {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ} فاعل، و {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ} مفعول به.
(4)
سقطت من (ت).
(5)
يعني: فالصواب في الإعراب هو أن قوله: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ} فاعل، وقوله:{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} مفعول به، لأن أنْ وما دخلت عليه في تأويل مصدرٍ تقديره: إصابتهم.
فإن قلت: لم لا يكون مفعولًا
(1)
لأجله؛ إذ الحذر لأجل إصابة الفتنة، أو العذاب الأليم؟ !
(2)
قلت: لو كان كذلك لكان مجامعًا للحذر؛ لأن الفعل يجب أن يجامع علته
(3)
، واجتماعهما محال
(4)
. كذا أجاب به الشيرازي شارح الكتاب.
وقد قال الجاربردي الشارح أيضًا: يمكن أن يجاب عن قولهم أولًا: إن الفاعل ضمير يعود على المتسللين - بأنه لو كان كذلك لوجب إظهاره فيقال: فليحذروا؛ لأنه عائد على جمع
(5)
.
وثالثها: وهو اعتراض على المقدمة الثانية أيضًا، وتقريره: سلمنا أن
(1)
سقطت من (ص).
(2)
كذا قال القرافي واعترض به. انظر: نفائس الأصول 3/ 1236.
(3)
المفعول لأجله هو علة الفعل.
(4)
القاعدة في النحو: هو أنه لا بد أن يكون زمان الفعل والمفعول له واحدًا، مثل: ضربته تأديبًا، فالضرب والتأديب في وقت واحد. وهنا زمان الفعل وهو الحذر، وزمان المفعول لأجله: وهي إصابة الفتنة أو العذاب الأليم - ليسا في وقت واحد، بل لا يمكن اجتماع الحذر مع إصابة الفتنة أو العذاب الأليم؛ لما بينهما من التنافي، وعليه فلا بد أن يكون قوله تعالى:{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} مفعولا به ليحذر، وإلا كانت الجملة ضائعة لا تعلق لها بما قبلها ولا بما بعدها، وهو باطل. قال ابن مالك في المفعول له: وهْو بما يَعْمَلُ فيه متحدْ وقتًا وفاعلًا، وإنْ شَرْطٌ فُقِدْ انظر: شرح ابن عقيل 1/ 573.
(5)
عبارة الجاربردي كما في السراج الوهاج 1/ 454: "ويمكن أن يجاب عنه بوجه آخر لم يذكره المصنف: وهو أن الضمير في "فليحذر" مفرد، فكيف يجوز أن يعود إلى "الذين"؛ فإن ضمير المفرد لا يعود إلى الجمع". وقد سبق القرافيُّ الجاربرديَّ في هذا الجواب. انظر: نفائس الأصول 3/ 1276.
قوله: {فَلْيَحْذَرِ} أَمْر للمخالفين
(1)
بالحذر، وأنه لا ضمير في الآية، لكن لِمَ قلتم: إنه يوجب الحذر، وهل غاية ذلك إلا ورود الأمر به، واقتضاء الأمر الوجوب هو محل النزاع، فالاستدلال
(2)
بما ذكرتموه مصادرة على المطلوب
(3)
.
أجاب: بأنا لا ندعي وجوب الحذر من قوله: {فَلْيَحْذَرِ} ، وإنما ندعي أنه يفيد حُسْنَ الحذر عن مخالفة الأمر، وحُسْن الحذر دليل على قيام المقتضي للوقوع في المحذور
(4)
، وإلا
(5)
لكان الحذر عبثًا
(6)
.
ولقائل أن يقول: قد يحسن الحذر مع التردد في قيام المقتضي؛ لمجرد ذلك التردد، عملًا بالأحوط، كالدائر بين أمرين يتردد في اقتضاء أحدهما وقوع الضرر، ولا يتوقع ضررًا من الآخر، فإنه يحسن أن يحذر من الأول. والأمر متردد بين الوجوب وعدمه، فيحسن التحذير منه، ولو لمجرد
(7)
التنازع في مقتضاه
(8)
.
(1)
في (ص): "المخالفين".
(2)
في (ص): "والاستدلال".
(3)
أي: هذا الدليل ينبني على أن الأمر للوجوب، وهو محل النزاع، فالاستدلال به مصادرة على المطلوب.
(4)
وهو الوقوع في الفتنة أو العذاب الأليم.
(5)
أي: وإن لم يكن الحذر دليلًا على قيام المقتضي.
(6)
وذلك محال على الله تعالى، وإذا ثبت وجود المقتضي ثبت أن الأمر للوجوب؛ لأن المقتضي للعذاب هو ترك الواجب دون المندوب. انظر: نهاية السول 2/ 258.
(7)
في (ت): "بمجرد".
(8)
انظر: نفائس الأصول 3/ 1237.
ورابعها: أنا سلمنا صحة ما ذكرتم من المقدمتين، إلا أن قوله تعالى:{عَنْ أَمْرِهِ} في الآية المذكورة - لفظٌ مفرد، فيفيد أن أمرًا واحدًا للوجوب، لا أن كل أمر للوجوب.
أجاب: بأنه عام؛ لجواز الاستثناء، إذ يصح أن يقال: ليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا في الأمر الفلاني. ومعيار العموم جواز الاستثناء، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى. هذا شرح ما في الكتاب.
وقد اعترض النقشواني على الاحتجاج بالآية فقال: "الأمر" هنا بمعنى الشأن: وهو الاجتماع على محاربة الكفار؛ لأنه مذكورٌ
(1)
معرَّفٌ بالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذُكِر قبل هذا مُنَكَّرًا في قوله تعالى:{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}
(2)
، وذلك الأمر هو الشأن: وهو الاجتماع على المحاربة، وهو الذي دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه
(3)
، وكان بعضهم يتسلل لواذًا، فأراد بالمخالفة ههنا: الانحراف وهو التسلل لواذًا في المعنى، وإذا كان ذلك
(4)
محمولًا على الانحراف
(5)
استقام دخول "عن" فيه، فيقال: انحرف عن كذا. ولا يقال: ترك عن كذا. فإذا كان الأمر محمولًا على الشأن، والمخالفة على الانحراف - لم يبق
(1)
سقطت من (ك).
(2)
سورة النور: الآية 62.
(3)
سقطت من (ت).
(4)
سقطت من (ت).
(5)
أي: الفعل {يُخَالِفُونَ} محمول على الانحراف.
في الآية احتجاج على المقصود.
والإنصاف يُوجب حَمْلَ الأمر والمخالفة على ما ذكرنا؛ اتساقًا للكلام، ورعايةً على أصول العربية.
قال: (الرابع: تارك الأمور به عاصٍ؛ لقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}
(1)
، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}
(2)
. والعاصي يستحق النار؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}
(3)
. قيل: لو كان العصيانُ تركَ الأمر - لتكرر قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(4)
قلنا: الأول ماض أو حال، والثاني مستقبل. قيل: المراد الكفار بقرينة الخلود. قلنا: الخلود المكث الطويل).
الدليل الرابع: تارك المأمور به عاصٍ، وكل عاصٍ يستحق العقاب، فتارك المأمور به
(5)
يستحق العقاب. ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
بيان الأول: بقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} ، وقوله:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ، وكذا قوله:{وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}
(6)
، وما قدمناه من شعر العرب.
(1)
سورة طه: الآية 93.
(2)
سورة التحريم: الآية 6.
(3)
سورة الجن: الآية 23.
(4)
سورة التحريم: الآية 6.
(5)
سقطت من (ت).
(6)
سورة الكهف: الآية 69.
وبيان الثاني: بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، ومَنْ مِنْ صِيَغ العموم.
واعلم أن المصنف جعل الكبرى مهملةً
(1)
إذ قال: "والعاصي يستحق النار"، فلم يُسَوِّرها
(2)
بكل، وشَرْطها أن تكون كلية
(3)
، فالصواب في مصطلح القوم أن يقول: وكل عاص. كما أوردناه، وبه عَبَّر الإمام
(4)
.
واعترض الخصم بوجهين: أحدهما: أنا لا نسلم الصغرى: وهي أنَّ تارك المأمور به عاصٍ، وبيانه قوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(5)
، فلو كان العصيان عبارة عن ترك المأمور به - لكان قوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم} معناه: أنهم
(1)
القضية المهملة: هي ما كان موضوعها كليًا، وأُهْملت من السور. كقولك: الإنسان حيوان. انظر: حاشية الباجوري على السلم ص 48، إيضاح المبهم من معاني السلم ص 10.
(2)
السور: هو ما دلَّ على الإحاطة بجميع الأفراد أو بعضها في الحملية ككل وبعض، وما دلَّ على الإحاطة بجميع الأوضاع (أي: الأحوال الممكنة) أو بعضها في الشرطية ككلما. وسميت هذه الأدوات بالسور تشبيهًا لها بسور البلد المحيط بكلها أو ببعضها، بجامع الإحاطة في كل. انظر: حاشية الباجوري ص 48.
(3)
أيضًا: شرط المقدمة الكبرى أن تكون كلية حتى يتأتى اندراج المقدمة الصغرى فيها، ومن ثم تصح لنا النتيجة المكونة من الحد الأصغر والأكبر. كما قال الأخضري في "السلم": وما مِنَ المقدمات صغرى فيجب اندراجها في الكبرى انظر: شرح هذا البيت وما بعده في حاشية الباجوري ص 62، 63، إيضاح المبهم ص 12.
(4)
انظر: المحصول 1/ ق 2/ 91.
(5)
سورة التحريم: الآية 6.
يفعلون ما يؤمرون، وكان
(1)
قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} تكريرًا.
أجاب عنه: بأن التكرار إنما (يلزم أن لو)
(2)
كان: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} بالنسبة إلى زمان واحد
(3)
، وليس كذلك، بل لا يعصون للزمان الماضي والحال؛ لقرينة قوله:{مَا أَمَرَهُمْ} ، {وَيَفْعَلُونَ} للمستقبل؛ لقرينة قوله:{مَا يُؤْمَرُونَ} ، فتقدير الآية:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} في الماضي والحال، ويفعلون ما يأمرهم به في المستقبل. هذا تقرير الاعتراض وجوابه.
وهنا مناقشتان:
إحداهما: في قوله: "لو كان العصيانُ تَرْكَ الأمر"؛ وذلك لأن
(4)
النزاع إنما هو في أن تارك الأمر عاصٍ أمْ لا؟ لا في أن العصيان هل هو ترك الأمر أم لا؟ وكيف يقال ذلك والعصيان قد يقع بترك الفعل الذي يجب اتباعه
(5)
! فكان الصواب أن يقول: قيل: لو كان تارك الأمر عاصيًا.
والثانية: قوله: معنى الآية: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}
(6)
في الماضي،
(1)
في (ت)، و (غ)، و (ك):"فكان".
(2)
في (غ): "يلزم لو".
(3)
سقطت من (ت).
(4)
في (ت): "أن".
(5)
فالعصيان قد يكون بترك الأمر، وقد يكون بترك الفعل الواجب اتباعه، وقد يكون بارتكاب النهي وغير ذلك. انظر: نهاية السول 2/ 261.
(6)
سورة التحريم: الآية 6.
قال القرافي: "بعيدٌ من جهة أن النحاة نَصُّوا على أن "لا" لنفي المستقبل، واستعمالها بمعنى "لم" قليل مجازٌ
(1)
، فيجتمع المجاز في الفعل المضارع وفي "لا" أيضًا
(2)
، فكان الأحسن في الجواب أن يقال: لا نسلم التكرار، بل قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} إخبار عن الواقع منهم، أي: عدم المعصية دائمًا. وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} إخبار عن سجياتهم التي طُبعوا عليها، يعني: أن سجيتهم الطاعة
(3)
، فيكون أحدهما خبرًا عن الواقع منهم، والآخر خبر
(4)
عن السجية التي فطروا عليها فلا تكرار، والفعل المضارع قد كثر استعماله في الحالة المستمرة
(5)
، كقولهم: زيدٌ يُعْطِي ويَمْنع، ويَصِل ويقطع. وقول خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم:"إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتُعين على نوائب الدهر"
(6)
. أي: ذلك شأنك في كل وقت. وهو مجاز واحد
(1)
نحو قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} أي: لم يصدق. انظر: نفائس الأصول 3/ 1240.
(2)
أي: يجتمع على هذا التقدير مجازان: محاز إطلاق المضارع وإرادة الماضي، ومجاز إطلاق "لا" على نفي الماضي، وهي في الأصل لنفي المستقبل.
(3)
فهم يُلهمون الطاعة والتسبيح كما يُلهم أحدنا النَّفَس.
(4)
هكذا في النسخ، والصواب:"خبرًا".
(5)
أي: المستمرة في الماضي والحال والاستقبال.
(6)
أخرجه البخاري 1/ 504، في كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم 3. وخَرَّجه في مواضع أخرى مختصرًا ومطولًا. انظر الأرقام الآتية: 3212، 4670، 4672 - 4674، 6581. وأخرجه مسلم 1/ 139 - 142، في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 160.
في المضارع مشهور، فيكون أولى من مجازَيْن في الفعل والحرف، وأحدهما قليل جدًا
(1)
"
(2)
.
الوجه الثاني: أنا لا نسلم كلية المقدمة الثانية، ونقول: ليس المراد بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}
(3)
كلَّ عاصٍ، بل الكفار فقط، ويدل على ذلك قوله:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، فإن غير الكافي لا يخلد في النار.
أجاب عنه: بأن الخلود في اللغة: المكث الطويل الصادق على الدائم وغيره، وليس هو الدائم فقط، بل هو
(4)
حقيقة في القدر المشترك حذرًا من الاشتراك والمجاز
(5)
.
فإن قلت: فما تفعل في قوله: {أَبَدًا} ؟ .
قلت: لا ينافي ذلك؛ إذ قد يُطلق ويراد به المدة الطويلة، كما في قوله:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}
(6)
، والكفار يتمنون الموت في جهنم، ألا ترى إلى قولهم فيها:{يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
(7)
.
(1)
وهو استعمال "لا" لنفي الماضي.
(2)
انظر: نفائس الأصول 3/ 1239 - 1241، بتصرف من الشارح، وتقديم وتأخير.
(3)
سورة الجن: الآية 23.
(4)
سقطت من (ت)، و (غ).
(5)
أي: حذرًا من أن نطلق الخلود على الدائم وغيره بطريق الاشتراك، أو نطلقه على الدائم حقيقة وغيره مجازًا.
(6)
سورة البقرة: الآية 95.
(7)
سورة الزخرف: الآية 77.
ولقائل أن يقول: أما تفسير الخلود بالمكث الطويلِ - فخلاف
(1)
الغالب من استعمال الشرع، وحَمْلُ اللفظ على الغالب أولى
(2)
، لا سيما وقد أردفه بقوله:{أَبَدًا} وقولكم: إن {أَبَدًا} قد يستعمل في الزمن الطويل. قلنا: صحيح، ولكن قرينة اجتماعها معِ الخلود ينفي ذلك هنا، وإلا فكأنه قال: قاطنين فيها مكثًا طويلًا، زمنًا طويلًا. فيكون قد كرر اللفظ لمجرد
(3)
التأكيد الذي هو غير محتاج إليه هنا.
فإن قلت: التأكيد لا بد منه على التقديرين؛ لأنه إنْ أراد بالخلودِ الدائمَ، كما ذكرتم - فما أتى بقوله:{أَبَدًا} إلا للتأكيد.
قلت: التأكيد على تقدير إرادة الدائم - مناسبٌ
(4)
مناسبة شديدة؛ لأن المحكومَ به أولًا أعني: المكث الدائم - شيءٌ عظيمٌ يليق بخَطْبه التأكيد، فكان التأكيد دليلًا على ما قلناه: من أن المراد بالخلودِ: الدائمُ؛ للاحتياج إلى التأكيد والحالةُ هذه. ويدل على ذلك أيضًا من الآية قوله
(5)
: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}
(6)
، ولم يقل: فإنه يدخل نار جهنم، بل أتىِ بلام الاختصاص
(7)
(1)
في (ص): "بخلاف". وهو خطأ؛ لأن جواب "أما" الشرطية لا بد أن يقترن بالفاء.
(2)
وكذا قال القرافي. انظر: نفائس الأصول 3/ 1242.
(3)
في (ك): "بمجرد".
(4)
سقطت من (ت).
(5)
سقطت من (ت).
(6)
سورة الجن: الآية 23.
(7)
لام الاختصاص: هي الداخلة بين اسمين يدل كل منهما على الذات، والداخلة عليه لا يملك لآخر، وسواء أكان يملك غيره، أم كان ممن لا يَمْلك أصلًا نحو قولنا: =
والمِلْكِ الموضوعِ للدوام والبقاء، وصَدَّر الجزاء "بإنَّ" المؤكّدة للجزاء
(1)
، حيث قال:{فَإِنَّ لَهُ} ، ولم يقل: فله. ثم أكَّد ثانيًا عند ختام ذِكْر الجزاء بقوله: {أَبَدًا} ، ولم يبق علينا إلا أن الدائم لا يستحقه غير الكافر، والآية في العاصي
(2)
وهو أعم، إلا أن يكون هذا العام قد أريد به الخاص
(3)
.
وأما النقشواني فقال: ليس العصيان عبارة عن ترك الأمر فقط، بل عن ذلك مع زعم بطلان مقتضاه - وهو ترجيح جانب الفعل على الترك - أو عدم الإيمان بمقتضاه. (وهو معنى قوله تعالى في الملائكة:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}
(4)
أي: يجزمون بمقتضاه)
(5)
ويمتثلون، ويمتنع منهم عدم الإتيان بمقتضاه. قال: وكذلك في قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}
(6)
معناه: ما ذكرنا؛ لأن موسى عليه السلام يقول: أزعمت أن ما أشرتُ به عليك، وأمرتك به باطل غير سديد حتى تركته، وأراد أن يعاقبه. فكان جوابُ هارون عليه السلام: بأن تركي لم يكن بناءً على زَعْم البطلان، بل بناءً على مصلحةٍ أخرى. ثم إن موسى عليه السلام لما سمع ذلك
= الجنة للمؤمنين. وهذا الحصير للمسجد. انظر: مغني اللبيب، مع تعليق محمد محيي الدين 1/ 233.
(1)
في (ت) و (غ)، و (ك):"للجملة".
(2)
في (ص): "المعاصي". وهو خطأ.
(3)
أي: ذُكر العاصي وأُريد به الكافر.
(4)
سورة التحريم: الآية 6.
(5)
سقطت من (ت).
(6)
سورة طه: الآية 93.
قَبِل معذرته، وعلم أنه ليس بعاصٍ ما أمره به
(1)
مع
(2)
أنه كان تاركًا لما أمره. قال: ولو كان العصيان باقيًا لكان سبب
(3)
العقاب باقيًا، ولَمَا كان يَمْتنع عن عقابه بالعُذْر
(4)
الذي ذكره. قال: وبهذا استحق العاصي الخلود في النار بهذه الآية، وكان ضالًا ضلالًا مبينًا، بدليل قوله:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}
(5)
، وتَرْك المأمور به مع زعم صحة مقتضاه لا يوجب ذلك
(6)
.
هذا كلامه، وهو مدخول: أما قوله: العصيان: ترك الأمر مع زعم بطلان مقتضاه.
قلنا: هذا خلاف الشائع الذائع في اللغة العربية، ويلزم على هذا أن لا يطلق على مَنْ خالف أوامر الله ورسوله أنه عاص ما لم ينضم إلى ذلك هذا القَيْد، وهو واضح البطلان. وأما قوله:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}
(7)
فليس معناه إلا أنهم يمتثلون أوامره. وأما قضية هارون عليه السلام: فهو لم يعص أخاه موسى عليه السلام، وإنما موسى استفهمه لما رآه لم يفعل ما
(1)
سقطت من (ص).
(2)
سقطت من (ت).
(3)
في (ت): "تثبيت".
(4)
في (ص): "بالقدر". وهو خطأ.
(5)
سورة الأحزاب: الآية 36.
(6)
أي: لا يوجب الخلود في النار، ولا الضلال المبين، فدلَّ هذا على أن العصيان: هو ترك المأمور به مع زعم بطلان مقتضاه.
(7)
سورة التحريم: الآية 6.
أشار به كأنه يقول: ما كان
(1)
يمنعك من ذلك، هل عصيت أمري؟ فقال هارون: لا، ولكن المانع أني خشيت أن تقول: فرقت بين بني إسرائيل. فقبل موسى عليه السلام عُذْره، وعَلِم أنه لم يعصه لا باعتقاد بطلان مقتضى أمره، ولا بالمخالفة؛ لأن أمره لم يكن مطلقًا، بل مقيدًا بعدم المانع، وإن لم يكن التقييد موجودًا في اللفظ، كما تقول لوكيلك: اشترِ اللحم. ثم تقول: ما منعك من شرائه، هل عصيت أمري؟ فيقول لك: لا، بل كان السوق غيرَ قائم
(2)
، أو اللحم
(3)
غير موجود. والله أعلم.
قال: (الخامس: أنه عليه السلام احتج لذم أبي سعيد الخدري على ترك استجابته وهو يصلي - بقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}
(4)
).
(1)
سقطت من (ت).
(2)
لو قال: غير قائمة - لكان أحسن. قال في المصباح 1/ 317: والسوق: يذكر ويؤنث، وقال أبو إسحاق: السوق التي يباع فيها مؤنثة، وهو أفصح وأصح، وتصغيرها سويقة، والتذكير خطأ؛ لأنه قيل: سوق نافقة، ولم يسمع نافق، بغير هاء، والنسبة إليها سوقيّ، على لفظها، وقولهم: رجل سوقة ليس المراد أنه مِنْ أهل الأسواق، كما تظنه العامة، بل السوقة عند العرب: خلاف المَلِك. اهـ. ونقل صاحب اللسان عن ابن سِيده أنه يُذكَّر ويؤنث، ولم يَنْقل ترجيحًا للتأنيث. انظر: اللسان 10/ 167، مادة (سوق).
(3)
في (غ): "واللحم".
(4)
سورة الأنفال: الآية 24.
الدليل الخامس: ما رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد وهو في الصلاة فلم يجبه، فقال: ما منعك أن تجيب وقد سمعت الله يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}
(1)
، وهذا الاستفهام ليس على حقيقته؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم أنه في الصلاة، فدلَّ على أنه لمجرد الذم والتوبيخ، ولولا اقتضاء الأمر للوجوب لما كان ذلك.
وقد وقع في الكتاب أن أبا سعيد هذا هو الخدري، وكذا
(2)
وقع في "المحصول" وغيره من كتب الأصول
(3)
ظنًا من مصنفيها
(4)
أنه لا أبو سعيدٍ في الصحابة إلا الخدريُّ، وهذا الظن نشأ لهم من شهرة (أبي سعيد)
(5)
الخدري وعدم طروق ذِكْر غيره على أسماعهم، وأبو سعيدٍ هذا إنما هو ابن المعلى
(6)
وليس هو بخدري، والقرافي رحمه الله نبه على ذلك،
(1)
انظر: صحيح البخاري 4/ 1623، كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، حديث رقم 4204، وفي باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، رقم الحديث 4370، وانظر الأرقام 4426، 4720. وأخرجه أبو داود في سننه 2/ 150، كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب 1458. والنسائي في سننه 2/ 139، كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، رقم 913. وابن ماجه في سننه 2/ 1244، كتاب الأدب، باب ثواب القرآن رقم 3785.
(2)
في (ت): "وكذلك".
(3)
انظر: المحصول 1/ ق 2/ 101، المعتمد 1/ 67، الإحكام 2/ 147، المستصفى 3/ 151.
(4)
في (ص)، و (ت):"مصنفها".
(5)
سقطت من (ص)، و (غ)، و (ك).
(6)
هو أبو سعيد بن المُعَلَّى الأنصاريّ المدنيّ، يقال: اسمه رافع بن أوس بن المعلَّى. =
ومن كتبه استفدناه
(1)
، وهو صحيح. وقد سألت شيخنا الحافظ الذهبي رحمه الله: هل رُوي هذا الحديث من طريق الخدري في شيء من الكتب والأجزاء؟ فقال: لا.
ووقع الحديث في بعض الكتب منسوبًا إلى أُبيِّ بن كعب، وليس بجيد أيضًا
(2)
. وقد نجزت الدلائل الخمس، وهي إنما تفيد عند
(3)
ثبوتها أن
= وقيل: الحارث بن أوس بن المعلَّى. ويقال: الحارث بن نفيع الخزرجيّ. روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. مات سنة 73 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب 12/ 107، تقريب ص 644.
(1)
انظر: نفائس الأصول 3/ 1247. قلت: هذا يدل على أن الشارح رحمه الله نقل الحديث من غير مراجعة صحيح البخاري، بل لعله ذكره من حفظه أو من كتب الأصول، وإلا لو راجع الصحيح لعلم أن اسم أبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه مصرَّح به في الرواية، وكذا في جميع كتب الحديث التي أخرجت هذه الرواية. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "نسب الغزالي والفخر الرازي وتبعه البيضاوي هذه القصة لأبي سعيد الخدري، وهو وهم، وإنما هو أبو سعيد بن المعلى".
انظر: الفتح 8/ 157. قلت: لينظر طالب العلم كيف كان اطلاع المحدثين الفقهاء كابن حجر رحمه الله تعالى على كتب الأصول، وحرصهم على التعمق فيها؛ إذ لا يستحق لقب الفقيه من لم يتعمق في هذا الفن الوصل إلى علم الدراية، كما أن علم المصطلح موصل إلى علم الرواية، وليقارن هؤلاء المُحدِّثين، ببعض من انتسب إلى الحديث في هذا الزمان، وهجر كتب الأصول، وليس له فيها فهم إلا يسير لا يغني ولا يكفي، ثم تصدى للترجيح، ودعا إلى الأخذ بالدليل، ولو علم هذا حق العلم ما هو فيه من القصور لعلم أن دعواه ما هي إلا جناية على الشريعة، إذ أَخْذ الدليل بغير وجه صحيح يدخل في تحريف الكلم عن مواضعه، وما ضَلَّ من ضلَّ إلا بسبب هذا، فالله المستعان والمسؤول أن يلهمنا الصواب، ويسلك بنا طريق السنة والكتاب.
(2)
انظر: فتح الباري 8/ 157، تفسير ابن كثير 1/ 9.
(3)
سقطت من (ص).
الأوامر الصادرة من
(1)
الشارع للوجوب، لا أنها حقيقة في الوجوب بأصل الوضع، كما هو المدعى، فلا بد من إقامة الدليل على أنها في اللغة كذلك، لكن لما كان الغرض المهم معرفة مدلولات أوامر الشارع - خُصَّ الاستدلال بها. وقد قدمنا أن المختار عندنا ما ذهب إليه إمام الحرمين، وليس الشَرْحُ موضعَ تقريره والذبِّ عنه.
قال: (احتج المخالف بأن الفارق بين السؤال والندب هو
(2)
الرتبة، والسؤال للندب فكذا الأمر. قلت: السؤال إيجاب وإن لم يتحقق).
ذكر المصنف لبعض المخالفين دلائل، أولها لأبي هاشم القائل: بأن الأمر للندب لا جرم أن في
(3)
بعض النسخ: "احتج أبو هاشم"، لكن ذلك غير مستقيم؛ لأن الثالث والثاني على أحد التقريرين
(4)
- كما سيأتي إن شاء الله تعالى - لا تعلق لها بأبي
(5)
هاشم
(6)
.
(1)
في (ت): "عن".
(2)
في (ت) و (ص): "وهو".
(3)
سقطت من (ت).
(4)
في (ت)، و (غ):"التقديرين".
(5)
في (ص): "لأبي".
(6)
قال الإسنوي: "ذكر المصنف هنا أدلة ثلاثة، واختلف النسخ في التعبير عن المحتج بها، ففي أكثرها: احتج أبو هاشم. . .، وهو غير مستقيم؛ لأن الثالث لا يطابق مذهبه، ولا الثاني، على أحد التقريرين الآتيين. وفي بعضها: احتج المخالف. وهو صحيح مطابق لتعبير الإمام. وفي بعضها: احتجوا. وهو قريب مما قبله، وهما مِنْ إصلاح الناس". نهاية السول 2/ 263، 264.
وتقرير ما احتج به أبو هاشم: أنه لا فارق بين السؤال والأمر إلا الرتبة، فإن رتبة الآمِر أعلى مِنْ رتبة السائل، والسؤال للندب فكذلك
(1)
الأمر؛ لأن الأمر لو دل على شيء غير الندب من إيجاب أو غيره - لكان بينهما فرقا آخر، وهو خلاف ما نقلوه. هذا تقرير الاحتجاج وقد يعبِّر بعض الشارحين: بأن الأمر لو دل على الإيجاب
(2)
. وهي عبارة صحيحة في الرد على القائلين بالوجوب، إلا أن أبا هاشم لم يأت بهذا الوجه لإبطال مذهب الوجوب، بل لتقرير مذهبه، فكان الأحسن أن يقال: بأن الأمر لو دل على شيء غير الندب، كما أوردناه، ولا يَخُصُّ الوجوب بالذكر.
وأجاب المصنف: بأن
(3)
السؤال من
(4)
حيث الوضع يدل على الإيجاب أيضًا؛ لأن صيغةَ "افعل" عند القائل بأنها للإيجاب - موضوعةٌ لوجوب الفعل مع المنع من الترك، وقد استعملها السائل، لكن لا يلزم من السؤال الوجوب؛ إذِ الوجوب حُكْم شرعي يستدعي إيجاب الشرع
(5)
، ولذا لا يلزم المسؤول القبول.
فإنْ قلت: إذا دلَّ السؤال على الإيجاب لزم افتراقهما من وجه آخر؛ إذ إيجاب الأمر يدل على الوجوب بخلاف إيجاب السؤال.
(1)
في (ت): "فكذا".
(2)
يعني: بدل قوله: لو دل على شيء. . . إلخ.
(3)
في (ص): "أن".
(4)
سقطت من (ت).
(5)
أي: الوجوب لا يثبت إلا بالشرع.
قلت: إيجاب الأمر أيضًا غير مستلزمٍ للوجوب؛ لجواز أن يوجد بدون الوجوب، كما إذا أمر السيدُ عبده بما لا يقدر عليه حسًا أو شرعًا
(1)
.
وقد أجاب الإسفراييني أحد شراح هذا
(2)
الكتاب عن السؤال: بأن المَعْنى بكون الفارق بينهما هو
(3)
الرتبة: هو كون إيجاب الأمر يقتضي الوجوب بخلاف السؤال. وهذا فيه نظر، إذ هما مدلولان متغايران
(4)
.
على أنَّ هذه المباحث كلَّها إنما هي على تقدير ثبوت اعتبار الرتبة حتى تكون فارقة، لكنها عند المصنف غير معتبرة؛ إذ العلو والاستعلاء لا يُعْتبران كما تقدم، فالذي أجاب به المصنف على تسليم ثبوت الفرق
(5)
، نعم الفرق بين السؤال والأمر عنده فَرْقُ ما بين العام والخاص، فإن السؤال أمرٌ
(1)
مثال الحسي أن يقول: ارفع هذا الحَجَر. ومثال الشرعي أن يقول: اشرب هذا الخمر، أو: كل هذا الخنزير.
(2)
سقطت من (ت)، و (غ).
(3)
سقطت من (ص).
(4)
أي: مدلول الإيجاب غير مدلول الوجوب، فلا يلزمه من ثبوت الإيجاب في الأمر ثبوت الوجوب، فالإيجاب يثبت بالصيغة، والوجوب له شروط غير الصيغة حتى يثبت.
(5)
فجواب المصنف التحقيقي على دليل أبي هاشم: هو أن يقول: أنا لا أسلم لك بالفرق بالرتبة بين السؤال والأمر؛ إذ الصحيح عندي أنه لا يُشترط في الآمر علو ولا استعلاء.
صادر بتذلل، والأمر أعم
(1)
.
وأما قول بعض الشارحين: قد يترتب الوجوب على السؤال، كسؤال المضطر
(2)
، وقد لا يترتب. وقد يترتب على الأمر وهو ما إذا كان صادرًا ممن هُوَ له
(3)
، و
(4)
كان مقدورًا للمكلف، وقد لا يترتب
(5)
ففي
(6)
تمثيله لترتب الوجوب على السؤال بحالة الاضطرار - نظر؛ لأن وجوبَ إطعام المضطر ليس لسؤاله، بل لكونه مضطرًا، حتى لو لم يَسْأل وعُرِف أنه مضطرٌ وَجَب إطعامُه مِنْ غير سؤال.
قال: (وبأن الصيغة لما استعملت فيهما، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل - فيكون حقيقةً في القدر المشترك. قلنا: يجب المصير إلى المجاز؛ لِمَا بَيَّنا من الدليل).
احتج مَنْ ذهب إلى أن الصيغة موضوعةٌ للقدر المشترك بين الوجوب
(1)
يعني: سواء بتذلل أو بغير تذلل، كقولنا: اللهم اغفر لي. وقول السيد لعبده: اسقني. فكلاهما أمران، لكن السؤال لا بد فيه من التذلل، فقولنا: اللهم اغفر لي - سؤال وأمر؛ لأن صيغة الأمر فيه موجودة، وقول السيد لعبده: اسقني - أمرٌ لا سؤال.
(2)
كعطشان مثلًا.
(3)
أي: ممن له الأمر، كأمر السيد لعبده.
(4)
سقطت الواو من (ت).
(5)
أي: قد لا يترتب الوجوب.
(6)
في (ص): "وفي". وهو خطأ؛ لأن جملة "ففي تمثيله. . ." جواب الشرط وهو قوله: وأما قول بعض الشارحين.
والندب: بأنها وردت للوجوب تارة، وللندب أخرى، فوجب أن تكون حقيقةً في القدر المشترك بينهما: وهو رجحان الفعل على الترك، وإلا فإن كان حقيقة فيهما لزم الاشتراك، أو في أحدهما (لزم المجاز، وهما)
(1)
على خلاف الأصل.
ويمكن أن يُقَرَّر هذا الدليل على وجه آخر، يصير به دليلًا لأبي هاشم على أنه
(2)
حقيقة في الندب، وذلك بأن تزيد على ما ذكرنا: أن هذه الصيغة
(3)
دالةٌ على أصل الرجحان، وجواز الترك ثابت بمقتضى البراءة الأصلية التي لم يوجد ما يزيلها، فرجحان وجود الفعل مع جواز الترك ثابت حينئذ، ولا نعني بالندب إلا ذلك
(4)
.
والجواب: أنا قد بَيَّنَّا أن الأمرَ حقيقةٌ في الوجوب، كما سبق، فالمصير
(5)
إلى كونه مجازًا في الندب وغيره من الموارد واجب؛ لئلا يلزم
(1)
في (ص): "لزم المجاز فيهما". وهو خطأ.
(2)
سقطت من (ت).
(3)
أي: صيغة الأمر.
(4)
قال الإسنوي مبينًا هذا التقرير الثاني بعبارة أوضح: "التقرير الثاني: وهو تقرير الإمام وأتباعه كلهم، أَنْ نضم إلى التقرير الأول زيادةً أخرى، فنقول: والدَّال على المعنى المشترك وهو الأعم - غيرُ دالٍ على الأخص، فيكون لفظُ الأمر غيرَ دالٍ على الوجوب ولا على الندب، بل على الطلب. وجواز الترك معلوم بالبراءة الأصلية. فتحصلنا على طلب الفعل مع جواز الترك، ولا معنى للندب إلا ذلك". نهاية السول 2/ 269.
(5)
في (ك): "والمصير".
الاشتراك، والمجاز أولى منه.
واعلم أن التقرير الأول هو الأقرب إلى كلام صاحب الكتاب، والثاني هو ما أورده الإمام وفيه نظر
(1)
؛ لأن كوننا لا نحكم عليه (بالوجوب للبراءة الأصلية غير جَعْلنا إياه حقيقة في الندب، وحُكْمنا عليه) بعدم
(2)
الوجوب لا يقتضي أنه حقيقةٌ في الندب
(3)
.
قال: (وبأن تَعَرُّفَ مفهومِها لا يكون بالعقل، ولا بالنقل؛ لأنه لم يتواتر، والآحاد لا تفيد القطع. قلنا: المسألة وسيلة إلى العمل فيكفي فيها الظن، وأيضًا يتَعَرَّف بتركيب عقلي من مقدمات نقلية كما سبق).
احتج مَنْ ذهب إلى التوقف
(4)
: بأنه لو ثبت في أحدها
(5)
لثبت بدليلٍ؛ لامتناع
(6)
إثبات اللغة بالتشهي، وذلك الدليل إما عقلي، أو نقلي.
والأول: لا يمكن؛ إذ لا مجال للعقل في اللغة.
والثاني: إما متواتر وهو منتف، وإلا لكان ضروريًا
(1)
مع كونه بعيدًا عن كلام المصنف.
(2)
في (ص): "بعد". وهو خطأ.
(3)
سقطت من (ت).
(4)
في (ص): "الوقف".
(5)
في (ص): "أحدهما": "إحداهما". وهو خطأ؛ لأن الضمير يعود على معاني الأمر، وما هو الحقيقي منها.
(6)
في (ت): "الامتناع". وهو خطأ.
حاصلًا لكل أحد من هذه الطوائف، وكان النزاع يرتفع
(1)
من بينهم.
وإما آحاد وهي لا تفيد القطع، إنما تفيد الظن، وهو في المسائل العلمية غير كاف، والمسألة علمية؛ إذ هي من قواعد أصول الفقه، ولم يُجِز الشارع العمل بالظن في أصول الفقه، كما نقله عن العلماء قاطبة الأبياري
(2)
شارح "البرهان"، حكاه عنه القرافي
(3)
، وإنما ذلك للاهتمام بالقواعد، وإذا انتفت طرق المعرفة تَعَيَّن الوقف.
وهذا الذي نقله الأبياري رأيته في كلام القاضي في "مختصر التقريب والإرشاد" في غير موضع
(4)
.
أجاب بوجهين:
أحدهما: أن هذه المسألة وسيلة إلى العمل فيكفي فيها حصول الظن،
(1)
في (غ): "مرتفع".
(2)
هو أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن عليّ الأَبْياريّ - نسبة لأَبْيار: مدينة بمصر على شاطئ النيل بينها وبين الإسكندرية أقل من يومين - المالكيّ، أحد العلماء الأعلام، وأئمة الإسلام، برع في علوم شتى: الفقه، والأصول، والكلام. ولد سنة 557 هـ. من مصنفاته:"شرح البرهان" لأبي المعالي الجويني، "سفينة النجاة" على طريقة إحياء علوم الدين والبعض يفضله عليه، وغيرها. توفي رحمه الله سنة 616 هـ.= = انظر: الديباج المذهب 2/ 121، حسن المحاضرة 1/ 454، شجرة النور الزكية 1/ 166.
(3)
انظر: نفائس الأصول 3/ 1247، 1270.
(4)
انظر: التلخيص 1/ 277، 395، 430، 498 - 499.
كما يكفي حصول الظن في مقاصدها، أعني: العمليات.
وحاصل هذا الجواب: مَنْعُ كون المسألة علمية
(1)
. (وقد اختلف الأصوليون في أن
(2)
هذه المسألة ظنية أو يقينية)
(3)
(4)
.
والثاني: أنَّ هذا الحصر ممنوعٌ، وسند المنع أنه يجوز أن يُعْرف بدليلٍ مركب من العقلي والنقلي، كما سبق في الدليل الرابع: أن تارك المأمور به عاص، وكل عاصٍ يستحق النار. يُنتج العقلُ من هاتين المقدمتين النقليتين
(5)
: أن تارك المأمور به يستحق النار
(6)
، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
وكما سبق أيضًا في الدليل الثالث: وهو أن
(7)
تارك المأمور به مخالفٌ، وكل مخالف معذب، فتارك المأمور به معذب.
وكما سبق في باب اللغات: الجمع
(8)
المحلَّى بالألف واللام
(9)
يدخله
(1)
لأن المقصود من كون الأمر للوجوب إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاده، والعمليات مظنونة يُكتفى فيها بالظن، فكذلك ما كان وسيلة إليها. انظر: نهاية السول 2/ 270، نهاية الوصول 3/ 913.
(2)
سقطت من (غ).
(3)
في (ت): "وقد اختلف الأصوليون في هذه المسألة أظنية أو يقينية".
(4)
انظر: المحصول 1/ ق 2/ 107، 158، نهاية السول 2/ 270، السراج الوهاج 1/ 462، البحر المحيط 3/ 293، نهاية الوصول 3/ 913.
(5)
سقطت من (ت).
(6)
في (ص)، و (غ)، و (ك):"العقاب".
(7)
سقطت من (ص)، و (غ)، و (ك).
(8)
في (ت): "في الجمع".
(9)
كالرجال، والمسلمين، والمسلمات.
الاستثناء، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فيدل على أن الجمع المحلى للعموم.
فقول المصنف: "كما سبق" يحتمل عَوْدُه إلى كل واحدٍ من هذه الثلاث.
وقد أجيب عن هذا الدليل بجواب ثالث: وهو التزام حصوله بالتواتر، ولا يلزم منه رفع الخلاف؛ لأنه إنما يلزم ذلك أن لو كان العقلي هنا ضروريًا، لكنه نظري، فيحتمل أن يصل إلى بعضهم بكثرة المطالعة في كلامهم وتواريخهم، ولا يصل إلى الآخَر لعدمِ أو قلةِ اشتغاله بذلك.
وأجاب بعضهم: بأن ما ذكره المتوقف من الدليل لازمٌ عليه؛ وذلك لأن العقل لا يقتضي الوقف، والنقل القطعي غير متحقِّقٍ، والظني لا يفيد
(1)
، فما كان جوابه فهو جوابنا
(2)
. لكن في هذا نظر؛ إذِ المتوقف لم يحكم بشيء فلا دليل عليه.
واعلم أن المنع الثاني الذي ذكره المصنف
(3)
قَدَّمه الإمام على الأول
(4)
، وهو أولى على قاعدة أهل النظر مما فعله المصنف، فكان ينبغي أن يقول: لا نسلِّم الحصر، سَلَّمنا نختار معرفته بالآحاد.
(1)
أي: النقل القطعي غير متحقق في الوقف، والنقل الظني في الوقف لا يفيد.
(2)
ذكر هذا الجوابَ الشيرازيُّ في شرح اللمع 1/ 212، والتبصرة ص 32، 33.
(3)
وهو منع حَصْر معرفة معنى الأمر في العقل أو النقل.
(4)
انظر: المحصول 1 / ق 2/ 157، 158.